• أحمد بهجت كان بحراً واسعاً. • الإبداع لا يورث. • الجو الأسري مسئول عن نمو بذور الإبداع في الأبناء. • ورثت عن والدي حب الكتابة بالقلم الرصاص. • لم أعاصر هذا الافتتان المجنون بالانترنت. بسماحته ورحابة صدره التي عهدتها في كتاباته قابلني في مكتبه بالأهرام، وبتواضعه الملحوظ في كل ما قرأت أو شاهدت له من تصريحات أجابني.... وقد اعتدت أن أقرأ جيدا عن الشخصية التي سوف أحاورها حتى تتكون لي بعض ملامحها فوجدتني أمام شخصية مطابقة تماما لما كونته عنه من التدين والبساطة والخُلق الرفيع وهذا ليس بجديد عليه فهو من أسرة مصرية أصيلة تربى فيها على توجيهات أب حكيم ومبدع وأم مثقفة محنكة في النقد. وقد أخبرته قبل الشروع في الحديث أن يكون نصف الحوار عن أبيه الكاتب الكبير والعبقري أحمد بهجت نظرا لأنني كنت أتمنى أن أحاوره في يوم من الأيام ولكن لم يسمح لي القدر بذلك والنصف الآخر يكون عن إبداعاته الشخصية وأعماله الشعرية والجائزة التي تسلمها هذا العام عن أفضل كتاب في أدب الطفل فإذا به يطلب مني أن أخصص الحوار التالي عن أبيه فقط ونؤجل حواره عن ذاته في وقت لاحق مُعللا بأنه لا يتسنى لأحد أن يشارك أحمد بهجت سيرته حتى ولو كان ابنه ومُضيفا أنه يتمنى أن يوفق في الإجابة وأنه سوف يقول فقط ما يعرف لأن أحمد بهجت كان بحراً واسعاً........ ضيفي في الحوار اليوم هو الشاعر والكاتب المتألق محمد بهجت. حوار: صفاء عبد المرتضى 1- بداية أود أن أسأل عن أهم ما كان يحرص عليه أحمد بهجت الأب في تربية أبنائه؟ كان حريصا على غرس القيم الدينية كما كان حريصا على فكرة الإنسان نفسه وكان عنده منهج عجيب في التربية بأن يطلقنا في الحياة نعتمد على أنفسنا في كل شيء ويتتبعنا من بعيد فإذا رأى اعوجاجا يستدعي تدخله يتدخل بشكل في منتهى اللطف والبساطة؛ فكان يستطيع أن يُصلح باللين وباليسر على منهج سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم بالموعظة الحسنة، فكان يحبب إلينا الشيء الطيب والصواب ويدفعنا إلى حبه ، وأذكر أنه رآني ذات مرة أشاهد أحد الأفلام الساذجة التي توصف بأنها علم لا ينفع وجهل لا يضر فود أن يقول لي أن هذا الفيلم تافه وخليع وفي الوقت ذاته لم يُرد منعي أو إجباري على عدم المشاهدة فقال لي: ما هذا الهراء الذي تشاهده؟ هل لو طلبت منك الآن تلخيص هذا الفيلم تستطيع أن تسرده لي؟ فوجدت بالفعل أن عنده الحق، فكان يصاحبني ويتودد إلي فلديه فكرة" إن كبر ابنك خاويه" والشيء الذي كان يسعدني ويؤلمني في أواخر سنوات حياته "إذا كبر أبوك تبناه" فقد كنت وأنا صغير أمسك بيده حتى لا أقع وأصبحت بعد كبره أمسك يده حتى لا يقع وأود أن أقول لإخوتي الشباب أن يحرصوا كل الحرص على رقة التعامل نفسيا مع آبائهم عن الكبر ولا يظهروا لهم أنهم أصبحوا في حاجة إليهم لأن حساسية الأب تصبح زائدة جدا فهو لا يُحب أن يكون عبئا أو يشعر أنه ضعف فلا يوجد إنسان يُحب أن يوصف بالعجز أو الضعف. نعم فقد تغير شكل العلاقة عندما كبر والدي لدرجة أن عدم طلبه للمساعدة تسببت في كسر ساقه التي تسببت فيما بعد في حدوث وفاته. 2- نرى أن كثيرا من العمالقة المبدعين يخلفون لنا أبناء مبدعين ومتميزين أيضا... فهل يورث الإبداع؟ لا الإبداع لا يورث طبعا ولكن تورث عناصر تؤدي إلى الإبداع بمعنى أن الأديب يورث أبناءه مكتبة يستيقظوا من نومهم على رؤيتها... فقد كان في بيتنا مكتبة تحوي كتب وروايات لمختلف الكتاب العالميين ومن مختلف الجنسيات علاوة على كتب الدين والسُنة والتصوف جنبا إلى جنب بالإضافة إلى كتب المسرح والسينما وكنا في عصر لا يوجد فيه هذا الافتتان المجنون بالانترنت مع وجود مناخ أسري يشجع على القراءة فمن الطبيعي لو أنني أمتلك بذور الإبداع سوف تنمو، بالإضافة إلى عقد السهرات الثقافية في منزلنا ليلا والتي كانت تضم عمالقة المبدعين مثل: صلاح جاهين،وفؤاد حداد،و عبد الوهاب مطاوع وأكاد أجزم بأنه لا يوجد مبدع كبير لم أره في بيتنا فالجميع كانوا أصدقاء للوالد والوالدة سناء فتح الله الناقدة الصحفية وكان عندنا فرصة أن نشاهد ونشرب من المدارس الفكرية المختلفة من خلال البيت طبعا كل هذا يؤدي لأن يكون هناك فرصة أكبر لإنماء بذور الإبداع في الأبناء. 3- أكثر ما تأثرت به من مقالات"صندوق الدنيا" ؟ طبعا صندوق الدنيا كان من العواميد الصحفية التي لا نستطيع إغفالها يوميا وأكثر ما تأثرت به لأحمد بهجت كتابته لصندوق عن أمه وأنا عاصرت جدتي ورأيت والدي يوم وفاتها واقفا صلبا لا يبكي أمام الناس ولم أشعر بما كان في داخله إلا عندما قرأت هذا المقال وأظن أنه أبكى كل الناس في مصر. 4- حلقة لا تنساها من البرنامج الإذاعي الشهير"كلمتين وبس"؟ حلقة لا أنساها ليس لأنها حلقة مختلفة ولكن لأني كنت أعلم بالسيناريو الخاص بها مسبقا وكانت أثناء مرض أم كلثوم رحمة الله عليها عندما كانت في غرفة الإنعاش وكان من المنتظر وفاتها ما بين لحظة وأخرى فاجتمع أحمد بهجت وفؤاد المهندس ويوسف حجازي وهم صناع هذا المسلسل الإذاعي الجميل وتناقشوا في كيفية مواجهة الناس بخبر وفاة أم كلثوم وكيف لهم أن يتأخروا أو يتحدثوا في موضوع آخر ؛ فكتب أحمد بهجت ما يُشبه المرثية لأم كلثوم وأعطاها ليوسف حجازي لإذاعتها فور وفاتها وقرأها يوسف حجازي وبكى وتأثر وسأل كيف سنسجلها الآن؟ فاتفقوا أن يسجلوها سرا وبالفعل دخل فؤاد المهندس كي يسجل الحلقة فثار مهندس الصوت وقال:"لأ أنا مقلش إن أم كلثوم ماتت" فأقنعوه أنهم سوف يذيعونها في حالة وفاتها فبكى مهندس الصوت أيضا واستشعر فؤاد المهندس الحالة وتم تسجيل الحلقة بنجاح، وطبعا من سمعها يوم وفاة أم كلثوم تعجب ولم يعلم أنها كانت مُعدة من قبل. 5- حدثنا عن: طقوس أحمد بهجت في الكتابة؟ كان يُحب أن يكتب بالقلم الرصاص لأنه أنظف في الكتابة وأكثر طواعية للفكرة وبسهولة يمكن استخدام الممحاة للتعديل أو التغيير فيشعر أن الورقة نظيفة ومرتبة أمامه وهو كان شخص نظيف ومرتب للغاية وقد أخذ الكتابة بالقلم الرصاص عن أستاذه توفيق الحكيم لأنه كان يحبه جدا فورث عنه حب الكتابة بالقلم الرصاص وكان الحكيم يقول له: أحيانا ما تكون الفكرة سريعة جدا لا يستطيع القلم الحبر أو الجاف اللحاق بها! خاصة تلك الأقلام اللينة التي يستخدمها الرسامون، وكان يحب أن يسمع موسيقى كلاسيكية بصوت خافت أثناء الكتابة فكان يمتلك مجموعة رهيبة جدا من الاسطوانات لشوبان وموتسارت ولا يفارقه كوب القهوة المفلترة فكان لا يشربها في فنجان بل في كوب مخصص لها. 6- هل كان أحيانا يشرد وهو جالس معكم في فكرة تطرأ إليه؟ هو دائما ما كان يتركنا ليجلس مع الفكرة. 7- كاتبنا الكبير أحمد بهجت كان ينتقد الكثير من الأوضاع السلبية في المجتمع، ويلقي الضوء على القضايا الهامة من خلال كتاباته.... فكيف كان يتعامل مع هذه السلبيات في الواقع على مدار حياته؟ كان يتعامل معها بالسخرية أي أن المشكلة التي كان لا يستطيع حلها يسخر منها ويضحك عليها فيكون بذلك قد فرغ غضبه من المشكلة وقال رأيه فيها في نفس الوقت. وكان يعالج هذه المشكلات في الكتابة فقط فهو ليس من النوع الواعظ الذي يتدخل في حياة الآخرين أو يقول لشخص ما لقد ارتكبت خطأ. فقط كان يتأمل بعين الناقد في صمت. 8- كيف يحقق الكاتب السخرية الهادفة؟ أو كيف تكون الكتابة الساخرة هادفة؟ أجاب ضاحكا: هذا السؤال صعب جدا ولا برناردشو نفسه يعرف يرد عليه! لكنني أعتقد أنه يجب على الكاتب الساخر أولا أن تكون نيته طيبة جدا ونقي من الداخل لأن هناك نوعان من الغضب : غضب عنيف والآخر سلمي والسخرية هي التعبير عن الغضب بشكل سلمي ولكي تكون السخرية هادفة يجب ألا يكون للكاتب مصلحة أو هدف خاص وراء هذه السخرية ولا يقصد بها التشويه أو الإساءة، بالإضافة إلى ضرورة تمتعه بذكاء الالتقاط لأن كل منا يمكن أن يمر بسلبية ما ويشاهدها يوميا ولا تسترعي انتباهه من غرابة التناقد الموجود بها. 9- قيل في أحمد بهجت: - أنه شخصية مذهلة مثل أبطال الحواديت الشعبية.... فهل لنا من توضيح؟ نعم هو بالفعل كان مثل شطار الحواديت الشعبية وهو شخصية تكاد تكون أسطورية؛ فهو مثل البطل الشعبي الذي يُحرر الخير ويُحققه ويبحث عن الجمال والعدل والحق وبعد أداء مُهمته يرحل إلى مكان آخر أي أنه كان يمتلك هذه التركيبة بالفعل. - كان يكتب في مناخ سياسي واجتماعي أشبه بالضوء المُطفأ! لا لم يكن أشبه بل هو كان مُطفأ فعلا؛ لأنه كان طوال الوقت مؤمن بالديمقراطية في الوقت الذي كان لا توجد فيه ديمقراطية في مصر على الأقل في آخر ستين سنة مضت، وقد عاصر العصور المختلفة لعبد الناصر والسادات ومبارك وكان ساخرا من العصور الثلاثة وكان بالرغم من أن النور مُطفأ إلا أنه هو كان مُضيئا من الداخل وكان قلبه وقلمه كذلك مُضيئين. كان حُراً بالرغم من عدم وجود الحرية؛ فالمناخ كان سيئا جدا والنور كان مُطفئا بلا أدنى شك. - يستطيع الإمساك بتفاصيل فكرته وتقديمها كاملة إلى القارئ في أقل عدد ممكن من السطور.... فهل يمكن لأي كاتب أن يكتسب هذه المهارة ؟ وكيف؟ لا طبعا وإلا كان كل الكُتاب أصبحوا أحمد بهجت وسأذكر لك قصة في هذا السياق: ذات مرة أرسل الأستاذ عباس العقاد رسالة طويلة لصديق له وكتب في نهايتها: "عُذرا للإطالة فلم أجد الوقت للاختصار"! فالاختصار يحتاج إلى وقت والاختزال يحتاج إلى خبرة ومجهود. فمثلا من يُريد أن يكتب رباعية مثل صلاح جاهين لابد أن يكون عنده الخبرة والحصيلة الشعرية الكبيرة جدا لكتابة هذه الرباعية. إنما المبتدئ هو الذي يكتب المُطولة وهكذا هو الحال في الكتابة الساخرة فمن يستطع كتابة "نص كلمة" التي يكتبها أحمد رجب "مفيش في مصر حد يكتب "نص كلمة" إلا أحمد رجب،و"محدش يكتب "كلمتين وبس" إلا أحمد بهجت أي أن هذه الكتابة البسيطة السريعة التي تُشبه الكبسولة تحتاج أفضل نوعية من الكُتاب. وكيف يمكن للمبتدئين اكتساب هذه المهارة؟ والله بالخبرة وربنا يُنعم بها على المجتهدين، وأنا نفسي لا أمتلك هذه الخاصية فلو أعرف كنت وصلت لها! ولكن أقول عليكم بالقراءة الكثيرة ومن هنا أريد أن أدعو شباب المبدعين للقراءة، فوالدي رحمة الله عليه كان يقرأ 12 ساعة يوميا لمدة 70 سنة؛ واستطاع أن يقرأ مئات الكتب فلا توجد رواية عالمية أو مسرحية لم يقرأها أحمد بهجت رغم عدم تخصصه في هذا اللون من الأدب، ولم يذكر اسم شاعر عربي أو أجنبي إلا وقد قرأ له فهذا بالتأكيد يجعل الإنسان يرقى في مستواه وأسلوبه وبذلك يستطيع أن يصل إلى العبقرية التي تقصدينها. رحم الله كاتبنا الكبير أحمد بهجت.. والله ندعو أن يجعل كل أعماله الخالدة صدقة جارية في ميزان حسناته، وأن يُنير قبره كما أنار حياتنا جميعا. وللحوار بقية إن شاء الله،،،