قرص الشمس الذهبي المشع في إشراقة جديدة ليوم جديد ، إنطلقت نسائم الربيع الساحرة لتملأ أركان حديقتنا الصغيرة أمام منزلنا الصغير ، بدأت الطيور بإستقبال الصباح بأجمل التغريدات التي أعجبتني ولطالما أبهرتني .. إستيقظت إثر وقع الحدث الجميل ، فتحت الشرفة وأزحت الستائر لأستقبل أروع منظر للحقول والمزارع الخضراء الساحرة ببلدتي الصغيرة ” سبحان الله . ” فهناك عشق بيني وبين اللون الأخضر الذي يريح عيني ونفسي ، وينقيني من شوائب الإرهاق واليأس والملل . فأثناء دراستي وكلما مللت من المدينة الصاخبة المزدحمة الجافية التي دائما تفتقد للدفء والحنو _ فأسارع بأخذ العطلة والإنتقال لقريتي الصغيرة الهادئة الخضراء ، والتي ريثما أطأ ترابها بقدماي فأمنح كل ماإفتقدته بالمدينة الجافية .. تناولت إفطاري ، سألت ” أمي ” أين ” أبي ” فأجابتي أنه قد ذهب إلي السوق لشراء حويجات المنزل . جلست أحتسي الشاي بحديقة المنزل الصغيرة ، بدأت أسترجع ذكرياتي المنقضية هاهنا .. تذكرت الأيام الخوالي وتلك ” الفتاة الصغيرة ” ، إبنة أحد جيراننا بالقرية ، كانت في غاية الجمال وتملك عينين عسليتين ، كانت شديدة ” الخجل ” ، وقد كانت تصغرني بعدة أعوام . كنت إذا ذهبت إلي حقلنا البعيد عن ” البيت ” بعض الأميال إلا وفي طريقي كنت أراها ، إنها الصغيرة الساحرة ، وهذا ” الحقل ” لهم وهي تعمل به ومعها أخيها الذي يصغر عنها لاحظت أنها تختلس النظرات لي ، فبادلتها الإختلاس في خجل ، ولكنها سرعان ما أدارت وجهها ونطقت ملامحها الخجل وقد مزج بكبرياء وتذمر .. إبتسمت وتعجبت ! لماذا تنظرني تلك الصغيرة الجذابة ، ولم الخجل والكبرياء ؟ بعد أن إبتعدت عنها وتقدمت في طريقي أحسست أنها تنظرني ثانية فباغتها بنظرة إلي الخلف فإكتشفت بأنها حقا كانت تتابعني بعيناها وسرعان ما عادت لتذمرها وخجلها .. وذات مره كنت عائدا من ” السوق ” وعندما ركبت السيارة فوجئت بالصغيرة ذاتها بالسيارة أيضا ، فجلست وكانت أمامي ، وبجوارها فتاة يافعة ، إبتسمتلي ونطق وجهها السعادة ، وبدأت تداعبني بعيناها الجميلتين ، نظراتها المليئة بالإهتمام والشغف جعلتني أرتجف وأشعر بالخجل ، فأنا أخجل إذا نظرت لي إحداهن . ثم إستثارت نظراتها نبضات قلبي فبدأت تزداد . إختلست نظرة لتلك الفتاة اليافعة .. أحسست بأن صغيرتي بدأت تغار ، وأنتهت فورا من مداعبة العيون ، وبدأت في جلدي بأقوي النظرات الحادة تارة لي وتارة للفتاة اليافعة ، وسط إستغراب بعض من بالسيارة ممن لاحظوا حديث العيون البادئ توا . كان هذا عقابي جزاء إختلاسي نظرة لفتاة غيرها !! بعد عودتي إلي ” البيت ” ساعتها ، تسائلت كثيرا ، هل وقعت الصغيرة في حبي ؟ أم يخيل لي ؟ ولكنها صغيرة ، لاتعرف معني ” الحب ” ، إذا لماذا النظرات ولماذا الغيرة ؟ وبدأت أشعر بدقات قلبي تتسارع دقة تلو الأخري ، شعرت لوهلة أن هنالك إنسانة تهتم لأمري . تخيلت ماذا لو كبرت وصارت ” عروس ” ولا زالت تحتفظ بأحاسيسها تجاهي ؟ هل وقتها سأبادلها نفس المشاعر ، وربما تزوجنا ، نعم ، فالفتيات هنا تكبر بسرعة وتتزوج أسرع ! غريبة ! ماذا حدث لي ؟ أنا لست جاهزا للزواج الآن فلازلت أدرس ! أوووه .. وبدأ عقلي وقلبي يسبحان إلي المستقبل وينسجان قصصا للحب ، بطليها _ أنا وصغيرتي التي كبرت في خيالي فقط .. فأزحت ستائر الحاضر ، وفتحت شرفتي علي المستقبل ، ونظرت به ، فرأيتها محبوبتي ، ورأيت يدي لا تعرف إلا يداها ، ورأيت الفرحة في عيناها ، رأيتها كسفينة أرهقتها أمواج الحياة وبأحضاني رست وأنا مرساها ، رأيت شقائي قد تبدل ورودا ونثرت ورودي أمامي أنا وإياها ، رأيتها ترتدي فستانها الأبيض وبين يداي أقبل ثغرها ومحياها ، يامحلاها صغيرتي لما كبرت وعشقت وصار الحب لي دنيا ودنياها ، لن أعشق سوي هاتين العينين ولن أنساها ، فلولاها مازقت الهوي لولاها .. وفجأة _ وجدت نفسي شاعرا أنشد للغرام أناشيدي ، فعدت إلي حاضري ، ومرت الأيام والسنين ، كان طيفها يزورني من المستقبل البعيد ، فيمكث معي للحظات كانت أجمل اللحظات بحياتي … كانت زياراتي لبلدتي قليلة جدا وسريعة ، ولم أعد أري ” الساحرة الصغيرة ” حاولت أن أسأل عنها لأطمئن أنها بخير .. ولكن حدث لي مالا يحمد عقباه .. عدت في عطلتي أواخر الشتاء الماضي ،، إقتربت من ” بيتنا” ، فمر علي سمعي دقات طبول لاتنقطع ، وزغاريد تنطلق من الفينة إلي الأخري ، وغناء فتيات تتخلله ضحكاتهن التي تنقشع بها وحشة الليل ، وتصفيق حار ملازم لما سبق . توقفت لأنصت ولم أدخل المنزل بعد ، عدت أدراجي إلي الشارع ، بدأت أذهب بإتجاه الصوت ، إنقبض قلبي ، إقتربت أكثر ، شعرت بخوف . ماهذا لا أصدق إن ” الحفل ” في بيت ” الفتاة الصغيرة ” ، أحسست أن هناك حلم من أحلامي يصارع الموت ولكن مازال هناك أمل ! ، ويحي ! وقفت قبل أن أصل بيتها ، إستوقفتني إحدي السيدات بالقرية وسلمت علي ، وقالت لي : لقد تم خطبة ” فلانة بنت فلان ” والعاقبة لك ، نريد أن نفرح بك يابني ؟ صدمت وأصبحت أشعر باللاوعي ، وتغلب الموت وأصرع أحلامي ، ثم إستجمعت قواي وأجبتها : إن شاء الله .. عدت إلي ” منزلي ” ، وقفت أمام شرفتي أزحت ستائر الماضي والحاضر حتي أنظر مستقبلي ، فلم أري شيئا سوي الظلام الحالك ! أدمعت عيناي ، وأدركت حينها أن الأحلام لاتحقق بالتمني والتخيل والإنتظار ، ولابد للمرأ أن يعش الواقع ويكافح ويكد حتي يحقق مبتغاه ، وإن لم يفعل فسيظل رهين خيالات لمستقبل لن يأتي أبدا …