ليست عادتي الوحيدة، ولكنها من بينهن جمعاوات فريدة، وهي المفضلة لدي والأقرب عندي إلَيّ.. يقولون: اعتد ألا تكون لك عادة؟ وكيف ذلك إذًا؟ وإذا اعتدتُه فإن ذلك بعينه عادة.. أما أنا فاعتدت أن العادات هي التي تصنع النجاح في الحياة العملية -ما بعُدت عن الرتابة- وعلى المستوى الشخصي فإنها تعبر عن الذات، وتضفي على شخصك نكهة خاصة، ولونا مَيِّزًا يُطْريك ما كُنَّ طيباتٍ محمودات. وكم أحب أن أمارس هذه العادة العصماء أيان كنت متفرغا من شغل ومن كل أمر يُقضى في صباح، ولا عجب أن الدنيا تحلو بتباين أيامها واختلاف أحوالها بين يوم كليل وآخر لا نصبَ فيه ولا وصب؛ فيومئذ –على عكس ما يحبذ البعضُ فيأخذون قسطا من نومة أهل الكهف لا يزهدون فيه ولا يملونها– يُثلج خُلدي أن أستيقظ مصبَّحا بالفجر كي أملك النهار من لدن أول طرفه الباكر لا يفوتني منه لحظٌ، فأتابع شمسه تتعالى في الأفق فتغمر الأنحاء، حتى إذا استوت واستقر شعاعُها من حيث أتت استلقيتُ أنا على صوفايَ (الأريكة) أتمدد إزاء النافذة في غرفة الصالون التي قلما تُزار -وطالما ظلت منطقة محظورة حسب قواعد ‹الوالدة باشا›- أما أنا فأحب أن أختلس السويعات الأُوَل من النهار إذ هم لم يلبثوا نياما، فأظل أشاهد من أمامي تلك النافذة التي أمامها شجرة الخزامى المزهرة في الربيع والصيف الدافئ، والتي تتراقص فوق ورقاتها وزهيراتها التي لم تلبث براعمها متفتحة العصافيرُ؛ فأظل أراقبُ بينما أستمتع بزقزقتهنَّ وتغريدهنَّ الذي يجعل من صباحي سكونًا لا يزاحمه النشاط، ونشاطًا لا يطارده السكون: تبث هذه العادة الفضلى في نفسي سلامها، وتحيطها استقرارا وأمنا.. هب ذاك في هدوء الصيف ودفئه الغامر؛ إذ لا طابور صباح في المدرسة المقابلة لمنزلنا، ولا ضجيج في شارعنا، وبالطبع شمسٌ وهاجة لا يسترها الضباب، ولا يغلب دفئها زمهريرُ البُكرة— وإذن تجدَ نسمات الصيف ترطب على روحك، وتنعش أفكارك، وشمسَه تحيي نفسك، وتضيء نهورَك بالأمل والتفاؤل، لا التداعي ولا الخمول. فتأتيني -إذَّاك- من بنات الأفكار ألفٌ وكلمةٌ، لأسرد مقالة كالتي بين أيديكم، أو أطالع أخرىٰ، ولا ضير في أن أستزيد إلى جانب التغريد من إذاعة البي بي سي البريطانية، حيث موسيقى المحطة الثالثة الكلاسيكية والجاز، أو برامج المحطة الرابعة الحوارية والمسلسلات الإذاعية بالإنجليزية، وكم أعشق المذياع وأصوات مذيعيه الحيوية التي تُدخل على نفسك الراحة والأُنس، وتشعرك أن هذه الموجات الحية تحجب خلفها أناسًا متيقظين يصنعون الذي تصنعُ أنت ذاته؛ فتطمئن إلى أنك لست وحدك، وقد تحدثني نفسي أن أستمع إلى نغمات أم كلثوم