د . مصطفى خميس السيد أصبح معتادآ فى مصر أن تقع حادثة إرهابية هنا أو هناك يقع جنود الجيش أو الشرطة أو كليهما ضحية لها ، فنجد حملة شعواء تتهم أنصار الديمقراطية و حقوق الإنسان بالتحيز ضد الجيش و أنهم لا يذرفون الدمع إلا على التيارات التى يؤيدونها خلسة ( فى إشارة على ما يبدو إلى الإخوان المسلمين ) ، أصبح طبيعيآ فى مصر أن يطالب البعض بإبعاد المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسى ، فيتم اتهامه بمعاداة الجيش و السعى لإسقاط الدولة ، كما أنه ليس من المستغرب الأن أن يدعو أحدهم لنصرة أهل غزة ضد جرائم الحرب التى يرتكبها جيش الاحتلال بشأنهم فيواجه بسيل اتهامات أنه من داعمى حماس وهكذا . أصحاب هذا النوع من الهجوم ليسوا مجرد مواطنين عادين أخطأت بوصلتهم السياسية فى الحكم على الأمور و لكنهم أيضا قادة رأى من خبراء و أكاديميين و حزبيين و صناع قرار مما يستلزم فى رأيى وقفة لفض الاشتباك فى قضايا عديدة ملتبسة فى المشهد السياسى المصرى ، لأنى لا أعتقد أن طريق التقدم و الازدهار فى مصر يمكن أن يبدأ و هذا الكم من الاشتباك موجود فى بيئتها : ••• أولآ : فض الاشتباك بين الانقلاب و الثورة ، أعلم أن الموضوع حساس وهو موضع للمزايدات من هنا وهناك ، لكن لابد من فض هذا الاشتباك ، قامت ثورة على رئيس فاشل ، استغلتها أجهزة الدولة للقضاء على جماعة الرئيس خصمها التاريخى اللدود ، وتم انقلاب ناعم على الرئيس المنتخب بشروط و عهود قطعها على نفسه ثم انقلب عليها هو الآخر، هذه هى روايتى و يحق لأى شخص أن يختلف معى و يراها ثورة كاملة أو انقلابا مكتمل الأركان ، المهم أن نتجاوز هذا الجدل التاريخى .. إن كنت تعتبرها ثورة فعليك أن تقف مع نفسك و تقيم إن كانت بالفعل طبقت ما نادت به ، وإن كنت تراها انقلابآ ، فعليك أن تسأل نفسك لماذا أضاع رئيسك صاحب الشرعية الفرصة تلو الأخرى حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه ، قراءة واقعية للمشهد المعقد لفك التباسه أفضل و أوقع من البكاء أو التحيز للقصص الأحادية الساذجة التى ترى الدنيا مجرد حكاية طفولية للخير ضد الشر . ثانيآ : فض الاشتباك بين الدولة والنظام ، إذ لا يعقل ولا يقبل أن يتورط أكاديمى أو مثقف فى الخلط بين الكيانين ، الدولة بالتعريف البسيط هى الأرض و الشعب و الحدود و السيادة ، أما النظام فهو كيان مستقل يتكون من مؤسسات تنفيذية و تشريعية و قضائية و أحزاب سياسية و جماعات ضغط و مصالح يجمعها إطار قانونى و دستورى ، من حق أى شخص أن ينتقد النظام ، مادام انتقاده موضوعيآ ، و حتى لو كان النقد لاذعآ و حتى لو وجه إلى رأس الدولة ، هذا أبسط حقوق المواطنة ولا شأن له بهدم الدولة أو تعطيل عجلة الإنتاج إلى آخره من شعارات جوفاء لا تعكس سوى عقلية استبدادية بامتياز . و من ناحية أخرى فلا يقبل أن يبدى البعض سخرية واضحة بل و شماتة أحيانآ من استشهاد جنودنا و أفراد الشرطة فى هذه الحادثة أو تلك ، لا تبرير أو تفهم لمثل هذه المشاعر الشاذة أبدآ . ثالثآ : فض الاشتباك بين الجيش و السياسة ، فالمنادون بإبعاد الجيش عن السياسة لا يسعون لإسقاط الجيش ولا يخربون الوطن ولا يريدون للمؤسسة العسكرية مصيرآ مماثلا لبعض دول الجوار ، بل العكس تماما هو الصحيح ، دخول رجال الجيش فى لعبة السياسة هو الخطر بعينه لأن السلطة فتنة ، و الأضواء قاتلة ، و السياسة مقامرة كبيرة ، من المنطقى أن رجال الجيش لديهم عقلية مختلفة عن المدنيين كونوها عبر سنوات وعقود من تواجدهم داخل المعسكرات فى حياة صارمة ليس بها استهتار أو « دلع » ، و ولوجهم إلى عالم السياسة من ناحية يجعلهم يعالجون الأمور بأساليب أمنية بحتة دون بعد سياسى وهى الطريقة التى أثبتت فشلآ ذريعآ فى مصر على مدى العقود الماضية ، و من ناحية