مما لا ريب فيه : أنه حينما يمضي المثقف منا وقتا طويلا في البحث والإطلاع بين صفحات الكتب أنه يجهد عقله وفكره ونفسه وجسده آناء الليل وأطراف النهار،في البحث عن أشياء ليست بالهينة ولا باليسيرة،وإلا فلما البحث والتدقيق فيها يسمي بحثا؟ لذا لا يقترب منها العامة من الناس : لأنها عبء وحمل لا يحمله إلا المفكرون والمثقفون وأولوا العلم وحدهم فهم بلا شك يحملون عبء التحدي،في البحث عن مكنونات الأشياء وخباياها،ليجدوا أنفسهم حيارى،بين كم هائل وسيل جارف لا حدود لهما من العلم والمعرفة،في بحر هائج الأمواج ثائرٌ،أمواجه متلاحقة،وفي أحايين كثيرة ثائرة ومتمردة! هكذا دوما بحار العلم والمعرفة تثور بداخلك : حتى إذا ما رضخت لها تغرقك،فلا تستطيع النجاة إلا بقارب ينجيك منها،وكلها ثقة أنها حتما ستغرقك في مرات لاحقة،فإنها لا ولن تهدأ من صراعٍ لا ينتهي،وفيض كثير محتمل! وكل يوم تدخل في صراع وتمضي إلي صراعات أخري برغبتك أو بغيرها : فالحياة صراع لا ينتهي،والمراكب تسير وتمضي،والأمواج تسير أمامها وخلفها وأسفلها وأحيانا فوقها! والراحلة إن أرادت أن تمرَ تمرُ ولا تنتهي فالمراكب كثيرة غيرها! وهل تكف الحياة يوما ما عن صراعاتها حتى تكف الصراعات الفكرية والأدبية عن صراعاتها : التي تغرقنا دوما بفيضها،ونحن نرضخ لعيونها التي تري الأشياءُ جمعيها وبرغم أن الدنيا مليئة بمخلوقات وأشياء كثيرة غيرها،فإنها تشغلك بها،حتى إذا ما أمعنت فيها أوقعتك في شباك سحرها. فكل شيء في هذه الدنيا له أسرار وخبايا : وكثير من العقول لو كشفت عما يدور بداخلها،لأفرزت لك أشياءً كثيرة مشابهة من هذه الأسرار والخبايا ولو طاوعتك نفسك يوما ما إن استطاعت محاولة البحث في عقول مثقفينا وأدبائنا ومفكرينا،لوجدت كثيرا من الأفكار هي لب المعاني،التي لوجدت الظروف الملائمة لنموها بعيدا عن المعوقات،لصارت حقولا مليئة بالورود والسنابل،التي ربما تُسهم كثيرا في تطور العالم،فالمعلومات كثيرة لديها ولا حصر لها،ونعم الله المسخرة للمخلوقات لا تعد ولا تحصي،وكل الأفكار التي تدور بخلد كل عاقل وكل مفكر في مخلوقات الله لا يحصيها إلا خالقها. والأفكار تتلاحق وتتلاحق حتى تتزاحم فتلقح بعضها بعضا : حتى إذا ما أثمرت أثمرت نتاجا فريدا من العلم والمعرفة فأفسحوا لها أبوابا لتنعم البشرية ولو بمعلومة جديدة وليدة،خير من معلومات كثيرة لقيطة شريدة طريدة،كثيرا ما تحاول النفوس المريضة الملقية بنفسها في أحضان مصدريها تبنيها! وخلاصة القول : أن الفكر صراع لا ينتهي إن تَصُمتْ تفكر،وإن حاولت النوم برهة تكالبت عليك الأفكار من كل حدب،لتُسدلَ ستائرُها في ليل طويل لا ينجلي،وتلقي إليك فيه بكل الأفكار لتبتلي فإذا ما نمت نمت مفكرا وإن صحوت صحوت مفكرا،ولا مهرب ولا مفر من فكر لا ينتهي! وبرغم أن الفكر ينمي العقول : يؤلمها أيضا بكثير من ألآمه وتصدعاته وصراعاته المتلاحقة،والمفكرون لا يبالون بمثل هذه الصراعات وآلامها المبرحة لأنها أصبحت هواية : هواية البحث عن المصاعب. ولأنهم أعطُوا مواهب عبء التحمل في البحث والتفكير لوضع أيديهم علي ما يفيد البشرية : أصبحوا يتجرعون الألأم بمسكنات تريحهم منها بعض الوقت،علهم يجدون ضالتهم المنشودة،في عالم المعاني الجميلة التي تريح النفس بفحواها