الراقية وحبذا عبر موجات إذاعة صوت القاهرة، لا سيما إن صادفتني ‹القلب يعشق› أو ‹الرضا والنور› أو ‹يا صباح الخير›، وإيهٍ لنغمات الأطرش في ‹عاد الربيع› وما بها من بهجة وانشراح تتواءمان وهاته الأجواء. ولي عادة أخرى في هذا الصباح العاطل قبل الظهيرة أنشُدها؛ إذ بعد الإفطار أشاهد مستر بين الكرتون أو توم وجيري؛ وإذ إنكم تتضاحكون فإني لأُدريكم أنما هي عادةٌ لي بقيت من كثير ذهب، تلمس في عمقي شيئا عتيقا لمَّا يَمْحُهُ الزمن؛ ألا وهو السلام: هذه الرسوم الصامتة تعيدني إلى فطرةٍ سامية قد جُبِلنا عليها جميعا، ولكننا نُسِّيناها بفعل عوامل الزمن، كنا أطفالا بُرآءَ لا نحمل ضغائنَ ولا مكائدَ -حسنا، أعني باستثناء القليل.. تلك المكائد الطفولية المعتادة- فتغيرنا إذ كبرنا، حتى عدنا آخرينَ غيرَنا لا نعرف نحن أنفسنا— فالآن، أسترجع في عقلي اللاواعي هذه الفطرة وأستعيد في دواخلي هذا السلام، أفرغ من الشواغل كل طاقاتي، ومن الدنيا كل عثراتي، وأتناسى ما علمنيه الزمان مما ليس يشبه سجيتي، وأفَرِّغُ كل طاقاتي السلبية لأحظى بيوم بهيج مستنير، مشمس دافئ، هادئ سالم، تغزوه السكينة والطمأنينة، لا يعكِّر صفوه من الفكر ولا الغل. وآنًا أوثِرُ أكتبَ في دفتر مذكراتي؛ فأنثرَ فيه ما جال في نفسي، وما جاب خاطري وفكري، تارة أحكي فيها للورق فإما أقصُّ مُخبرا فَرَحا لا يشاركني فيه إلا قلائلَ الصادقين المحبين المخلصين، وإما أقصُّ شاكيا هما وكبَدا، فلا أجدُ في مواساته كالورقة ولا يسعفني كما يسعفني القلمُ اللسانُ، وإما أُسِرُّ حديثا لا يشاطرنيه أحدٌ ولا يفهمه مني عدا دفتري العزيز؛ فنصبح في عِلمهِ من بعد الله ثالوثٌ: أنا ودفتري والقلمُ، وقد أجد منهما الحل وفيهما العلاج؛ ألا تَدفنَنَّ في نفسك لا تُبديهِ شيئًا، فيثقُلُ عليكَ وِزرُه الذي تحمل، وتتهاوى معنوياتكَ ويضيق به ذرعك، تعلم ذلك من قانون الاعتراف المسيحي -الذي هو في الإسلام توبة- لأن ذاك الاعتراف للغير مريحٌ أيةَ راحة، كما لو كنت تُفَرِّغ كِفلاً من كارت الذاكرة الخاص بك فتتنهدَ أنفاسَك— دعني أقول: ولو كان ذاك المنصت والعارف الذي تتعرى له هو مجرد «دفتر مذكراتك». وما كنت لأطلعكم عليه -لَعَمْري- ولا آتيكم على ذكره إلا أنه علِّي أصيرُ ذات يوم اللورد أو السير أو الفيلسوف الراحل، وتدَرَّسُ كتاباتي، وتخضعُ شخصيتي وحياتي للتحليل، فأكونُ بما قصصت عليكم قصَّرتُ الطريقَ وأبنتُ مما يذهب إليه فضولُ النفسِ من حيوات المغمورين شيئا أو بعض شيء.. إيه، لا أعرف من أين اكتسبت حِسي خذا في الدعابة.. لله دَرِّك يا مازني ورفقائه! (من مذكراتي)