د . مصطفى خميس السيد يولد الإنسان مسيرآ لا شك ، لم يختر أبويه أو دينه أو محيطه الاجتماعى والثقافى . يرى فى البداية أنها دنيته الطبيعية و أنه محظوظ و أن إرادة السماء اختارته هو دون باقى البشر للنعيم الأبدى حتى لو عانى فى الدنيا .. هكذا أخبره المقربون من ذوى الخبرة ، لكنه يدرك تدريجيآ أنها قيود أو محددات لمرتبته الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية فى المجتمع ، قد تساعده الظروف على التمرد أو الاختبار أو التحليق مرتفعآ فوق ضوابط مجتمعية لم يخترها ، و قد لا تساعده فيستسلم أو حتى يقرر أن يكون هو نفسه أحد كهنة المعبد ، معبد طقوس و تقاليد و محددات حياته الضيقة و الواسعة أيضآ . فهذا كاهن معبدالدولة ، و ذاك كاهن التفسير الحصرى للتعاليم السماوية ، و ثالث هو المسئول عن تزاوج الدين بالتقاليد بالمال بالسلطة ، و رابع هو كاهن علاقات القوة و التراتبية المجتمعية ، هناك كهنة للمعابد الصغيرة و آخرون للمعابد الكبيرة و الترقى من هنا لهناك عملية معقدة و شديدة الهيراركية و تتوقف بالقطع على مقدار الطاعة والصبر و الالتزام بالطقوس و ربما بعض الذكاء بشرط أن يكون الأخير لخدمة المعبد لا للتمرد على طقوسه . السطور السابقة تمثل رؤيتى المبسطة للحياة فى ثلاثون عامآ مرت على وجودى فى هذه الدنيا و لا أعلم إن كان نصيبى فى الحياة أنا أرى مثلها فى المستقبل . كنت من المحظوظين الذين ساعدتهم الحياة على التمرد ، على التحليق مرتفعآ عن القيود ، على أخذ فرصة للخروج من العالم الضيق بكهنته المخلصين للسلطوية نحو العالم الأرحب . فى هذا العالم هناك كهنة أيضآ لكنهم لا يسيطرون ، بل و يتعرضون لمنافسة شرسة و إزاحة من مجموع طاقات بشرية فجرها العلم و الثورات التكنولوجية فحولت البشر إلى سادة حقيقيين لأنفسم وسخرت موارد المجتمع و طاقاته لخدمتهم هم لا لخدمة المعابد ولا الكهنة ، بل و اضطر الأخيرون إلى الانزواء لممارسة طقوس رمزية فقط لمن أراد و ذهب بإرادته الحره فاختار من اختار و أبى من أبى . ثلاثون عامآ أدركت فيها أنه لا قدسية لبشر ، كلنا ضعفاء ، كلنا نخبئ أكثر مما نظهر ، كلنا محدودون بخبرات و محددات شكلت وعينا واستيعابنا ، كلنا متحيزون لأفكار أو لأشخاص ، كلنا ضعفاء نحو من نحب ، كلنا ندين بالفضل المادى أو المعنوى لآخرين فيهم من يطالبنا برد الجميل حتى لو كان ضد مبادئنا فنضطر مجاملين أو نتمرد و ندفع الثمن ، و منهم من يتركنا طلقاء فتظل ذكراه فى قلوبنا إلى الأبد . لا أعلم كم من الحماقات ارتكبت ، و لا كم من المخجلات فعلت ، و لو قمت بعدها لكرهت نفسى ، و لكنى أهدئ من روعى فأقول لنفسى إنى مجرد بشر زائل وهم أيضآ ، أضحك باكيآ حينما أجد أحدهم يمدحنى بشدة معددآ مزاياى مثنيآ على مثاليتى و أقول لنفسى .. مسكين .. لو علم ما فعلته منذ نصف ساعة فقط لغير رأيه قطعآ .
