مستشار / أحمد عبده ماهر إن التّصور الفكري الإسلامي الوارد بكثير من مراجع الفقه والحديث، الذي دمج بين التّسبيح والذّكر في قراب واحد دون تفرقة بينهما، بعث في فكر الأمّة نسيجا من خليط لا يجوز دمجه، ولا يجوز إخراجه للوصول لمعنى مستساغ للآيات، وهو ما تجده جليا بصفحات تلك المراجع. فلقد فرَّق القرءان الكريم بين الذّكر والتّسبيح، فقال (تعالى) على لسان نبيه موسى في سورة طه: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً{33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً{34}) وكل منهما في آية مستقلّة كما ترى. كما قال (تعالى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً{41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً{42}) الأحزاب وكل منهما (الذّكر والتسبيح ) في آية مستقلّة. ولقد كان لنشوء فكر وثقافة دمج الذّكر والتسبيح في قراب واحد في تلك المراجع أثره السيئ على الأمّة، فحين أخذ الناس عن تلك المراجع عدم الفصل بين الذّكر والتّسبيح تأثّر مذاق وشكل الدين في حياة المجتمعات الإسلامية، وفقد النّاس طريقة الوصول إلى درجة الإحسان التي قال عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وأذاق النّاس بعضهم بأس بعض، وظلّ الجميع يشكو من الجميع. 1 فالذّكر طريقة حياة وفقا لإرادة المعبود جلّ في علاه في كلّ وقت وحين، بينما التّسبيح هو حمد وتعظيم وتنزيه قولي لله ربّ العالمين في أوقات مخصوصة. 2 والذّكر صورة تنظيمية لكل شئون الحياة، وليتأمّل المسلم قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فقنا عذاب النَّارِ }آل عمران191 أمّا التسبيح فهو صورة قوليه بألفاظ محددة. 3 أمّا التسبيح (وهو أمر قولي) فهو يساعد على التدريب على ذكر الله، لكنّ ذكر الله أعمّ وأشمل وأعلى قدرا من التّسبيح، والذين دمجوا التسبيح في الذّكر والذّكر في التسبيح لم يتلمّسوا مراد الله من قوله تعالى: ({وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات56 فتراهم وقد تصوّروا تسبيحاتهم أنها هي الذّكر المعني بالقرءان في قوله تعالى:(....اذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } الأنفال45؛ أو قوله تعالى:(...اذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الأعراف69؛ أو قوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ..... }سورة المائدة7....إلخ، وترى النّاس تتعجّب من قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، والتعجب يكون حين تصوروا وحصروا العبادة على سجادة صلاة أو داخل مسجد ، فتصوروا الله يأمرهم بالانقطاع عن العمل وعن الحياة، وما ذلك إلاّ من القصور الفكري عن معنى ذكر الله ومعنى العبادة ومعنى الإخلاص. 4 والذّكر صورة من صور الحياة الفكرية للقوالب البشرية المؤمنة إيمانا حقيقيا، وهو في ذات الوقت سموّ بالروح، وهو صورة من صور الفعل والقول والصمت في كل أوقات الحياة، فالتّفكّر صورة من صور الذّكر لقوله تعالى: (......وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } سورة آل عمران191 أمّا التسبيح فهو صورة قولية في أوقات محددة بعينها. 5 والتسبيح شأن تشترك فيه الخلائق كلها لقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } الإسراء44. أمّا الذّكر فهو شأن خاص بالمؤمنين من البشريّة المكلّفة به على أسرها؛ لأنه فريضة على المخيّرين، حيث يقول تعالى: ({إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً* لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }سورة الأحزاب73&72. فعلى ذلك فإنّ من طمس الحقائق دمج الذّكر مع التسبيح حتّى طغا التسبيح، وانطمس الذّكر، وتلك هي حقيقة كثير من الممارسين للتسبيح وهم يظنّون أنهم يذكرون الله، لذلك فلا عجب أن تراهم في كل محافل المعاصي والغلظة، بينما هم يتصوّرون ويتشدّقون بأنهم الذّاكرون، وتراهم وقد أطفأ القصور الفكري جلاء حقيقة الذّكر عندهم فهم يتصوّرون أنهم من الذّاكرين الله كثيرا والذّاكرات لصلوات يؤدّونها في المساجد أو لتسبيحات وأوراد معينة في أوقات مخصوصة، وما ذلك إلاّ لانطماس المعنى الحقيقي لذكر الله في أفهامهم. أمّا الذين لا يسبّحون ولا يذكرون الله إلاّ قليلا بينما هم يعملون ابتغاء رضا النّاس، فهؤلاء أقرب إلى النفاق العملي منهم إلى الإيمان حيث يقول تعالى في شأن المنافقين: ({إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } سورة النساء142. فالمسلم الذّاكر تجد له قلبًا خاشعًا، وفكرًا ذاكرًا، وضميرًا شاكرًا، ونفسًا صابرة محتسبة، وهذا المسلم تنشأ له آلية التصدي للفتن، وذلك بالامتناع عن الوقوع في المعاصي لوجود واعظ له في نفسه، يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، وحتى إن وقع في