" حقا إن المحنة تولد الإرتباط " تتمتم السيدة سعاد في خاطرها وهى تقف في طابور الإقتراع الطويل أمام اللجنة الإنتخابية للإدلاء بصوتها " هذه هى المرة الأولى التي أدلي فيها بصوتي " هذا بالرغم من أنها قد بلغت الخمسين من عمرها وقد لاحظت أن الكثيرات مثلها تماما يأتين لأول مرة ، بعضهن في العقد السادس من العمر وأخريات أكبر من هذا العمر ، رأت رجلاً مسناً في اللجنة المجاورة يسانده جنديان من الجيش يقول أن عمره ثلاثة وسبعون عاماً وهذة أول مرة طوال عمره ينزل فيها من أجل الإنتخابات . لقد أخذت اليوم أجازة من العمل خصيصا من أجل الأدلاء بصوتها ولأول مرة تشعر أن من واجبها وحق عليها أن تدلي بصوتها من أجل الوطن ، من أجل مصر ، من أجل الشباب الذين استشهدوا منذ اندلاع الثورة - ثورة 25 يناير العظيمة - وما مر بنا من محن وأزمات اقتصادية وانفلاتات أمنية وفتن طائفية ووقفات احتجاجية وفئوية وصراعات وبلطجة . " ربنا يسهل " قالتها بصوت عال وهي واقفة في الطابور الطويل الذي لا ينتهي ترى الأحداث الجثيمة التي مرت بها البلاد أمام عينيها قبل موعد الإنتخابات وحالة الناس والقلق والخوف الذي أصابهم وهم يرقبون ما يحدث في كل مكان من اعتصامات ومواجهات وصراعات مرة أخرى مع الشرطة وسقوط عدد ليس بقليل من الشهداء . انتشت بفخر وهي ترى اقبال الجماهير بجميع الفئات وجميع الأعمار - شباب ورجال وشيوخ وبنات وسيدات وعواجيز - " ماراثون : سباق مع الزمن للوصول إلى صناديق الإقتراع ، رغم صعوبة الطقس البارد والمطر يهرع الناس إلى لجان الإنتخابات ، الناس ، انزاح الهم عن قلوبهم " وتمصمص بشفتيها اعجابا بإصرار الناس على الأدلاء بأصواتهم . شعرت بالتعب أخذت تنظر حولها علها تجد مقعدا تريح جسدها قليلاً ، رمقت بعينيها الساعة في معصمها ، لقد مرت ساعة كاملة والطابور مازال واقفاً ، خيل إليها أنه لا يتحرك .. وجدت مقعد البواب بجانب بوابة العمارة وجلست لتنال قسطاً من الراحة ، تنفست الصعداء وهي تنظر إلى الحشد أمامها تنتابها هالة من الخواطر " إنها لم تخرج في اليوم الأول للإقتراع فعندما أعلنت الحكومة أن الإقتراع مدته يومين رأت (هي) أن تخرج في اليوم الثاني ويبدو أن هؤلاء القوم عندما استشعروا الأمن والأمان في اليوم الأول أقبلوا جميعا مثلما فعلت هى في اليوم الثاني ، لقد لاحظت إقبال كثيف من المرأة علي صناديق الإقتراع إيمانا منها بدورها الفعال في المجتمع ، هذه هي المرأة المصرية " تومئ برأسها ويروم الفخر في عينيها وهي تري رجال الجيش والشرطة يلتفون مع الجمهور من أجل الحماية والأمن العام . مرت ساعة ثانية وتحركت السيدة سعاد من مقعدها لتلحق بالصف الذي تحرك قليلا لتجد مقعدا آخر تجلس عليه وتتذكر أنها بالأمس جلست أمام التلفاز طوال النهار مثل باقي الأفراد والأسر في منازلهم من شعب مصر العظيم لمتابعة سير عملية الإنتخابات التي كان يغطيها التليفزيون المصري في جميع المحافظات ، كم شعرت بفخر !! وهي تري عرس الديمقراطية يتوج في إصرار الناس وإقبالهم على صناديق الإقتراع ، الكل حريص على الأدلاء بصوته ويعلم تماماً بقيمته ، صورة مشرفة للشعب المصري الذي أثبت أنه صاحب القرار وقادر على تحقيق الأمن وتصحيح المسار من أجل الديقراطية ، أحست بعمق الوعي لدى الناس ورغبتهم الشديدة في تعميق الفكر الديمقراطي لديهم .. همست تكلم نفسها " الوعي تراث موروث في حضارتنا ومتأصل في ثقافتنا .. مصر تعيد اكتشاف نفسها .. نعم " وفركت