من معتكفه تحت أنوار تفسير القرآن الكريم، بالديار الليبية، حيث لازال يأوي إليها منفيا، بعث الشيخ عبد الكريم مطيع إلى الشيخ عبد السلام ياسين بكلمة رقيقة، وجيزة، ودقيقة، في معرض إهدائه إحدى حلقات تفسيره لسورة النساء، إلى من اعتبرهم ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية وإلى غيرهم، ممن يكونوا قد أخطأوا في تقييم دور الرجلين والانتقاص من أقدارهما. غير أن تلك الكلمة المفردة بكل دقتها ووجازتها، أثارت كثيرا من فضول المحللين والمتتبعين للشأن السياسي المغربي، الذين راحوا يتعبون في اعتصار دلالاتها وأبعادها، ويفككون رموزها المشفرة، ويلوون عنقها أكثر مما تلوى أعناق كلمات السر في زمن الحروب. والحال، أنها كلمة مفعمة بمعان عميقة، لكنها بأعظم مما ذهب إليه الذاهبون، وهي تحلق في سماء إشراقات الحبور والظفر والرضى، ومن خلالها يهنئ الشيخ مطيع رفيقه القديم، باختتام مرحلة طويلة من عمرهما في عبور الطريق الشاق واللاحب، أفنياه معا في رسم معالم المغرب الجديد، بعطاءات الإرشاد وخدمة الدعوة الإسلامية، كلمة تنضح - من ظلال الانتعاش الروحي - بفيوضات إنعاش الذاكرة المشتركة بين الرجلين، تذهب بهما بعيدا إلى السنوات الأولى من الشباب. فبعد أن انبلج فجر الاستقلال سنة 1956، ارتبط ثلاثة رجال بعلاقة الصداقة الحميمة من صلب وظيفة التعليم، التي قدر لهم أن يمارسوها قريبين من بعضهم بمدينة الدارالبيضاء، وهم، عبد السلام ياسين، وعبد الكريم مطيع، وإبراهيم كمال. في تلك الخمسينيات من القرن الماضي، من عمر المغرب الفتي، الضامر، الوليد لتوه من رحم الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، لم يكن ليدور في خلد أي من الأصدقاء الثلاثة، وهم بالكاد في يفاعة وغضاضة الشباب، وغضارة العود والوعي، أنهم سيكونون يوما ما روادا صانعين لتاريخ المغرب الحديث، يقودون الأجيال تلو الأجيال بالفكر والرأي والقدوة والمثال في دروب النضال والتدافع. كان عبد السلام ياسين وهو أعلاهم رتبة وظيفية، لما كان مفتش تعليم، لا يروق له العمل إلا باصطحابهما معه لمساعدته في تكوين رجال التعليم، ولا يهنأ إلا بالرجوع إلى استشارتهما، لما كان يثقف في رأيهما من رجاحة العقل، وحسن التدبير والتخطيط، فكان يرتوي من حماسهما المهني، النابع من شعورهما النضالي الوطني، إذ كان عبد الكريم مطيع وابراهيم كمال في طليعة الجناح المتوثب من الحركة الوطنية، والذي سيصبح بعد فترة، معروفا بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ومن موقعين مختلفين في رؤية النهوض بالبلاد وطنيا، موقع الترقي العلمي والحضاري بالنسبة لعبد السلام ياسين، وموقع النضال السياسي بالنسبة لعبد الكريم مطيع، وابراهيم كمال، كان الثلاثة يبحثون بهمة مشبوبة، وبنقاشات مستميتة، عن الحقيقة التي يصبو إليها كل وطني غيور من أجل خلاص البلاد والعباد. وفي أواخر الستينيات، من القرن الماضي، وبعد سنوات من مخاض البحث الحثيث والمرير، رست حيرة الأصدقاء الثلاثة عند مرفأ البدء في العمل الإسلامي، وسلوك طريق الدعوة الإسلامية، من أجل تربية الأجيال المؤمنة الربانية، على هدي التوجيهات القرآنية، والتعاليم النبوية، تحصينا لهوية البلاد ومستقبلها من المؤامرات الاستعمارية التغريبية، والتي لم تيأس من استعباد المغاربة مرة أخرى، واقتطاعهم من تاريخهم، ومسخهم وطمس هويتهم. غير أن عبد السلام ياسين رأى أولوية الانغماس في التصفية الروحية، والنهل من التراث الصوفي، واختيار مسلك السالكين على درب الطريقة والتنسك، شرطا أولا للانطلاق، فيما أنضج عبد الكريم مطيع بتجربته المتحصلة من الحركة الوطنية، ومن العمل السياسي المناهض، أنضجها بالاستنارة