في زخمِ وكثرةِ صخب التيارات الفكرية المعاصرة والمتصارعة والمحتدمة بوجودها وآيديولوجياتها يكاد الخطاب الذي يتبناه الشباب، يتجه نحو ضياع الذات والهوية والإنتماء، ولعلّ هذا يحمل في طياته الكثير من الحقائق الدامغة التي يتجاهلها صناع القرار والمهتمين بالشأن الفكري والعملي والإبداعي لشريحة لشبابنا التي تعاني من غربة الإنتماء وإستلاب الذات المغيّبة وسط ركام الأفكار الوافدة. فالشباب وبعيداً عن لغة الإنشاءات والخطابة والشعارات الرنانة والاستعارة والبلاغة، هم الرافد والمحور الذي تقوم وترتكز عليه وطننا، وبهم يكون ولوج مستقبله، والحفاظ عليهم هو حفاظ على جوهر الوطن وسرّ بقاءه وديمومته وتقدمه ورقيه ونماءه، ولكي لا أتهم بأني أهيم بالأحلام فقط أقول إنّ الأوطان التي تفسح الحرية لأبنائها، وتهتم بهم وتمنحهم كلّ سُبل العيش الرغيد والكريم واحترام ذاتهم هي من تتولى ريادة الآخرين. إلا نحنُ، ونحنُ (ضمير الجمع) لا دخل ولا عَلاقة (بفتح العين) لنا بالآخرين، فتاريخنا المشرف وإرثنا الفكري المبدع حافل وثري بقصص التغييب لوعي الآخر وعدم احترام ذاته وماهيته وخلق الأجيال المحطمة من الداخل والتي تكون في جل وعيها تؤمن بثقافة الخوف والماورائيات وقصص البطولة وتبجيل التاريخ وعدم إبداء الرأي وإحترام الرأي الآخر. بإيجاز نحنُ شعوب تنتشي بقتل مُبدعيها ومثقفيها وأبنائها، وشبابنا في فلسطين خصوصاً ذاق كلّ المرارات بسبب مراحل الحكم الصهيوني، وما تبعته من مخاضات عسيرة ولدت عنده ردة فعل وشعور بالإحباط واليأس. دعوة إلى القائمين على الشأن المعرفي والفكري ومن يهمهم شأن الشباب وطموحاتهم وآمالهم وتطلعاتهم وآفاقهم، بأن يكونوا حضناً دافئاً يحتوي أبناءه الضائعين، ويداً تمتدُ نحو الشباب المغيّب وسط زخم الصراع الفكري لتنقذ آخر ما تبقى من هؤلاء الذين ظلموا من قبل ومن بعد، وذلك عِبرَ توسيع دائرة المؤسسات التعليميّة والفكرية والثقافيّة التي تأخذ على عاتقها إنشاء برامج وخطاب توعوي يرجع للشباب مكانته ومحوريته وثقته بذاته، والتركيز على إنضاج الخطاب الإعلامي بطرح المفاهيم التي تنبع من وسط هموم الشارع الشبابي ومعالجتها واستحداث لغة جديدة ونمط خطابي يُركز على النوع لا الكم، بغية تهيئة الأرضيّة المناسبة للانفتاح على ذات الشاب وفهم ما تحتاجه هذه الذات وما يكمن في أغوارها، وبالتالي ننشأ منظومة معرفيّة متكاملة تتيح لنا أنّ يفهم كلانا الآخر. إن فهم الآخر هي أهم المراحل التي ينبغي أنّ تترجم على أرض الواقع، وبالتالي فالحكومة اليوم بالذات مطالبة وبشدة بأن تسعى لحل جزءاً يسيراً من مشاكل وهموم الشباب وفي مقدمة تلك المشاكل مشكلة البطالة التي أصبحت حجراً عاثراً أمام أحلام الشباب البريئة وأمنياتهم وتطلعاتهم، وكذلك المؤسسات الأهلية والفكرية والمعرفيّة والثقافية فهي اليوم مسؤولة أمام الله وأنفسها برعاية هذه الأمانة التي من شأنها أنّ تنهض بواقع البلد لو أتيح لها إثبات ذاتها المحطمة، وحل مشكلاتهم التي من المعيب التحدث عنها والمطالبة بحلها ونحنُ أمام تجارب فريدة ونوعية وبإمكانيات مادية وفكرية أقل منا بكثير، إذن دعونا من تخمة الخطابات وسبك العبارات وتنميق المصطلحات، فجلّ ما نريده ونبتغيه هو ضميرٌ يقض وناصع بالحبّ يفهم المشكلة ويشخص مكامن المرض، ويبحث عن العلاج، والعلاج ليس عسيراً هو خطاب ينبثق من طُهر الماضي ويناغم أفكار الحاضر ويعيد وعي الذات المهشمة، ويبحث عن الأخطاء المستقبلية ويحذر منها، ويبتكر آليات منطقية لمواجهة الأفكار التي تستلب منا النفس وتقتل الروح ولا تبقي ولا تذر. نقطة ضوء: التعاسة ألا نعرف ما نريد ونقتل أنفسنا لتحقيقه. ناشط ومفوض سياسي إعلامي وكاتب صحفي [email protected]