أصبعيها لتحدث صوتاً مطقطقاً وهي تبتسم تستحسن هذا الخاطر . شاهدت السيدة سعاد كما شاهد معظم الجمهور المصري والعالم أجمع السيدة المسنة المقعدة وجنودنا الأبطال يحملنها للأدلاء بصوتها في إحدى اللجان وأخرى كهلة عجوز لا تستطيع صعود الدرج ينزل إليها القاضي المسئول من الطابق الثاني حاملاً أوراق الإقتراع إليها ، الإصرار والحرص الشديد والشعور بمسئولية الصوت وقيمته وتأثيرة في مستقبل بلدنا هو الباعث الحقيقي والقوي وراء خروج هؤلاء ، مواقف عظيمة وصور مشرفة في التلفاز تحدث أمام لجان الإقتراع في جميع أنحاء البلاد ، الشعب هو البطل الحقيقي في ميدان أحداث الانتخابات ، أناس بسطاء وفقراء يتوافدون يبدو الإصرار والعزم واضحين في عيونهم على تحقيق هدفهم المنشود . توجة مراسل إحدى القنوات الفضائية يسأل افراد من الجمهور أمام إحدى اللجان عن الباعث لتواجدهم رغم الحالة الصحية لبعضهم وكبر السن كانت إجابات بعضهم مشرفة وعميقة الوعي : " أعمل حاجة لبلدي .. وأنقذ أولادي " إحدى المصوتات . " أحسست أن صوتي له قيمة ويفرق كثيراً " مصوت آخر ، "أول مرة أشارك في الإنتخابات" - لماذا ؟ " من أجل بلدي ومن أجل الشباب " مصوت ثالث . " أحد القضاة مسئول عن إحدى لجان الإقتراع لم يذهب إلى بيته بعد إنتهاء اليوم الأول ولكنه نام ليلته داخل سيارته الخاصة أمام اللجنة حرصاً منه على صناديق الإقتراع ، أرواح عجيبة تتملك الناس هذه الأيام ، ترابط وارتباط وشعور بالمسئولية تجاه البلد يكتنفهم " مازالت تهمس في خاطرها وقد مرت ساعة ثالثة عليها وهي لاتزال تصف في طابور الإنتخابات . " مصر تعيد اكتشاف نفسها " تمتمت وهي تنظر خلفها لترى الطابور ممتد حوالي كيلو من المترات حتى أنه يمر بالعمارات المجاورة للجنة الإقتراع ، " المحنة التي مرت بها البلاد هي التي جعلت الناس تتكاتف وتتلاحم وترتبط ببعضها ، أصبح هناك تفاؤل كبير لديهم بعد الشعور بالكآبة الذي تملكهم من مرارة الأحداث الأخيرة والشباب الذي سقط شهيداً في ميدان التحرير وشارع محمد محمود من شباب الثورة والشرطة ، دم أبنائك غال يا مصر ، الناس اتخنقت من الترقب والحذر والخوف والأنتظار وماكادت تصدق حدوث الإنتخابات إلا وهرعت الجموع الغفيرة من كل صوب إلى لجان الإقتراح ، هى الثورة أهم حدث وأعظم حدث شهدته البلاد ، لولا الثورة ماكان خروج هذا الشعب العريق بجميع فئاته وأعماره لإثبات ذاته ووجوده من أجل بناء دولة ديمقراطية حرة " انتبهت على نداء زميلة تقف أمامها في الطابور قائلة : أخيراً إقتربنا من باب اللجنة !! إنت فين ياأختي ؟ نظرت إليها تعلو شفتيها بسمة عفوية " أنا هنا " وخفضت عينيها تلمح الساعة في معصمها " يا خبر مر أربع ساعات " نهضت تستعد لدخول اللجنة ، مازال أمامها أربع نساء . تذكرت وهى تمسح دمعة فرت على خدها وهى تشاهد مراسل إحدى القنوات الفضائية عندما اختنق صوته من البكاء وهو يقول في تقريره " أن خمس فتيات حضرن متأخرات أثناء قيام القاضي بإغلاق صندوق الإقتراع وختمه بالشمع الأحمر ، بكى وهو يرى الحسرة تروم في أعينهن والحزن الشديد الذي بدا على وجوههن " . - إتفضلي .. الأسم ورقم التسلسل في الكشوف والبطاقة الشخصية من فضلك . سألها أحد رجال اللجنة الإنتخابية ؟ أخيراً أدلت السيدة سعاد في جو مريح تشوبه الشفافية والنزاهة وغمست أصبعها في الحبر الفسفوري وخرجت على عجل فقد تذكرت أن عندها موعد مع إحدى القنوات الفضائية . تمت بقلم / السيدالعربي رزق