من الطبيعي بعد أية ثورة في أي زمان أو مكان تظهر فئة مناوئة تسير ضد التغيير، وهى فئة لها مبرراتها التي تسوغ لها دائما العمل ضد مصلحة أوطانها، ومن الطبيعي أن أصحاب المصالح في مصر لا يهمهم التغيير الذي يتهدد نفوذهم، وأصحاب المصالح ليسوا دائما من رجال الأعمال، أو من طبقة النظام الحاكم الذي انمحى ، بل من الجائز أن تكون من فئة المماليك الذين كانوا يخدِّمون على النظام السابق. ولا أظن أن النظام السابق الذي حكم مصر 30 عاما كان بغير مماليك، أعطاهم سلطة محدودة، وأتاح لهم العمل بحرية فوق رقاب الشعب، ولعل من ضمن هؤلاء المماليك من كان يعمل في قطاعات الإعلام والثقافة، ومنهم من كان ينتهج العمل السياسي كمعارضة طرية، كانت أخطر أثراً من الحزب الوطني الفاسد. وأحياناً كان مصطلح "النخبة" يشير إلى هؤلاء المماليك، خاصة أن الشعب لم يكن هو الذي يختار نُخَبه، بل كان النظام السابق هو من يُرسِّم النخبة ويسميها، ويعطيها صلاحيات تواجدها وحدود عملها. يسرني دائما أن أجد مصر بلدي في قمة مجدها وعزها، مجددة مجدها العريق كأمة لها كيانها في التاريخ الإنساني، والذين يسرهم هذا كثيرون من أبناء مصر الأوفياء لوطنهم، هؤلاء الذين يعتزون بمصريتهم، وبسمعة بلدهم، ويسعون بالفعل والقول والسلوك الإنساني إلى نهضتها وتحسين سمعتها واقتصادها. ولعل أبسط أنواع العمل الوطني هو الكف عن تعكير الجو العام ، وعدم تعطيل مسيرة التقدم إلى الأمام، وعدم المساهمة في ضعضعة سمعة مصر، وعرقلة تحسين اقتصادها... إنها المساهمة السلبية وهذه أضعف أنواع المساهمات. أما أن يتحول المصري إلى النقيض فهو لاشك من الخائنين الذين لا يستحقون الحياة فوق تراب هذا الوطن، ويتساوى فعله مع ما يصنعه الجواسيس والأعداء بهذا الوطن. ما أكثر المواطنين الأعداء، وهم إما من المتاجرين بالقضايا، أو مرضى نفسيون سيكوباتيون، أو أنهم مغفلون بالفطرة، أو مستلبة عقولهم بفعل غسيل المخ المركز من قبل عناصر أبوية تعمل لمصلحتها فقط، أو من المأجورين الذين تحركهم شهوة المال. الذين هربوا إلى الخارج بأموالهم المنهوبة مصريون، ولكن لا نحسبهم إلا خائنين، والذين يطلقون الإشاعات ضد مصر في الداخل والخارج ، وضد نظامها السياسي المنتخب خائنون، والذين يتسلون بتوافه الأمور لأغراض أيديولوجية أو عرقية ويتركون اللباب خائنون، وكذلك من يساهم في بلبلة أفكار الناس بغرض عرقلة الهدوء والاستقرار يتساوى معهم ؛ وكذلك من يسعي إلى التواجد من خلال خالف تُعرف، وكذلك المأجورون بمليارات الخونة الذين باعوا البلد وهرَّبوا ثمنها، وما أكثر من ربَّاهم النظام السابق على النهب والرشاوى والمتاجرة بأي شيء من الأرض إلى العِرض. ولا أظن أن هؤلاء قضت الثورة عليهم أو على نوازعهم وشرورهم ونشاطهم، ولا أظن أنهم جميعاً هربوا إلى الخارج، ولا أظن أنهم جميعا ابتعدوا عن الإدارة ، أو غادروا جميعا الحياة السياسية. إن الخونة الفاسدين الذين هرب إلى الخارج ليسوا أقل خطراً على مصر ممن لم يهربوا بعد، لأن أموالهم وخططهم هي التي تتحرك سواء كانوا في الخارج أم في الداخل.. ولا أظن أن أيتام النظام وربائبه ممن لا يزالون ينفثون سمومهم في المجتمع، ومعظمهم كان يتواجد في صفوف المعارضة كصحفيين أقل خطراً منهم. والحقيقة أن صحفهم كانت تُطبع في مباحث أمن الدولة وبإشرافها وتوجيهها. ولا أظن أن قنوات إعلامية لمعتوهين استمرت في عهد النظام السابق يمكن أن تمثل المرحلة الحالية تمثيلا صحيحاً، ولا أظن أن أحزاب ما قبل الثورة برجالها وخطها وسمعتها المشوهة في مماينة النظام يمكن أن تمثل المرحلة تمثيلا صحيحا. نخلص إلى أن حياتنا ليست نظيفة من ربائب النظام السابق وأيتامه ومماليكه، وليست تعد نظيفة من المتاجرين بالوطن وقضاياه، والمؤدلجين الذين يكسبون لقمتهم من خلال مزاعم نخبوية يدعونها، وهرطقات ومحاضرات وندوات وإعلاميات. ولا أظن أن النخبة التي كانت تعمل أيام مبارك قد تغيرت، وهي نخبة لم ينتخبها أحد غير نظام مبارك، وهو نفس النظام الذي أتاح لها التواجد خدمة لمراميه السياسية، حتى انقلب السحر على الساحر بعد ظهور مشروع التوريث. ولذلك نحن بحاجة إلى تنظيف الوطن, ونظافة الوطن تبدأ بالتطهير الثقافي والإعلامي أولا، قبل التطهير الأمني أو الإداري.. وهي مسئولية مشتركة يجب ألا نترك تبعتها على الحكومة فقط، بل على الأحرار من مثقفي هذا الوطن أن يتحركوا بالفعل أو القول نحو وطننة الثقافة، ونحو ترسيم معالم جديدة لسلوكيات حضارية لمحو آثار التجريف الثقافي والسياسي الذي حدث في الفترة السابقة. إن المساهمة في التوعية الإيجابية للمواطن مهمة، وبث الروح الوطني القومي مهم ، وعلى الدولة أيضاً أن تنهض بمشروع الثقافة، وأن تخلِّص هذا القطاع المهم من المرتزقة الذين أوجدهم النظام السابق بالقوة في هذا القطاع ؛ ليميِّعوا ثقافة الشعب، ويزدروها ويحقروها وينحدروا بها إلى الحضيض قضاءً على الهوية المصرية ، وعلى الوعي المصري، والقدرة على التفكير السليم أوالمعارضة المستنيرة. إن مشروع وطننة الثقافة يبدو ملحاً وضرورياً الآن ، ولا بد أن يبدأ على أرضية نظيفة، وأياً كانت الأصوات التي ستعلوا ، فمن الطبيعي أن أصحاب المصالح سيتحركون ضد مثل هكذا مشروع ، ومن الطبيعي أن الكيانات الفاسدة التي تغلغلت في قطاع الثقافة ستتحرك بعلاقاتها وأقلامها وخططها لإجهاض مثل هذا المشروع، ومن الطبيعي أن أعداء التغيير والإصلاح سيتحركون بأموالهم لتأجير الأقلام والأبواق، ولكن لا أظن أن ذلك سيوقف مسيرة العمل الإصلاحي الثقافي ما دامت الإرادة الوطنية متوفرة وما دام الإخلاص لمصر هو الهدف.