شهر رمضان هومن أفضل الشهورفي السنة وأفضل عشراته العشر الأواخر منه لأنها خواتم أعماله، وخير الأعمال خواتمها، ولأنها تحتضن في أحشائها ليلة القدر، وأفضل ليالي العشر الأواخر عند الله تعالي هي ليلة القدر، إذ هي ذكرى وأعظم بها من ذكرى؛ ذكرى دستور المسلمين، وذكرى نزول القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا}، ويقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، وفي الحديث المتفق عليه يقول النبيصلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»؛ فبإحيائها يكوِّن المسلم لنفسه عمرا كاملا من الطاعة والعبادة، فألف شهر يعادل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر...؛ ولكن أية ليلة هي ليلة القدر من ليالي هذه العشر؟ اختلف العلماء في تحديدها ولم يتفقوا؛ وعلى وجه التقريب أقول: منهم من يقول: هي في السنة كلها وهذا بنسبة (100 %)، ومنهم من يقول: هي في رمضان بنسبة (90 %)، ومنهم من يقول: هي في العشر الأواخر بنسبة (80 %)، ومنهم من يقول: هي في الوتر من العشر بنسبة (70 %)، ومنهم من يقول: هي ليلة 27 بنسبة (60 %)، ولكن الراجح أنها في الوتر من العشر، روى البخاري ومسلم أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»؛ فيمكن أن تكون ليلة الواحد والعشرين، أو الثالث والعشرين، أو الخامس والعشرين، أو السابع والعشرين، أو التاسع والعشرين؛ وقد اختلف فيها حتى الصحابة رضوان الله عليهم فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «مَن يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ القَدْرِ »، فيرد عليه الصحابي الجليل أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه بأدب فيقول: «يَغْفِرُ الله لأبي عَبْدِ الرّحْمَنِ (كنية ابن مسعود) لَقَدْ عَلِمَ أنّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنّها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِينَ ولَكِنّهُ أَرَادَ أَلاَّ يَتّكِلَ النّاسُ ثُمّ حَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أَنّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». رواه مسلم. هذا خلاصة ما في تحديدها ولا يوجد تحديدها مائة بالمائة إلا في السنة كلها؛ ودعونا نتساءل: لماذا لم يبينها لنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم فنطمئن ونستريح؟! ولم هذا الغموض الذي يلف ليلة القدر؟! الجواب: في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما) فقالصلى الله عليه وسلم: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس». والتلاحي هو: الخصام والنزاع، والشقاق والصراع، ونحن في زمن قد وثر بأحداثه المتسارعة الأعصاب، وحير بوقائعه المتصارعة الألباب؛ هذا خصام بين رجلين حال بين أمة الإسلام، وبين معرفة ليلة القدر من الليالي والأيام؛ فكيف بالخصام بين الأسر والعائلات؟! فكيف بالصراعات بين الأحزاب والقبائل والجمعيات والجماعات؟! فكيف بالحروب والقتال بين الدول والحكومات؟! فكيف بحروب أحرقت الملايير من الثروات؟! وحصدت أرواح ملايين الأبرياء من أطفال ونساء ورجال وشيوخ، والكل باسم الإسلام بلا شرف ولا قيمة ولا عزة ولا شموخ؛ والكل باسم الإسلام يدْعُو ويدَّعي، والكل باسم الإسلام يعْدُو ويعْتَدي! إلى متى هذا الوهَن؟! وإلى متى هذا الوهْم؟! فمن أين تأتينا نفحات ليلة القدر والكل يتلاحى؟! سواء على مستوى الأفراد والأسر، وعلى مستوى الجماعات، وعلى المستوى الإقليمي، وعلى المستوى الدولي، فأينما حل المسلمون يحل من بينهم التلاحي؛ وقد اشتعلت في الواقع وقائعه الانتقاصية، كما اشتعلت في المواقع الافتراضية؛ والطامة الكبرى حينما يساق حتى بعض العلماء لمعمة هذا التلاحي كالأنعام، فينساقون