مع أنه لم يكن متفرغا للكتابة الأدبية والنقد الفني والترجمة، فإن الإنتاج الذي قدمه للقراء العرب يفوق في الكم إنتاج الكثير من المتفرغين. وفي هذا الإنتاج من أسماء المبدعين في مختلف اللغات، ومن القضايا الفنية، ما لا نجده في أعمال هؤلاء المتفرغين. ولعل أهم هذه القضايا التي يرتبط فيها شكل الإبداع بمضمونه، الحرية الفردية، وعلاقتها بالدولة والقانون، وما يفرضه المجتمع الصناعي من قيم مادية بحتة، تقتلع من عالمنا الروح والدفء والجمال. غير أنه لم ينل الشهرة أو الحفاوة التي يستحقها من يسد مثله نقصا في المكتبة العربية في أكثر من مجال لأن وظيفته كمستشار في مجلس الدولة، وكأستاذ للقانون بجامعة القاهرة، حال بينه وبين الانخراط في الأوساط الثقافية التي يبدو أنها لا تقبل من لا يجوب مجالسها، ويستنفد طاقته بعيدا عنها وعن مشاكلها. خلاف إيديولوجي كما لم تكن هذه الأوساط في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تقبل بسهولة أن يوجد بينها في الساحة من لا يتفق معها ايديولوجيا، أو لا يوقع علي ما تقوله، تكريسا للواقعية التي ازدهرت في بلادنا بعد أفول الرومانسية، في خضم المعارك الوطنية، واحتفل فيها برسالة الإبداع في الحياة أكثر من الاحتفال بأصول الانشاء ومعالم البناء والتكوين. وكان نعيم عطية من المؤمنين بأن الرومانسية ملازمة للكيان البشري، وكذلك العاطفة، لكن بغير انعكاس مباشر للسياسة. وأغلب الظن أنه لم يكن يبالي بما تعرض له من تجاهل، أو أنه كان يتقبله بالتسامح، لا بالنفور والعداء. إنه الدكتور نعيم عطية الذي فقدته حياتنا الأدبية والفنية في العشرين من مارس الماضي، عن خمسة وثمانين عاما، قضي الفترة الأخيرة منها يعاني بعد وفاة زوجته الثانية الوحدة والاكتئاب والمرض، وعدم اتصال أحد من الأدباء والفنانين به والتخفيف عنه في مغيبه في بيت المسنين، محروماً من الأهل والأصدقاء والكتب. اتجاهات ومعتقدات وإذا كان لكل كاتب وناقد ومترجم اتجاهه ومعتقداته بين التقليد والتجديد، وبين القديم والحديث، أو بين السلفية والثورة، فقد كان نعيم عطية بكل كلمة وضعها أو ترجمها يقف مع أحدث التجارب والمغامرات التي استطاعت في سنين معدودة أن تتجاوز كل ما سبقها من عطاءات وانجازات اتسمت بالتشابه وأن تمهد الطريق للأساليب والرؤي والرموز الجديدة، المعبرة عن الفكر والإرادة وهموم العصر، وفي المقدمة منها - كما أشرت- الحس الفردي، وخصوصية الكيان الذاتي المستقل عن المجموع في عالم فقد صفاته، يفيض بالقسوة والمكابدة والتوتر والطموح، ويتطلع إلي خلاص النفس البشرية من أحمالها الثقيلة، وأوجاعها العامة. ولم يكن هناك ما يمكن أن يفي بهذا كله، وبما ينطوي عليه هذا الوجود من تناقضات سافرة، ومن ابهام وغموض إلا التيارات الطليعية كالتجريدية والعبث واللامعقول والشيئية وغيرها، التي طرحها نعيم عطية في كتبه ومقالاته بفهم دقيق، يفرق بين الحقيقة والسراب، وبين التفكك والتماسك، وهي تيارات ترفض المنطق الصارم والنظام الثابت، والتسجيل الحرفي الذي خضع له الفن التقليدي الدارج في عصوره