النفي والتنصل ووحدة الموقف, القبول والرضا وغير ذلك، مفردات ترددت كثيرا في حياة شعوبنا العربية عموما والمتابعين منهم للتصريحات والتطورات السياسية بشكل أخص، فبين متنصل ومتحفظ ورافض، هكذا هو المشهد السياسي العربي اليوم ونحن ننتظر ولادة إنتخابات رئاسية وتشريعية عربية، ولن ننسى قطعا سيل التصريحات العربية والدولية والتي أعقبت هذا المشهد، وأكدت على ضرورة إستثمار الزخم المعنوي والنفسي الذي حققته لحل الخلافات العربية الداخلية بين هذا وذاك وصولا إلى حالة التفاهم والتحول إلى فريق عمل عربي واحد لخدمة الوطن وخدمة هذا الشعب. هذا ما لم يتحقق حتى الآن على الأقل وأعتقد جازما إنه لن يطرا أي تغيير على المدى المنظور، إن لم تتغير نظرة القوى والفصائل العربية لبعضها البعض، وذلك يعود لأسباب عديدة أهمها العقلية التي تقود الأوضاع فهي عقلية أشبه ما تكون بالاقصائية وغير المتحمسة، لاحداث التغيير خوفا من خسران المكاسب والإمتيازات، علما إنها مكاسب وقتية غير حقيقية ولن تحدث نقلات نوعيه على أي مستوى من المستويات، ومن هنا تبرز أهمية اللجوء لمنطق العقل وتحكيمه للخروج من المأزق، وخلق مستقبل جديد للشعوب العربية. إن الاجتماعات الوطنية التي تعقد بين لكل القيادات العربية كل في وطنة وكيانه والذي توصف بالسحرية وأنها المدخلية الأساسية للحل، حيث تتبخر بسبب عدم التنازل بين هذا وذاك، والتمسك بالمطالب والمراوغة وعدم الجدية، ولعل هذا ما يحزر منه دائما المراقب للشأن العربي مرات ومرات، وذلك من تحول الأزمة الداخلية السياسية العربية إلى عقدة بسبب حالة التوتر بين القوى والتكتلات والفصائل العربية السياسية، وتراشق الفرقاء وتبادلهم التصريحات النارية التي يسىء فيها بعضهم للبعض الآخر. ومن هنا لا بد من طرح السؤال أين يمضون بالأوطان؟ وإلى أين هم ذاهبون؟ فهذا المنطق ومنهجة المشاكل وتأزيم الأوضاع العربية، بشكل مستمر سيقود حتما إلى نهاية مأساوية وهاوية سحيقة، ولن يكون هناك رابح في النهاية لذا على جميع الكل العربي، أن يتحمل مسؤولياته الوطنية، وأن توقف هذه الحرب المستعرة بشكل فوري لإعطاء فرصة للحل الهادىء الموضوعي وإلا فإن الإصرار على هذا النهج، سيخرج الأمور عن السيطرة وسيدخل الأوطان في مرحلة مظلمة، لا يتمناها أحد. نعم على جميع الكل العربي التفكير في مصلحة الأوطان العليا وإعادة بناء جسور الثقة وعقد النية للحلول الإيجابية، لذا فليفسح المجال للمؤتمرات العقلانية أو للإجتماعات الوطنية لتنعقد ولتناقش المشاكل بوضوح وبشكل مفتوح، فالمصارحات والمكاشفات هي من يجب أن تسود لتكون الغلبة للحل، بدل تبادل الإتهامات الفارغة والتنابز وغمز بعضهم البعض. فحينما ينتمي شعب من الناس لوطن واحد، بما يعنيه هذا الوطن من حدود جغرافية، وكيان سياسي، ونظام دولة قائم على مؤسسات وهيئات وطنية مختلفة، فإن هذا الإنتماء يخلق بينهم عيشاً وحياة مشتركة، ومصلحة متداخلة مما يوجب وجود صيغة عادلة للتعايش والتعاون تتحقق بها المشاركة في المنافع والمكاسب، والوحدة أمام الأخطار والتحديات. قد تختلف الإنتماءات الفكرية والدينية والعرقية والسياسية للمواطنين، لكن الوطن يجب أن يبقى إطاراً جامعاً لكل أبنائه بمختلف إنتماءاتهم وتوجهاتهم، وذلك يستدعي منهم الإعتراف المتبادل بين الجميع بالشراكة والتساوي في حقوق المواطنة وواجباتها، أما أذا أختلت هذه الشراكة وحدث شئ من الإستئثار بالسلطة أو بالثروات أو التمييز بين أبناء الوطن الواحد، يسبب تنوع التوجهات وإختلاف وجهات النظر أو تقاطع البرامج، فإن ذلك يهدد وحدة الوطن وأمن المجتمع وإستقراره، كما تدل على ذلك أحداث التاريخ وتجاربه في الماضي والحاضر. إن أخطر شيء على وحدة الأوطان ومصالحها هو أن تتضخم الإنتماءات والنعرات الفكرية والحزبية على حساب الإنتماء للوطن، فتنظر كل جهة للجهات الأخرى عبر دائرة إنتمائها الخاص وهنا تضيع المصلحة العامة وتضعف وحدة الوطن ! إن المطلوب الآن وليس غدا وعل وجه السرعة من أصحاب القرار السياسي العربي، لمواجهة هذا الخطر التعصبي، وجود وعي وطني ومساواة حقيقية بين جميع المواطنين وتلك لا تتم إلا بوجود دستور وطني، يقر في لوائحه صيغة التعايش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، فإذا ما وجدت تلك اللوائح والقوانين، فيجب على الجميع العمل بها كقناعات راسخة في نفوس أبناء المجتمع الواحد، وأن تكون منهجاً في تفكيرهم وسلوكاً في حياتهم اليومية. لا يمكن أن تتحقق تلك القوانين عبر طرحها كعنوان وشعار فقط، ولا بالحديث عنها في قاعات المؤتمرات والندوات واللقاءات وورش العمل، وإنما تتحقق بالسلوك العملي والفعلي على أرض الواقع ! يجب أن ننفض عن نفوسنا وعقولنا غبار ثقافة اليأس والإتكالية والتعصب لهذا وذاك، وذلك يبعث ثقافة وحدوية تنطلق من محورية حقوق الإنسان والمجتمع ككل، وتركز على حرمته وكرامته وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، حيث ينظر بالنتيجة كل مواطن إلى أخوانه المواطنين بمختلف إنتماءاتهم من منظار الإنسانية، فيحترم حقوقهم كبشر ويراعي جميع مبادئ الوطنية، وضمان إطارها العام وحتى يعترف كل واحد منا بأخيه ويتعاون معه كشريك مساوي له في الحقوق والواجبات. ناشط ومفوض سياسي إعلامي وكاتب صحفي [email protected]