على الرغم من وقوع العلامات الصغرى، فإنَّ المتكبِّرين لَم يَروا الساعة قريبة بعدُ، وزاد الاختناق، وبدأ التظاهُر واحتشَد الملايين بالميادين، يصرخون بأنَّ العلامات الكبرى وقعَت، ولَم يَرَها المفسدون في الأرض بعدُ، حتى كانت على رؤوسهم كالطامَّة الكبرى، وسُحِبت الكراسي، ووجَدوا أنفسهم بأرض غير الأرض التي بَغوا بها، وتبدَّل الحال، فدوامه من المُحال، وأصبَح الذي كان يُحمل على الأكتاف يُضرب بالنِّعال، وسُجِن السَّجان، وحُرِّر السُّجناء، وبات الآمر الناهي خلف القُضبان، وقد انفضَّ مَن حوله - المنافقون الذين أعلوا شأنَه بالكذب والنفاق - واعتَلى المنابر كهولُ المنفى، وبدَت الحسرة على وجوهٍ كانتْ ضاحكةً مستبشرة، تراها اليوم عليها غَبرة. إنها الثورة التي وقَعت كالواقعة، فكانت خافضة رافعة، نزَلت برؤوس الطُّغاة منازلَ الخسِّ والعار، ورفَعت رؤوس الشُّرفاء رِفعة الشرف والعزَّة. ثورة أبكَت مَن أبكوا أُمَّةً كانت خير أُمةٍ أُخرِجت للناس، وأضْحَكت مَن بَكوا على أُمَّة أهلَكها الظُّلم، ثورة هزَّت عرش مصر، وثبَّتت أقدام الفقراء من أهلها، ثورة مات من أجْلها عُشَّاق الحياة، وعاش لها عُشَّاق الموت. ولكنَّ المنافقين لا زالوا يتصيَّدون الفرص، فرفَع أعلام الثورة مَن كانوا يهتفون للنظام السابق؛ لعلَّهم يَصِلون إلى ما هو أبعد مما حلموا به، فلقد تربَّوا على تقبيل الأيدي والتصفيق لمَن بيده السُّلطة، وصَعُب عليهم ألاَّ يُمارسوا النفاق المعهود، وللأسف رفَعتهم الثورة على أنهم مخلصين، وقريبًا ستُشرق الشمس، وسيَذوب الثلج، وستَظهر الوجوه على حقيقتها. وإني حين أتحدَّث مع شباب الثورة الذين هبُّوا يوم 25 يناير، أجد بداخلهم حسرةً على ثورة تُسرق منهم، وبصدورهم ألَمٌ دفين، خاصة حين يرون على الفضائيَّات الرويبضةَ يتحدث باسم شعبٍ كامل، حتى تزاحَمت الأفكار على رؤوس الناس، وتاهَت الحقائق، ولَم يَبقَ فريق أو حزبٌ إلاَّ وقد تعرَّض للتشويه والشائعات، ولَم يَعُد الناس يعرفون مَن الصادق ومَن الكاذب، وهذا من علامات الساعة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستأتي على الناس سنون خدَّاعة؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويَنطق فيها الرُّوَيْبِضة))، قيل: وما الرُّويبضة؟ قال: ((السَّفيه يتكلَّم في أمر العامَّة))؛ رواه أحمد، وغيره. فليس كلُّ مَن رَفَعته الثورة شريفًا، ولا كل مَن وضَعته حقيرًا، فلا يعلم ما في القلوب إلاَّ الله، نسأله - عزَّ وجلَّ - أن يَحفظنا من الفِتَن؛ ما ظهَر منها وما بطَن، وأن يَحشرَنا مع الصالحين أصحابِ القلوب السليمة والضمائر الحيَّة؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88 - 89]. هيثم النوبي