الماضية، فأراد للنقيض أو للضد الذي أتت به هذه الاتجاهات أن يأخذ مكانه السامي في حقل الإبداع والنقد، وذلك بفصل الفن عما هو طبيعي، وعن الحقائق الخارجية تحقيقا للوحدة الموضوعية. ودون مجافاة للعقل أو للالتزام الحر الذي يتجنب أو يرفض أمراض العصر.. هذه الأمراض التي تنشأ في نظر نعيم عطية، كما ينشأ كل نشاط إنساني، نتيجة شدة تقلبات الواقع علي نحو لم يعرف من قبل، ونتيجة افتقاد الذوق الجمالي. وتشكل حياة الفنانين في أوطانهم تاريخ الفن وحقبه التي لا تندثر، لأن الخطوط والألوان والأحجار والكلمات المتبقية منها يمكن أن تقودنا إليها وإلي أن نكتشف بها حضارات كاملة. من أجل هذه الرؤية التي تخضع للتطور التاريخي، ولا تفرق في الإبداع بين شرق وغرب، لا يجد نعيم عطية حرجا في تعضيد ما يخرج عن التصورات المتوارثة، ومخالفة أي ناقد لا يري الرؤية الصائبة لهذا النص أو ذاك، كما عبر في رده المفحم علي الدكتور علي الراعي حول شخصية ماري في قصة «قنديل أم هاشم» ليحيي حقي التي انتقصها علي الراعي، أو نظر إليها نظرة غير متفهمة للتقاليد الأوروبية التي تنتمي إليها ماري علي حين رفع من شأن إسماعيل الممثل للمجتمع العربي الشرقي. صياغة مرهفة ونقطة الخلاف عند نعيم عطية إدراكه الدقيق لمضمون القصة الذي صاغه يحيي حقي صياغة مرهفة تنفي التمييز بين الحضارتين الغربية والشرقية فلكل منها سلوكها وتعاملها بعيدا عن التقييم الأخلاقي أو الرغبة في التأثير علي المتلقين. ولأن الفنون التشكيلية العربية التي كان نعيم عطية شغوفا بها لم يتيسر لها المقام العالي الذي أتيح للفنون الغربية فقد اعتبر الكتابة النقدية المتحمسة لها التي تضع يدها علي أسرار الصنعة، واجبا لا معدي عنه علي الكتاب والنقاد الاضطلاع به علي قاعدة من الدراسة المنهجية - لا الانطباعية- للتراث الفرعوني والقبطي والإسلامي وللتراث الغربي منذ اليونان الذي يلقي بتأثيره علي كل فنون العالم. ودليل نعيم عطية علي أصالة الإنتاج العربي ورفعته وارتباطه بالحياة أن الفنانين المحليين حين يشتركون بأعمالهم في المسابقات والمهرجانات الدولية، فإنهم يحرزون الجوائز العالمية. وللسمات الخاصة للفنون الشعبية أهميتها البالغة في الإبداع الحديث، كمصدر من المصادر القومية التي تثري الأعمال المعاصرة، وتزيد كثافتها. وكتابات نعيم عطية عن الفنانين تعرف بهم وبسيرهم الشخصية، دون أن يقصر في وصف وتحليل وسبر فنهم المركب وما يومئ إليه من مضامين ودلالات إنسانية ملموسة وخفية، تعد بها من النفائس الثمينة، لا من الأصداف الجوفاء التي لا ترقي إلي مستوي الأحداث التاريخية. ونعيم عطية ليس وحده الأديب المشغول بالكتابة عن الفن والفنانين، ذلك أن في تاريخ الفن الغربي أدباء كتبوا عن الفن بصورة أعمق من كتابات النقاد التشكيليين المحترفين، بل إن من هؤلاء الأدباء من أجاد بالقدر نفسه قراءة المدارس المختلفة لكل منهما، ومن مارس الفن إلي جانب ممارسة الأدب. وأعتقد أن نعيم عطية أحد هؤلاء الذين جمعوا بجدارة في الثقافة العربية بين الكتابة الأدبية والنقد الفني.