*** أشعر بالشفقة على بعض الشباب و هم يبحثون عن « مثل عليا » لأن المجتمع أقنعهم أنه لابد و أن يكون لهم مثل أعلى . و لم يخبرهم المجتمع قطعآ أنهم فى الواقع يبحثون عن « كاهن أعلى » لترويضهم على طقوس المعابد لتقليل فرص التمرد . تقول الحكمة « تقع المشكلة حينما تكون صورتك أكبر من مضمونك » . فأسأل نفسى فى ثلاثة عقود عشتها فى هذه الحياة كم من البشر قابلت صورته السوقية أكبر من حجمه و مهاراته الحقيقة ؟ لا أتذكر فهم كثر ، و من هنا تأتى نكسة المجتمعات المتخلفة التى تقدس بشر خاوٍ من المضمون و تنصبهم كهنة للمعبد حتى ينهار على رؤوس الجميع إلا الكهنة أنفسهم مما عودوا أنفسهم على الهرب فى التوقيت المناسب . على عكس الأساطير المتداولة ، لا تبنى الأمم على يد الأبطال المخلصين و لكنها تبنى على يد البشر المتواضعين الذين يعرفون قدر أنفسهم و حدود مقدرتهم و يسلموا بضعفهم و نقصهم و يؤمنوا بغيرهم من البشر بلا تفضيلات طائفية أو نعرات طبقية ، معظم هؤلاء مات غير مشهور و لا محمول على الأعناق لكنهم ماتوا راضين عن أنفسهم و عن ما قدموه فى حدود قدراتهم و طاقتهم لمجتمعاتهم فنعم الراحلون هم . أما هؤلاء الذين يعتقدون القداسة و التفرد و الحكمة فلا يتذكرهم التاريخ إلا بكل سوء و سخرية من سذاجتهم المفرطة . ثلاثون عاما أدركت فيها أن البشر نوعان ، البشر الموظف و البشر الطموح المجتهد الجاد . الأول مرتاح البال ، مجرد ضيف على هذه الأرض لكنه لا يترك أثرآ بعد الرحيل لأنه عاش مستسلمآ لكل القيود و الحواجز فأخذ قوته من الحياة و رحل . أما النوع الثانى : فهم ممن « يعمرون الأرض » بلغة القرآن الكريم ، ضيوف الأرض لا يواجهون تحديات كبرى و لا يفضلون التفكير المركب و يبحثون عن الحلول السهلة بل و قد يحصلون على مكاسب جاهزة، أما معمرو الأرض فيواجهون التحديات ويدفعون الأثمان نتيجة مواقفهم المركبة و بحثهم عن الحلول الصعبة، و لكنهم لا يزايدون بمواقفهم ، فهذه إرادتهم الحرة و خياراتهم الواعية و عليهم أن يدفعوا الثمن فى صمت ورضاء . ثلاثون عاما تمكنت فيها من معرفة الله ، هذا الإله الذى لم أره ماديآ و لكنى أشعره بفطرتى و أنفاسى ، عرفته إلهآ أرحم و أعدل بكثير بعيدا عن كهنة الدين و محتكرى التفاسير و المتحدثين الرسميين باسمه ، خلقنى كما خلق غيرى . خلق مليارات قبلنا و سيخلق مليارات بعدنا لنتقابل و نتعارف و نتوارث و نتبادل المعارف و الخبرات اللازمة لتعمير الأرض ، لا لنعاير بعضنا البعض بمن سيدخل الجنة و من سيدخل النار . خلق الله الإنسان موهوبآ و الأخير صنع الفن و الجمال و الشعر و الأدب و الموسيقى فكيف يحرمهم الكهنة ؟ خلقنا الله و سيضمنا إليه يومآ ما و أؤمن إنه لن يحاسبنا إلا بما كسبت أيدينا فى حدود معرفتنا و طاقتنا و خبراتنا و حظوظنا فى هذه الحياة الصعبة . *** ثلاثون عامآ أنظر إلى جسدى فأجده قد تغير و تبدلت ملامحه ، و أنظر إلى عقلى فأجده قد تطور و أصبح يرى الأمور بشكل أكثر تعقيدآ و تشابكآ . أنظر إلى مشاعرى فأجدها قد أصبحت أكثر نضجآ ، أما ذاكرتى فقد أصبحت مزدحمة بالأحداث و الأفراح كما الأطراح . لم أعد أتذكر كم صديقا أو مقربا شابآ أو كهلآ ودعته فى المقابر ، لكنى أعرف أن الموت لم يعد بعيدآ كما كنت أراه قبل زمن ، أنظر إلى أحكامى على البشر و تصرفاتهم فأجدها أصبحت أكثر مرونة و تسامحا و تفهمآ و تعاطفآ ، فأسأل نفسى من أين يأتى بعض المنتمين للأجيال الأكبر بهذه القسوة فى الحكم على البشر ؟ رحلتى فى الحياة هى رحلة تحرر ، التحرر ليس انحلالآ كما يصفه ضيقى الأفق من كهنة المعابد و أتباعهم ، و لكنه انحياز للعقل ، انحياز للانسانية ، انحياز للأرض انتظارآ و اجتهادآ و طمعآ فى عدل السماء . التحرر هو تمرد على علاقات قوة مصممة لخدمة الكهنة لا لخدمة البشر ، هو محاولة لإعمال العقل و النقد و التحليل و المقاربات و المقارنات نحو شق طريق طويل و شاق للتنمية و التقدم بعيدآ عن الدروشة والتواكل . لا أعلم إن كانت الأقدار ستكتب لى ثلاثون عامآ أخرى فى الحياة ، و لكن أتمنى و قت الرحيل أن أكون ممن عمروا الأرض و سعوا نحو تحرير البشر و تمكينهم ، قد أنجح أو أفشل ، أحسن التصرف و التقدير أو أسيئه ، لكنى سأجتهد و سأدعوا الله ما استطعت أن يقبضنى بشرآ ناقصآ لا كاهنآ يدعى الكمال . د / مصطفى خميس السيد الباحث السياسى فى شئون الاحزاب