الجميلة. أتكونوا معي لو قلت أنها هواية مؤلمة أيكون هذا إدعاء مدع : لكنهم في المقابل سوف ينالوا ما لم ينله الآخرون من تخليد ذكراهم وربما تأتيهم البشري بمغفرة من عند الله فالأيام كم هي صعبة في سكونها وفكرها،عندما تجول بخاطرك كل الخواطر المتعاقبة،كالحمائم التي تطير جماعات جماعات في أسراب مختلفة في أشكالها وألوانها وأحجامها،لترحل إلي أماكن أخري غير التي سئمتها،لتدنوا من الراحة ولو قيلا بعد عناء الرحيل،كما نرحل دوما إلي عالم المجهول لنبحث عن المستحيل! فنحن نتحدث عن موضوع الأصل فيه عناءُ التفكير في كثرة التفكير ومخافة التضليل. فلربما يظن بعض العامة أن التفكير ليس له عناء،وقد يظن أيضا أننا نُهول له،وقد لا يدرك أن عناء الدنيا كلها هو في كثرة التفكير،وأصعبه هو الجمع ما بين التفكير في لقمة العيش لدي أديب مفكر،يريد أن يجمع بين قوت أسرته،وقوت عقله الذي يظل مشغول بالجمع والتوفيق بينهما دائما،وإن كان يميل في معظمه تجاه عقله الحائر دوما،كالعصفور الحائر الذي يريد أن يحط علي أي غصن آمن يأمن فيه علي عش وعيش أولاده فيلمس قسطا من الراحة،يريحه من تعب السير والمسير،وكثرة الترحال والرحيل! ونحن المفكرون ككل العصافير الحائرة : إن عملنا كثرت متاعبنا،فنريد الراحة لنكتب ما عانينا،وإن جلسنا في بيوتنا لنكتب متاعبنا،زادت فوقها متاعب أخري كثيرة،أصعبها كيف تركن إلي الكتابة وتترك عيالا يريدون طعاما لا كلاما يريدون فعالا لا أقوالا يريدون حقيقة لا خيالا يريدون النقود لا يريدون النفوذ! فهل وصلنا إلي هذا الحد من التردي لتصبح حياة المفكرين والمبدعين المجيدين،الذين لا يتقربون لأي سلطة حياة حائرة مابين إطعام المعدة وإشباع العقل في دول ترعي الراقصات ورقصهن،والمحتالون القدامى منهم والجدد،وبائعي الوهم ومشتريه،وإعلانات الخلاعة وإثارة الغرائز،ومطربي الإسفاف الثقافي في زمن الحاكم الأوحد ومثقفي السلطة التي لا تخاف الله والمنافقون والأفاقون ونوادي الرياضة التي تستنزف أموال البؤساء من الشعب للصرف علي مدرب أجنبي حتى مدرب الكرة الذي نستورده نصرف عليه بسخاء وكثير من الناس بؤساء فأي هوان هذا يا من ملكناكم بإرادتنا وبغيرها زمام الأمور علي مر الدهور،فمتى نعلن الحداد عليكم أو نثور؟ قد يقول البعض منا أيضا : أن الكتابة بفكرها وإبداعاتها هي وليدة المتاعب لدي كل مفكر عاقل ملم بمتاعب الحياة وقسوتها،بل مُلقِ بنفسهِ في أحضان معاركها،ونقول له إن كان كلامك صحيحا،فما بالنا بمفكرين وأدباء ما عاشوا خشونة الملبس والطعام،وما صعبت عليهم الحياة يوما،بل ولدوا مترفين منعمين،ولكنهم عزفوا عن الحياة بمغرياتها،ودخلوا بإرادتهم وبغيرها حلبة الفكر والأدب والإبداع والكتابة المؤلمة،ولم لا والفكر عندهم حياة والحياة عندهم فكر يصعب تجاهله فكليهما اللذة الوليدة التي يعقبها الألم! وإذا كانت الحياة هي الفكر والفكر هو الحياة ذاتها : فلما لا نحاول أن نرتقي بفكرنا لترتقي الحياة بأدبنا،فما الحياة الدنيا إلا متاعنا بفكرنا؟ الكاتب/ أحمد إبراهيم مرعوه عضو لجنة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم بفيينا عضو نادي الأدب بأجا سابقا وقصر ثقافة نعمان عاشور بميت غمر. (من سلسلة المقالات الأدبية للكاتب) التاريخ: 12/ 1/ 2012