بمنهج الدعوة الإسلامية النبوية، وتراث الحركة الإسلامية المعاصرة، فانطلق رفقة خليل دربه ابراهيم كمال، أول خطيب إسلامي متحرر، على منابر المساجد، انطلقا يؤسسان للعمل الإسلامي المنظم، في أول تجربة حركية نوعية بالمغرب ترنو إلى ابتعاث الجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة الكرام، في مغرب القرن العشرين. ويشاء القدر الإلهي الحكيم أن يفرق بين الأصدقاء الثلاثة الأحبة سنة 1974، فراقا بين الأجساد، لا بين الأرواح، لازال أمده ممتدا إلى الآن، بعد سنين عديدة من الرفقة، والملازمة، والمصاحبة، والمكاشفة، والتي لم تنقطع على مدار ذلك الزمن، روحا وجسدا ووئاما وسجالا. كان ذلك حينما اختلفت الاجتهادات بين منهجين، منهج عبد السلام ياسين، الذي توخى البناء من الأعلى، بالمناصحة للسلطان والمصارحة لأولي الأمر، من خلال رسالة الطوفان التاريخية، ومنهج حركة الشبيبة الإسلامية التي توخت البناء من قاعدة المجتمع، بتربية الشباب والأجيال الصاعدة سلوكا وعقيدة وتنظيما، اختار من خلالها عبد الكريم مطيع، وابراهيم كمال، مشروع تخريج النخب المؤمنة المؤهلة لترشيد الأمة وريادة البلاد. إذ سرعان ما ابتلعت المحنة في ظلماتها، مصائر القادة الثلاثة للحركة الإسلامية، بين الاعتقال والاختفاء القسري لعبد السلام ياسين، وابراهيم كمال، وبين الملاحقة والتغريب والنفي لعبد الكريم مطيع. وتمر الأيام وتنصرم العقود، وتتحول أحلام الفتيان الثلاثة، إلى واقع عنيد على الأرض المغربية، إصلاحا وترشيدا وبناءا في عمق المجتمع، وتنتج الجهود، والمواقف، والأفكار التي بذروها على وهن من أمرهم، وقلة حيلتهم، وهوانهم على الناس، حالة اجتماعية في المغرب الأقصى الأصيل، غدت بها كل البيوت المغربية مشدودة إلى الأصالة الإسلامية، جزئيا أو كليا، بسبب أو بآخر، اهتماما أو مناصرة، اعتناقا فعليا أو محافظة واحتراما. وانحسرت موجة المناوأة للدين التي خلفتها عدوى الاستعمار البغيض إلى الدرجة التي غاصت نقطتها في أمواج بحار التدين والمحافظة والاختيار الإسلامي مشروعا فكريا وسياسيا وحضاريا. لقد قدر الله للرجال الثلاثة، الذين يطلون الآن على العقد الثامن من أعمارهم، أن يغيروا موازين الحراك الاجتماعي والسياسي في البلاد، وأن يعيدوا صوغ تركيبة الرأي العام، والثقافة السائدة، وفق معادلة تغليب القيم الحضارية الإسلامية. وبعد أن اشتعلت الرؤوس شيبا، ووهنت العظام منهم، وبلغوا من الكبر عتيا، ولم ينفكوا بعد عن مواصلة العطاء، ومن مواقعهم الدعوية قيادة وإرشادا، عبد السلام ياسين مرشدا لجماعة العدل والإحسان، وعبد الكريم مطيع مرشدا للحركة الإسلامية المغربية وشبيبتها الإسلامية، وما تفرعت عنها من جماعات وأحزاب ومنظمات، الماسك منها بمقاليد الحكم، والمعارض منها والرافض، وكذا ابراهيم كمال مرشدا روحيا لحزب النهضة والفضيلة ذي المرجعية الإسلامية. واستشعارا لنعمة الفضل الإلهي، وحمدا للعناية الربانية، بأن انفرطت عقود الأعمار، في خدمة الرسالة الدعوية، وصيانة التلاحم الوطني بوشائج العقيدة والهوية الجامعة، والتاريخ الموحد، وقد تحقق النجاح بأن استمر المغرب الأقصى في أصالته واستقراره الروحي، فكانت من الشيخ عبد الكريم مطيع تلك الالتفاتة الذكية إلى شقيقه الروحي الشيخ عبد السلام ياسين، من محرابه المتفرغ فيه لتفسير القرآن العظيم، تذكيرا له بذلك الماضي البعيد، الغابر، والدفين، حينما كانوا صغارا، يشقون في البحث عن الحقيقة، وقد من الله عليهم بالآلاء التي يرونها رأي العين ويحسونها ملء الوجدان وهم اليوم كبار قدرا وشرفا. عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة الدارالبيضاء بتاريخ : 01/02/2012