المعصية فإنك تراه وهو معذب بسياط ضميره ذلك لأنه أوّاب مهما أذنب، وذلك ما أورد الله في شأنه بأول سورة القيامة: ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ{1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ{2}) وتجده وقد نشأت له خصيصة الصّبر مع الرضا على البلاء، ثم وفي مرحلة تالية تنشأ له خصيصة الحقيقة الإلهية لحبّ الله ولا أعنى هنا حبّ الله، إنما أعنى حقيقة حبّ الله وهى إكسير لذّة المجتبين لهذه النّعمة الكبرى. لذلك فمن حسن إسلام المرء التدرّب على الانشغال بالله في كل دروب حياته (وليس من خلال حضرة ذكر في وقت محدد، ثم ينقضي الأمر) فهذا هو أوّل مراتب الذّكر، فالذّاكر الحق ينشغل بالله حال أن يأوي إلى فراش نومه متوجها إلى الله، يجود بنفسه برضا إذا ما أمسكها الله حال نومه، ثم هو يتحرّى أن ينضبط ليقوم من نومه مع موعد صلاة الصبح في توقيت الفجر؛ ليستيقظ ملبّيا نداء ربه، ليصلّى إذا ما قدّر له مولاه الحياة، ثم يبدأ يومه وهو يضع رضا ربه نصب عينيه في كل قول أو فعل أو فكر حتى ينتهي يومه؛ فيأوي إلى فراشه ....وهكذا؛ ثم هو يتعايش دوما مع الله ويستشعر قرب مولاه فيظل هذا القرب يدنوا رويدا رويدا حتّى يصبح العبد عبدا ربّانيا. وإن الله حين قال جل في علاه: ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لمن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } التكوير28&27؛ يعنى ذلك أنّ القرءان منهاج حياة، وذلك هو الهدف، أمّا الوسيلة في أن يحيا العبد مستقيما على منوال القرءان فهي الترتيل والتّدبّر، ولكن للأسف الشديد فقد اتخذ الناس من القراءة بلا تدبّر وبلا منهجية من تفعيل القرءان في واقع الحياة هدفا لهم رغم أنه وسيلتهم للاستقامة بينما شريعتهم لم تكن أبدا غايتها القراءة المحضة كما يفعلون. أمّا التسبيح فهو صورة صغرى من صور الذّكر، فلا يمكن أن نتصوّر جرّاحا يقوم بعمله وهو يسبّح، إنما يمكن أن يكون ذاكرا لله إن قصد بعمله وجه الله، كما أنّ إبداعه في عمله يكون إبداعا واستغراقا في ذكر الله بما يعنى أنّ المسلم الذّاكر بعيد دوما عن الغفلة عن ذكر الله وقريب دوما من الله... وفي ذلك كنت دوما أقول لتلامذتي (تعامل مع الله الواحد الأحد يكفيك الله همّ كل أحد)، والمسلم الحق يسير على نهج تعظيم حبّ الله في نفسه اليوم عن يوم الأمس، وسبيله في ذلك هو الذّكر بمعنى الحياة لله مستحضرًا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } سورة الأنعام162. كما أن الذّكر أحد أسباب حياة القلوب فإنّ أهل الكتاب لماّ قست قلوبهم عن ذكر الله ذمّهم الله في القرءان، هذا فضلا عن أنه بيّن للمسلم أنّ الطريق إلى التقوى يمرّ عبر بوّابة الذّكر، وبيّن أنه لا يكفي المسلم أو المؤمن المخلص إسلام أو إيمان.... بل لا بد أن يخضع قلبه للخشوع الدائم عبر ذكر الله وفي ذلك قال تعالى في سورة الحديد: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{16} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{17}. فالمتدبّر للآيتين السابقتين يجد أنه ما كان الله ليضع في سياق الآيتين موضوع إحياء الأرض بعد موتها إلاّ لأن الذّكر حياة للقلوب، وقد ذكر الله ذلك بعد أن أخجل المؤمن بضرورة أن يأتي الوقت الذي يخشع فيه لله مما دلّ أيضا على أنّ الإيمان ليس كافيا للوصول إلى درجة الخشوع بل أنّ على المرء أن يستدفع إيمانه إلى طريق الخشوع عبر ذكر الله الدائم الذي سردنا شكله وطريقته أنّه الحياة لله ،وتأمّل قوله تعالى (ألم يأن) الواردة في أوّل الآيتين لترى حقيقة تلطّف الله مع عبده في الطلب فلابد علينا جميعا أن نصيح (أفلا نستحي ..أفلا نستجيب لذكر الله)!!!. فالذّكر هو الحقيقة الكبرى في كيان سعادة البشرية، فهو منبع ومنتهى السعادة في الدّارين للسالكين في رحابه، ولا يمكن بحال أن نقوم باختزاله في تسبيحات أو حضرات، يقوم بها البعض وهم يتصوّرون أنّهم يذكرون الله كما أراد وكما بيّن في كتابه، فمتى كان الله غائبا عن المؤمن التّقى حتى يستجلب نفسه في حضرته، أو استحضاره لله ربّ العالمين في نفسه، فيسبّح الله ويذكر الله ويختزل ذكر الله المطلوب آناء الليل وأطراف النهار في حضرة تبدأ وتنقضي بعد ساعة أو سويعات. فذكر الله المطلوب هو الذّكر الكثير، ويكون من قيام ومن قعود وعلى جنب، ويكون بالفكر وباللسان وبالجوارح وفي كل وقت وحين، ولا يكون للمرء ذلك إلاّ بتفعيل كتاب الله في كلّ مناحي الحياة، وبذلك نصل إلى درجة الإحسان التي نوّه عنها الحديث عن الصّادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، رواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي. ----------------- مستشار/أحمد عبده ماهر محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي