* ذات ليلة ربيع مقمرة ، يخيم عليها الهدوء الجميل ، ونسمات البحر الساحرة ، كان السيد : " كمال " نائما علي سريره ، مستمتعا بالنوم العميق ، فذلك اليوم هو الأول له في إجازة قصيرة أخذها من العمل ، بعد تدهور حالته النفسيه وعدم قدرته علي التركيز أثناء آدائه لعمله . فقد لاحظ عليه زملائه بالفترة الآخيرة قبيل الإجازة أنه بات يشكوا كثيرا من الصداع ، ودائم الإنشغال والتفكير ، ويتحدث إلي نفسه كثيرا ، وذهنه شاردا بعيدا " والله وحده أعلم إلي أين " ، مشتت وحزين دائما ، والكثير من الزملاء حاولوا أن يسألوه مابه ؟ وماسبب معاناته ؟ وتغيره ؟ ولكنه أبي أن يعطي أحدا ثمة إجابة مفيدة . فأسرع الزملاء بطلب الأجازة له من رب العمل وتمت الموافقة وسمح له فقط بعشرة أيام . حزم أمتعته وذهب ليقضي تلك الأيام في إحدي المدن الساحلية علي البحر الأحمر . يبدوا عليه الإرهاق ، فقد جلس علي الشاطئ طيلة النهار وبيده " دمية " قديمة وصغيرة تحتضن قلب أحمر وقد أحيكت عليه بالخيوط الملونة عبارة " سأحبك حتي بعد موتي " . أثناء نوم السيد كمال وكلما أغمض عينيه ، يسمع ضحكات من بعيد وهمسات ونداء بأجمل عبارات الحب ، يبدأ منخفضا ثم يعلوا مره تلو الأخري ، ثم يتحول إلي بكاء ونداء إستغاثة مفزع ، فيؤدي إلي إستيقاظه فجأة وإحساسه بالفزع الشديد ، فيظل مستيقظا سارحا ما معني تلك الضحكات ، وما يسمعه من إستغاثات كان السيد " كمال " قد أعلن خطبته منذ " خمسه أشهر " تقريبا " من " قريبة له في بلدته ، التي تبعد عن القاهرة "بأكثر من ثلاثمائة كيلوا متر إلي الجنوب " . لا أحد من الزملاء يعرف عن حياته الشخصية كثيرا ، وغير ذلك فهو شخص كتوم لا يفشي سره لأحد فقد تعود علي الكتمان من الصغر ، فقد ولد وتربي في " الجنوب " وله عادات وتقاليد مازال متمسكا بها ، رغم أنه يعمل " بالقاهرة " ويقضي معظم أوقاته بها ، الا أنه لا زال يتحلي بعوائده . " خطيبته " كانت تدعي " عزيزة " كانت جارته ، وكانت فتاة رائعة الجمال ، من أجمل فتيات القرية ، وكان كمال يكن لها معزة وحبا ليس له حدود ، وكانت هي أيضا تبادله نفس الشعور ، فقد كانا الإثنين قصة الحب الأشهر بالقرية ، حتي الأطفال يعرفون أن " كمال يحب عزيزة " رغم أنه كتوما ولا يفشي أسراره لأحد ، لكن الحب هو من أفشي هذه المرة ، فلا يوجد مكان في تلك القرية إلا وله ذكري لهما ، ولا توجد شجره إلا وحفرا عليها قلبا وبداخله " أنقي كلمات الحب " ، كانت تمازحه وتجري بين الحقول كالفراشة السعيدة بموسم الربيع وهو يجري خلفها ليلحقها ويمسك بها ليخبأها داخل أحضانه حتي لا تجرح من أشواك الورود ، كانت تعلوا ضحكاتهما وتعلوا حتي تملأ سماء القرية بالسعاده والحب والمرح ، ولا توجد ورودا إلا وشهدت أجمل لقائاتهما ، كان يحبها وهي كانت تعشقه . والد " كمال " ووالد" عزيزة " كانا يعلمان بقصة الحب الملتهبة بين الأبناء ، ووافقا علي خطبتهما حتي لا يكثر الكلام بالقرية وتنتشر الشائعات ، فوالد " كمال " كان صديقا عزيزا لوالد" عزيزة " ، ويخافا علي وقار العائلتين أمام أهل القرية . فقد كانا العاشقان " أيقونة " المحبين بالقرية . تمت الخطبة وفرح من فرح وحزن من حزن فقد تمناها الكثير من شباب القرية وقد بائوا بالفشل ، وكان النصيب الأكبر من السعادة للحبيبين . بعد أن لبسا خاتم الخطوبة ، جلسا مع بعضهما ، عيناها في عينيه ، ويداها في أحضان يديه ، لا توجد كلمات فقد عجزت الألسنة عن النطق من شدة الفرحة التي يعيشاها ، ما كان حلما أمس بدا يتحقق الآن علي أرض الواقع ، لبسا خاتمين جميلين كل خاتما منهما نقش عليه إسم الحبيب الآخر . قالت له " عزيزة " : سأقوم لأحضر لك شيئا حتي تتذكرني به في سفرك ! قاطعها " كمال " : ومتي نسيتك حتي أتذكرك ؟! أنتي الهواء بالنسبة لي ، أنتي الحياة ، وفراقك الموت . قاطعته " عزيزة " قائلة : فليجعل الله يومي قبل يومك ، فبعدك عني هو الموت ، وسأظل إحبك حتي بعد موتي ، فأنت الروح لجسدي وأنت النبض لقلبي وأنت الهواء لصدري . رد كمال : أنت حبيبتي وأنت عمري ، سلامتك من الموت _ إن شاء الله سنعيش ونتزوج وننجب أطفالا كثيرون ، دعك من تلك السيرة ، فماذا كنت ستحضرين لي فلا يوجد عندي أجمل من لقياكي . قامت " عزيزة " وأحضرت صندوقا خشبيا صغيرا وقالت له لا تفتحه هنا بل بعد سفرك ؟ فوافق " كمال " وأخذه . فقالت له : أغار عليك من فتيات القاهرة ، فإنهن يضعن زينتهن ويرتدين الملابس الخليعة ، أخشي أن يفتننك بجمالهن وحركاتهن . قاطعها " كمال " قائلا : لا أستطيع أن أنظر لأي فتاة ، وإن فعلتها ونظرت لإحداهن رأيت صورتك ، فأنت في عيني وقلبي وعقلي وفي كل جوارحي أنا لك وأنت لي ، لم ولن أشعر بالأمان والحب إلا بين أحضانك ، فدعك من هذا المزاح يا عزيزة علي قلبي ؟ ، ودعينا نسترق تلك اللحظات من العمر ، فلا ندري إن كانت ستعود أم لا ! همست " عزيزة " بصوت هادئ : أحيانا أشعر بخوف شديد وأشعر أن تلك الفرحة التي نحياها لن تطول ، وكثرما رأيتك بأحلامي وأنت حزين تبكي ولا أدري لماذا ؟ أخشي أن يكتب علينا الفراق ، أتعذب وألتوي من نار الإشتياق عندما تسافر ، عدني يا كمال أن لا تتخلي عني أبدا ؟ كمال مجيبا : أعدك يا صغيرتي أن لا أتخلي عنك أبدا ، وأعدك أن أظل أحبك وألا أعيش من دونك . " عزيزة " بحزن ودموع : وإعدك أن " سإحبك حتي بعد موتي ". إنطلق القطار متجها إلي القاهرة ، جلس كمال يمسك بيده ذلك الصندوق الصغير ، يتسائل عما بداخله . وصل القاهرة وفتح الصندوق فإذا بداخله " الدمية " الصغيرة تحتضن قلبا من القماش والتي قد صنعتها عزيزة منذ أن كانا طفلين وكانا يلعبان بها سويا وقد إحيك عليها عبارة " سأحبك حتي بعد موتي " فإرتجف " كمال " وتسائل لماذا تكرر كلمه " الموت " أنه أمر مقلق ! إتصل أحد أهل القريه بكمال وأخبره بأن عزيزة في خطر لابد أن يحضر حالا ! لم يستطيع كمال الإنتظار أو الإستفسار وإنتابه الذعر والخوف والحيرة والقلق . وإستقل سيارة خاصة حتي يصل بأسرع وقت إلي القرية حتي يعرف ماذا جري هناك ، وليطمأن علي حبيبته ، وريثما وصل القرية إنقبض قلبه أكثر ووجد أن القرية جميعها قد تجمعت أمام منزل " الحبيبة " ! فجري يسأل الناس ماذا يحدث ؟ ولكن أحدا لم يجب ! فبدأ يجري بين صفوف الناس وهو يصرخ : ماذا حدث ؟ أين " عزيزة "؟ أين حبيبتي ؟ وتيقن أن هنالك مكروه حدث أو سيحدث لها ! فبدأت الدموع تنهمر ودقات القلب تضطرب ، وظل يصرخ ويصرخ ولم يعره أحد إهتماما إلا شفقة بحالته ولكن دون إجابه ، فزادت حالة الغموض المحيطة بنفسيته فإزدادت سوءا فسوءا ، حتي وصل أخيرا أمام باب بيتها . فوجد الصراخ والنياح والعويل من أهل البيت ، ووجد " والدة عزيزة " جالسة علي الأرض وتهيل فوق رأسها التراب وتنوح بطريقة مفزعة . إنهار كمال أمام حالتها ولم يقوي علي الوقوف ، فجلس أمام " أم عزيزة " فنظرت إليه وتوقفت لثوان عن النياح والتعويل ونظرت بعينيه وهو غارق بدموعه ، فأمسك يديها وأفرغها من التراب وقال لها بصوت هادئ : ماذا يحدث أين عزيزة ؟ فصرخت به : عزيزة ألحقت بنا العار وأخذها أباها إلي أعلي الجبل ليغسل عاره ويدفنها - وأشارت إلي الجبل القريب . لم يصدق هذا الحديث وتوقف عقله وقلبه لثوان ثم عاد إلي الحياة مرة أخري . لم يكن أمامه خيار إلا أمل منعدم وهو اللحاق بهم قبل أن يمسها أذي . جري كمال ناحية الجبل وكانت الصفوف عن يمينه وعن شماله من المتفرجين من أهل القرية ، كلما جري أكثر وقع علي سمعه عبارات تقذف ممن إصطفوا في طريقه ، يقول أحدهم : إنها عاهرة وتستحق !. وآخرون يقولون : تعودت علي فعل الرزيلة وبدأتها مع فتي المدينة ، وآخرون : هاهو قد أتي حبها القديم . وقد قذف الكثير والكثير في أذني كمال وكان وقعهم كالرصاص الخارق الحارق ، ولكن خوفه ولهفته وحبه جعلاه يقتطع مسافة طويلة جدا جريا دون أن يشعر . وآخيرا وصل إلي الجبل ، فسمع صراخها وبكاؤها وإستغاثاتها فجري صوب الصوت ، فوجد رجال من عائلتها مسلحون ومنعاه من العبور بقوة ، فنظر إلي أسفل الجبل فوجد " عزيزة " مكبلة بقيودها وأباها واقفا أمامها ببندقيته ، فلمحته عزيزة فصرخت : إنجدني يا كمال ، لا تتخلي عني يا حبيبي ؟ فصرخ كمال : لا تقتلها أرجوك إنتظر ؟ ثم أفلت من الرجال المسلحون وجري ناحيتها ، ولكن أشهر أباها سلاحه ناحيتها ثم أطلق وابلا من الرصاص علي جسدها الضعيف الرقيق فوقعت علي الأرض لتلفظ أنفاسها الأخيرهة، ثم إنصرف بعيدا عنها بعد أن سمع صوت سارينة " الشرطة " . لم يصدق كمال ماحدث لحبيبته أمام عينيه ، ولا يفهم سبب كل هذا ، وجري عليها فوجدها غارقة في بحر دمائها ، فذهل وظل يبكي ويبكي ومسك بيدها وهو غارق في بحر دموعه وقال لها : لقد عدت إليكي ! لماذا أنتي ذاهبه ، لا تتركيني ؟ أرجوكي لا تتركيني ؟ لن أستطيع العيش بدونك هيا إنهضي ؟ فكانت تنظر إليه ويدها في يده ، ولكنه كان آخر ما رأته عيناها في دنيا الظلم والكذب في دنيا لا تعرف للحق والعدل طريق ، كان بالنسبه لها كل شئ جميل ، والحلم الوحيد في حياتها والذي لم يتحقق وهي له كذلك ". إغتصبها أحد شباب القرية الحاقدين عليها الذين تمنوها كثيرا ثم هرب بعيدا فلحقه أحد أقاربها وقتله ، ثم أخذوا عزيزة لقتلها بعد إنتشار الخبر ، إنتهت حياتها بالنسبه للبشر ولكن بالنسبه لها ستبدأ بعد لحظه الفراق ، فالآخرة هي الحياة الحقيقية ، والدنيا زيف وظلم . صرخ كمال ثم فقد الوعي وسط بركة دمائها . أتت الشرطة وعاينت الحادث ونقلت الجثة ، وكبل الأب بالقيود ، ونقل كمال إلي " المشفي " ولكنه ظل في غيبوبة تامة بضعة أيام . قال الأطباء أن كمال لن ينجوا من تلك الغيبوبة الناتجة عن جلطة دماغية حادة ! ولكن القدر كانت له حسابات أخري . فجأة عادت الحياة إلي كمال وأفاق من الغيبوبة ، وعاد طبيعيا ، فإندهش الأطباء لما حدث ، ولكن بعد الفحوصات والتحاليل والجلسات الحوارية مع كمال ، إكتشف الأطباء أنه أصيب بفقدان جزئي للذاكرة ، لا يتذكر شيئا عن ما حدث لعزيزة وكان آخر ما يتذكره هو الصندوق وذهابه إلي القاهرة فقط . وعندما سألهم عن سبب وجوده بالمشفي فأجابوه حادث بسيط ، فسأل عن عزيزة فأجابوه بأنها ذهبت مع عائلتها لزيارة أقارب لأمها باحدي " محافظات الشمال " ولا يوجد أحد من عائلتها بالقرية . عاد إلي القاهرة ، وعاد إلي عمله ، ولكنه أصبح مشغولا علي " عزيزه " ومتي ستعود ، وأصبحت تراوده تلك الأحلام التي لا يري بها إلا الظلام و" ضحكات من ماضي سحيق " تشبه ضحكات عزيزة ولكن بعيدة جدا ثم تقترب شيئا فشيئا ، وهمسا ببعض كلمات الحب الرقيقة يتحول إلي بكاء ونداء إستغاثة ، فيستيقظ ولا يدري ماذا يحدث . فساورته شكوك كثيره فسافر الي القرية ، ليسأل هل عادت عزيزة أو أحد من إسرتها ؟ فأجابوه بأنهم لن يعودوا إلي القرية الآن وإحتمال كبير أن لن يعودوا أبدا فقد باعوا أراضيهم ومنزلهم وسيعيشون في إحدي محافظات الشمال " وقد إتفق أهل القرية علي كتمان ماحدث مراعاة لمرض " كمال ". تفقد " كمال " ذكرياته بالقرية ، ثم عاد الي القاهرة . لم يصدق كمال أي شيء وتدهورت حالته النفسية ، ولم يتخيل أن عزيزة تخلت عنه بسهوله ، ومازال عنده أمل كبير أن تعود لأحضانه ثانية ، فهو يعرف مدي حبها له فإعتبرا ما يحدث مزحة وستأتي يوما تطرق أبوابه بكل الشوق والحب ، إستأذن له أصدقائه في إجازة " لعشره أيام " فحزم أمتعته وذهب إلي إحدي المدن الساحليه حتي يجد التحسن والصفاء فيها . ولكن راودته تلك الأحلام مرة أخري ، ولكنه بدأ يتعايش معها . ذات مرة أحضر الصندوق وأخرج " الدمية " الصغيرة وقال لها أنتي كاذبة لقد تخليتي عني وإخترتي البعد ، أنا افتقدك وأحتاجك بجانبي ، وأنتي لا تفتقديني ولا تسألين عني ، وربما تزوجتي بأحد من أبناء " محافظات الشمال " ، أنتي نسيتيني وأنا سأنساكي ، لا أدري كيف وصلنا إلي ذلك الوضع ولكن أنت من إخترتي ، وداعا يا حبيبتي ! وأغلق الصندوق بقفل ثم وضعه في الحقيبة . وإنتهت أجازته وعاد إلي القاهرة . السيد كمال أصبح شخصا جديدا تماما من بعد الحادث ، فقد وفي بوعده أن لا يعيش بعدها فقد أصبح شخصا جديدا وتغير تماما ، لقد مات معها " كمال " الحبيب ودفن أيضا ولكن الآن أصبح " السيد كمال " الذي لا يعرف إلا العمل والإخلاص فالعمل وأصبح شخصا إجتماعيا . إنضمت موظفة جديدة الي العمل ، وكان مكتبها بجوار كمال . وفي أول يوم عمل بعد الأجازة ، جلس كمال لينهي أعماله ، فسمع صوتا جميلا يلقي التحية . رفع بصره ليرد تحيتها ، فإنتفض واقفا لا يصدق ما يري ! إنها " عزيزة " ، انها عزيزة بنفس ملامحها ، نفس إبتسامتها ، لقد ذهل كمال وإعجب بها كثيرا . وحدث انجذاب غريب بين الإثنين .. وقام بخطبها فيما بعد .. وقريبا حفل الزفاف .