أخرى يجعلهم عرضة للنقد اللاذع مما يهز من هيبتهم وهيبة المؤسسة أمام المواطنيين ، وهو أخيرآ يكون نافذة لتسييس الجيش وتفتيته إلى أجنحة بينها صراعات وتنافسات و كلها أمور ننأى بجيشنا عن الوقوع فيها . رابعآ : فض الاشتباك بين مكافحة الإرهاب وتصفية الحسابات السياسية ، فلا يستطيع أحد عاقل أن ينكر أن مصر تتعرض لعمليات إرهابية مفزعة ، بعض هذه العمليات يبدو عشوائيآ ، لكن البعض الآخر يظل معبرآ عن تدبير عال و دعم لوجستى وراءه قوى منظمة ، هنا لابد أن نضع النقاط فوق الحروف بلا إفراط ولا تفريط ، فيظل الإرهاب إرهابآ وأى تبرير أو تعاطف معه تحت أى شعار أو ظروف أو حجج مرفوض ، كما أنه لا يجوز توجيه الاتهام إلى هذا الطرف أو ذاك قبل أن تأخذ منظومة العدالة دورتها الكاملة حتى إدانة أو تبرئة المتهمين ، مشكلتنا إذا أننا ومع كل عملية إرهابية نتسرع بتسييس القضية للتخلص من خصومنا من هذا الاتجاه أو ذاك بدلآ من الوقوف على المتهميين ومحاكمتهم وتحميل صناع القرار مسئوليتهم السياسية عن تكرار وقوع مثل هذه الهجمات ، فلا إرهابآ حاربنآ ولا سياسة كسبنا اذا . خامسآ : فض الاشتباك بين الإصلاح والهدم ، إذ يحلو للبعض اتهام من ينادى بإصلاح الداخلية أو غيرها من المؤسسات الحكومية العطبة بأنه يريد هدم هذه المؤسسات و من ثم هدم الدولة ، وهنا لنا وقفة ، فعلى المؤمنين بثورة يناير و التغيير و الإصلاح عن حق أن يدركوا أن مصر بلا إصلاح ستظل تدور فى حلقات مفرغة من العنف و الارهاب و عدم الاستقرار ، و فى نفس الوقت فإن هذا الإصلاح لا يعنى الهدم التام كما يردد البعض ، ففى ظل ثقافة الدولة المركزية ، وفى ظل الظروف الإقليمية والداخلية ، فالهدم التام لن يؤدى إلى الإصلاح بل قد يؤدى إلى انهيارت تامة فى الدولة ( لا النظام ) ، فاتباع منهج إصلاحى أو هيكلى لإعادة ترتيب هذه المؤسسات العطبة والمشاركة بقوة فى القمع و انتهاك حقوق الانسان على مدى السنوات الماضية هو وحده من يضمن تحقيق أهداف الثورات على الأقل فى الظروف السياسية الحالية . سادسآ : فض الاشتباك بين العدو والخصم والحليف ، ففى السياسة والعلاقات الدولية لا حليف دائم ولا عدو دائم ، لكنى مثلآ لا يمكن أن أتفهم أن يعتبر البعض أن حماس هى العدو وليست إسرائيل ! ربما يعتبر النظام المصرى ( لا الدولة ) أن حماس هى خصم سياسى ، هذا جائز ومفهوم ، أما أن يحرض البعض لاعتبارها هى العدو الذى يجب اجتثاثه وأن إسرائيل هى الصديق الذى يقوم بمهمة التخلص منه هذه فهو اعتبار فاشى وفاقد لأدنى مبادئ واعتبارت الأمن القومى ، فضلآ عن أنه يعبر عن خلل فادح فى منظومة الاستقبال ، فإسرائيل سلطة احتلال و حماس حركة مقاومة قد نختلف أو نتفق معها ولكن تظل مقاومة و نقطة من أول السطر ! •••• وأخيرآ فلابد من فض الاشتباك بين المؤامرة وحقائق العمل السياسى ، فهذا التيار الذى يعتبر أن كل حركة أو تصريح أو تلميح هنا أو هناك هو مؤامرة كونية على مصر لا يفهم تعقيد المشهد ويدفع بقصد أو بدون إلى اتباع سياسات دفاعية محافظة بحجة مواجهة هذه المؤامرة المزعومة ، نعم العمل السياسى به مؤامرات ، لكن إعطاء المؤامرة وزنها الحقيقى دون إفراط أو مبالغة هو وحده الكفيل بالالتفات لحل مشكلات مصر الداخلية لا العكس. ندعم دولتنا بكل قوة ونحلم بها فى مصاف الدول المتقدمة ونسعى إلى استقرارها و أمنها ، ونترحم على جميع شهدائها من الجيش و الشرطة و الشعب الأعزل ، لكن و لتحقيق هذا فإننا نسعى لبناء دولة حرة لا جمهورية خوف ، تراعى التعددية و المواطنة و حقوق الانسان و الحرية و الديموقراطية معتبرة كل ذلك عناصر فى تحقيق الأمن القومى المصرى بمعناه الأشمل ، وحتما سنصل يوما ما إلى هذا الطريق أو على الأقل هكذا أتمنى . د . مصطفى خميس السيد الباحث فى شئون الاحزاب