الرصافي 1294 – 1364 هجري / 1875- 1945 حين توفي الشاعر المصري (أحمد شوقي) قال (طه حسين) : (لقد إنتقلت الآن إمارة الشعر التقليدي الى العراق ، فأصبح الرصافي أمير الشعراء) فعلاً كان (الرصافي) أميراً للشعراء بعد (شوقي) ، وهو شاعر الشعب ، وشاعر الفقراء ، لأنه فقير ، ولا غضاضة أنه فقير ، فالذي أوصله لفقره ، تمسكه بالمباديء والمثل العليا والوطنية ، فهو يأنف ويستكف أن يكون مداحاً للملوك ، ليأكل من فتات موائدهم ، وهذه محاسن يحق له أن يفخر بها ويعتز . لقد حزّ في نفسه أن يكون ومواطنيه فقراء ، حتّى أنه لم يُبقِ من المال عند وفاته ما يُنْفَق على تجهيزجنازته ، بسبب تجنبه ذل سؤال الناس والحكام والملوك ، فقال في بيت له: وكم جنبتني عزة النفس منهلاً *** يطيب به – لكن مع الذل – مورد عاش (الرصافي) ومات فقيراً ، سيما في أواخر أيامه التي قضّاها في الأعظمية من مدينة بغداد ، وصدى قصائده عن الفقر والفقراء يرن في مسامع محبيه ومريديه ، ولسان حالهم يردد بيته المشهور : سكنت الخان في بلدي كأني أخو سفر تقاذفني الدروب ******************** أمّا قصيدته (الأرملة المرضعة) فقد أبدع في وصف هذه الأرملة التي تحمل وليدتها ، يثقلها الفقر الذي يكاد يقعدها عن الحراك .. عند قراءة هذه القصيدة ، تشعر أن أبياتها تجذبك وتستدرجك بيتاً بيتاً ، حتى تنتهي الى آخرها ، وأنت لا تحسن أن تلتقط انفاسك ، أو أن تحظى بفرصة تتدارك فيها هذه المعاني العظيمة ، لتتوقف عندها تمحصها وتهضمها ، فهي تسبقك ولا تسبقها ، لا تترك لك أدنى فرصة لتفكر وتتمعن في بلاغتها وحسن بيانها ، تنساب برقة وسهولة من ناظريك ، تتجول في دهاليز ذهنك رغماً عنك ودون استئذان ، فتغادره إن طابت لها المغادرة ، وتمكث فيه لو شاءت ، تنزلق من أوتار حنجرتك إنزلاقاً حتى تفرغ منها ، لا يبقى منها سوى ذكرى أليمة تخالطها متعة ، تشدك الى موضوعها الذي يصعب أن يغيب عن ذاكرتك ... يقول ( الرصافي ) فيها : لقيتها ليتني ما كنت ألقاها** تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أثوابها رثة والرجل حافية** والدمع تذرفه في الخد عيناها في هذه القصيدة يجمع (الرصافي) إهتماماته وتأثراته بالمرأة والفقر وقضايا الإصلاح الإجتماعي في قصيدة واحدة حيث يقول في موضع آخر منها: كانت مصيبتها بالفقر واحدة** وموت والدها باليتم ثناها ثم اجتذيت لها من جيب ملحفتي** دراهماً كنت أستبقي بقاياها وقلت با أخت مهلاً إنني رجلُ** أشارك الناس طراً في بلاياها واجهشت ثم قالت وهي باكية** واهاً لمثلك من ذي رقة واها لو عمّ في الناس حسٌ مثل حسك لي** ما تاه في فلوات الفقر من تاها أولى الأنام بعطف الناس أرملة** وأشرف الناس من في المال واساها ********************* نظرته الى المرأة : قصيدة (التربية والأمهات) بينت لنا عناية (الرصافي) الكبيرة بالمرأة الأم ، فما جدوى الإهتمام المجرد بالمرأة ، إن لم يصاحبه تركيز على إعدادها ، إعداداً منهجياً محكماً لبناء المجتمع عن طريق أمومتها ، فتنشيء للمجتمع رجالاَ ونساء تتعهدهم منذ ولادتهم حتى وصولهم للسن الذي يعتمدون فيه على انفسهم ، تبث فيهم الصلاح والتقوى وتدربهم على الكياسة وبعد النظر ، وتعلمهم الشجاعة الأدبية ، وتذاكر دروسهم معهم ، بل تعلمهم احياناً كيف يكون الإقدام في القتال ، فقد كانت النساء يرحن الى الحروب مع الرجال ، فها هي المرأة الام مدرسة بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، وهي اشد ضرورة من الرجال للأبناء لأنها تنشيء الأجيال ، وتبني المجتمعات الفاضلة ، فالرصافي في قصيدته (التربية والأمهات) ، كان تربوياً يريد ان يحض على اعداد ام متعلمة مؤمنة تنتج رجالاً يعقد عليهم المجتمع الآمال ويرجو منهم الخير ... يقول من قصيدته (التربية والأمهات): واخلاق الوليد تقاس حسناً** بأخلاق النساء الوالدات فكيف نظن بالأبناء خيراً** اذا نشئوا بحظن الجاهلات وهل يرجى لأطفال كمالٌ** إذا ارتضعوا ثدي الناقصات ويقول ايضاً : وقالوا الجاهلات اعف نفساً** عن الفحشا من المتعلمات اليس العلم في الإسلام فرضاً** على ابنائه وعلى البنات الم نر في الحسان الغيد قبلاً** اوانس كاتبات شاعرات ********** الاصلاح الاجتماعي : بحكم الوظائف التي مارسها (الرصافي) ، فقد صنعت تلك منه مصلحاً تربوياً اجتماعياً ، فجسّد كل ذلك عبر قصائد كثيرة ، فقد كان معلماً للعربية في (الإستانة) ، ونائباً في مجلس (المبعوثان) العثماني ، ومدرساً للأدب العربي في دار المعلمين بالقدس ، ونائباً مرة اخرى في مجلس النواب في بغداد ... هذه الوظائف كانت تربويةً تعليميةً إجتماعية ، قربته الى الناس اكثر ، وجعلته يشعر بمعاناة الفقراء ، وهضم حقوق النساء ، ولمس بنفسه عدم العدالة وعدم استقامة الحال في المجتمع ، والغبن الذي كان يحيق بالناس في تلك الفترة ، فتصدى لكل ذلك في قصائده الرائعة ، وهو اصلاً كان يشعر بالغبن وبالفقر ، لأنه كان انوفاً لا يطرق ابواب الملوك والحكام ، ولا يحب ان يجلس على موائدهم ، يريد للشعب ان يجتهد ويعتمد على نفسه ليقوم بالإصلاح الإجتماعي ، ليكون بلا فقر او عبودية او معاناة ، سيد نفسه ، ومالك امره ، وقد ظهر ذلك في قصيدته (الحياة الإجتماعية والتعاون) حيث يقول : يعيش الناس في حال إجتماع** بمال من مكاسبهم مشاع تشاد به الملاجيء لليتامى** وتمتار المطاعم للجياع وتبنى للعلوم به المباني** تفيض العلم مؤتلق الشعاع ثم يحض على التعاون والاتحاد بين الافراد فيقول : يساند بعضهم في العيش بعضا**ً مساندة ارتفاق وانتفاع فتعلو في ديارهم المباني** وتخصب في بلادهم المراعي رحم الله الشاعر الرصافي الذي يرقد في مقبرة الخيزران في مدينة الأعظمية في بغداد ، بجانب جامع الإمام ابو حنيفة النعمان منذ العام 1945 ميلادي .