وراءه ويتحولون إلى وقود لناره، وحينما يختلف معهم أحد، حتى في مسألة بسيطة من هذا، يبدؤون بسبه وشتيمته، ويبادرون بتوزيع ألقاب التضليل والتبديع على ملته، والتنقيص من قدره وقيمته، واتهامه في علمه وعمله ونيته، وشهر رمضان هو شهر ضبط النفس وعدم الانفعال، شهر التسامُح ليعفو بعضنا عن بعض، لا شهر التماسيح ليهاجم بعضنا على بعض؛ فها هو أبي بن كعب من الصحابة حينما اختلف مع بن مسعود في ليلة القدر رد عليه بأدب فقال: «يغفر الله لأبي عَبْدِ الرّحْمَنِ»؛ أين مثل هذا الأدب الرفيع عند هؤلاء العلماء اليوم، الذين لا يحسنون إلا سب المخالف وشتمه وتبديعه وتكفيره؟! أيها الاخوة المؤمنون؛ إن التلاحي بين المسلمين أمر خطير يفسد الدين والدنيا معا: فالتلاحي خطر لأنه داء وضرر يفتت جسد الأمة؛ ويشتت بنيانها، ويفسد العلاقات فيما بينها، ويزرع الكراهية والبغضاء في قلوب أفرادها؛ والنبيصلى الله عليه وسلم يقول فيما يجب أن تكون عليه قلوبنا في الإحساس والشعور: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى» رواه مسلم، كما يقولصلى الله عليه وسلم فيما يجب أن يكون عليه شكلنا ومظهرنا: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. رواه البخاري ومسلم فالتلاحي خطر لأنه مفسد للدين؛ بل يستأصله من جذوره، ويستنظف رسمه من أساسه حتى لا يبقى إلا مجرد اسمه؛ وفي ذلك يقول النبيصلى الله عليه وسلم فيما روى الترمذي: «دَبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ؛ والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أنبئكم بما يُثَبِّتُ ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم» نعم يا رسول الله؛ «أفشوا السلام بينكم» بالفعل وليس بالكلام، وقالصلى الله عليه وسلم: «أَلا أُخبِرُكُم بأفضلَ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقةِ؟ قالوا: بلى، قال: صَلاحُ ذاتِ البَيْنِ، فَإِن فسادَ ذَاتِ البَيْنِ هي الحَالِقَةُ» رواه أبو داود والترمذي. فالتلاحي خطر لأنه مانع لغفران الذنوب؛ يقول النبيصلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام مسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس؛ فيغفر الله عز وجل لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيُقال: أنظِرُوا هذين حتى يصطلحا» وفي رواية: «اترْكُوا هذين حتى يصطلحا». فالتلاحي خطر لأنه منفر للملائكة وجالب للشياطين؛ فقد روى الإمام أحمد: «أن رجلا شتم أبا بكر والنبيصلى الله عليه وسلم جالس... يَعْجَبُ ويبتسم، فلما أكثر ردَّ عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبيصلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددتُّ عليه غضبتَ وقمتَ؟! قالصلى الله عليه وسلم: إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه ذهب الملك وقعد الشيطان، فلم أكن لأقعد في مجلس مع الشيطان». ولهذا كله وغيره كان التلاحي بين المسلمين حراما؛ فقد قال النبيصلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، أخرجه الإمام مالك والبخاري ومسلم، وخطبصلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، اللهم قد بلغّت اللهم فاشهد، كل المسلم على المسلم حرام؛ ماله ودمه وعرضه» رواه البخاري. ألا إن قوة الأمة في التلاحم لا في التلاحي؛ ألا إن قوة المسلمين في التصالح والتناصح والتسامح، لا في التشاجر والتناحر والتناطح، ألا إن قوة الأمة إنما تبنى على أساسين: (توحيد الكلمة، وكلمة التوحيد)؛ وأعداء الإسلام -ووراءهم أدعياء الإسلام على حد سواء- يحاربون الأولى بزرع التلاحي والتفكيك، ويحاربون الثانية بنشر التشويه والتشكيك. إن إحياء ليلة القدر يكون بالأعمال الصالحة وقد بين لنا الرسولصلى الله عليه وسلم أقلها فقال فيما روى الإمام مسلم: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله»؛ ولكن القيام الكامل يحصل بإحياء الليل كله، أو معظمه بالصلاة وتلاوة القرآن، أو بالدعاء وذكر الرحمن، أو بالصدقة والإحسان؛ روى الترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قلتُ يا رسول اللَّه! إن علمتُ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قُولي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي». ولكن أي نوع من إحياء الليالي نريد؟ فمنا من يحيي الليالي بجسده فقط فيصلي ويقرأ ويتحرك، ومنا من يحييها بعقله فيتدبر ويتفكر، ومنا من يحييها زيادة على ذلك بقلبه ورحه فيتخشع ويتأثر؛ هل المطلوب إحياء الليالي بالجسد فقط، أو بالعقل والقلب والروح أيضا؟ وحتى نفهم هذا أضرب لك مثلا: لو قيل لك: إن مسؤولا كبيرا في البلاد قاضيا أو وليا أو وزيرا أو أميرا ينتظرك في الهاتف، يريد أن يتصل بك لتحاوره وتناجيه لتطلب منه ما تريد؛ فكيف يكون حالك؟ نعم ستستجيب حتما، وستستجمع جسدك وعقلك وقلبك ورحك حالا. فهذا إحياء الليالي بكل مكوناته من صلاة وتلاوة وذكر ودعاء إنما هو جهاز الاتصال مع الله تعالى، إنما هو الهاتف الذي بإمكانك أن تتصل من خلاله مع خالق الأرض والسموات؛ لتناجيه، لتحاوره، فتطلب منه بإلحاح العفو والعافية، فيستجيب لقضاء أغراضك، وينعم بشفاء أمراضك، ويتفضل بستر أعراضك؛ فلماذا لا تستجمع مع جسدك عقلك وروحك وقلبك؟ فلماذا ندعو ونلهو والله لا يستجيب الدعاء من قلب لاه غافل؟ يجب ونحن ندعو في ليلة القدر بهذا الدعاء «اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنَّا» أن نستعرض في نيتاتنا مشاكل الأمة ومعاناتها، فنسألَ لها العفو والرحمة، وكشف الهم والغمة، ونسألَ لها العفو من هذا التلاحي الشامل الذي دمرها، وشتت شملها، وفتت أمرها، فهو سلاح الدمار الشامل، وهو السلاح الفتاك المزلزل، وقد جاء في الأثر: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». وقال الشافعي رحمه اللّه: "يستحبّ أن يكون اجتهادُه في يوم ليلة القدر كاجتهاده في ليلتها، ويستحبّ أن يُكثرَ فيها من الدعوات بمهمات المسلمين، فهذا شعار الصالحين وعباد اللّه العارفين". لا تبحثوا عن ليلة القدر بين أعمدة المساجد فحسب؛ ابحثوا عنها في بر الوالدين، وصلة الرحم، وإطعام مسكين، وكسوة عار، وتأمين خائف، ورفع مظلمة، وإعالة يتيم، ومساعدة مريض، وتفقد نازح، ومواساة فقير وتشغيل عاطل وإكرام ضيف وعدم أذية جار ومصاحبة صديق عزيز وتعليم صنعة لمن يريد تعلمها لوجه الله تعالي والبعد عن غش السلع الغذائية وغير الغذائية بالمواد الضارة التي تتلفها فورا وتضر الانسان الذي يتناوله أو يستعملها ابحثوا عنها أيضا في عدم الكذب والالتزام بالصدق في القول والفعل والعمل والبعد عن الرشوة والمحسوبية والظلم والافتراء علي الناس بالظلم ابحثوا عنها أيضا في عدم احتكار السلع وتخزينها وبيعها بأزيد من ثمنها أوقات الأزمات أبحثوا عنها ايضا في اتقان العمل والشفافية فيه ...الخ فكما تبتغوها بالركوع والسجود، ابتغوها أيضا بالسخاء والكرم والجود، ابتغوها بالفلوس والنقود والرحمة ومعاملة الناس بالتسامح والحب الخالص لوجه الله تعالي في السر والعلانية. أطعموا جائعا، أكرموا يتيما، اكسوا عاريا، عودوا مريضا، واسوا أرملة، أحيوا أملا في نفسِ يائسٍ، أعيدوا البسمة إلى وجه بائس، ولا تحقرن من المعروف شيئا؛ ولو أن تلقى أخاك بشوشا بوجه طلق. ابحثوا عنها في ضمائركم وقلوبكم قبل مساجدكم فصنائع المعروف تقي من مصارع السوء .... اللهم اجعلنا من عبادك المقبولين والفائزين برضوان الله في الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ------ بقلم/ محمود طلبه كاتب وباحث وداعية مصري