د . مصطفى خميس السيد لكل دولة نظام سياسى ، و لكل نظام سياسى قواعد لتسيير اللعبة السياسية ، و المقصود بقواعد اللعبة أى مجموعة القوانين المكتوبة و القواعد السياسية العرفية غير المكتوبة التى تحدد شكل التفاعل بين عناصر النظام السياسى بمعناه الأوسع من فاعلين سياسيين رسميين و غير رسميين ، و هو ما يشمل القواعد الرسمية و العرفية المنظمة للعلاقة بين البرلمان و السلطة التنفيذية بشقيها ( مؤسسة الرئاسة والحكومة ) و الأحزاب و التيارات السياسية و النقابات و الاتحادات و المنظمات غير حكومية .. إلخ . تحليل تلك القواعد مهم جدا لفهم كيفية إدارة النظام السياسى للدولة و فهم فرص و مساحات اللاعبين السياسيين سالفى الذكر، وهو بدوره ما يساعد على فهم مستقبل الحياة السياسية ومصير مؤسساتها ، الأمر الذى قد يساعدنا على فهم مستقبل نخطو إليه سياسيآ وهو السؤال المرهق لكل باحثى العلوم السياسية بشكل خاص والاجتماعية بشكل عام . و المتابع لقواعد اللعبة السياسية فى مصر منذ عهد الجمهورية يجد استقرار نسبيآ بها مع تغيرات طفيفة ارتبطت عادة بحسابات للعوامل الإقليمية والقوى الدولية ، فمصر فى عهد عبد الناصر كانت دولة اشتراكية بامتياز لا تسمح بالتعددية الحزبية ، فلا حزب سوى حزب السلطة ( الوطن ) ولا خطاب سياسى أو إعلامى غير خطاب النظام ، وهكذا تم تأميم كل مظاهر الحياة السياسية ، فحزب واحد ، و قناة إعلامية واحدة ، و صحف قومية غير مستقلة عن النظام ، بل و مؤسسات دينية مؤممة لصالح السلطة ، ساعد عبدالناصر على ذلك مشروعه العروبى القومى الذى وفر له دعمآ داخليآ وإقليميآ بل وعالميآ غير مسبوق ، فضلآ على إنجازاته الداخلية فى إعادة توزيع الثروات و بناء الدولة و هو ما ساعده فى تجاوز أى تكلفة سياسية مرتفعة حقيقة لسياسات القمع والتأميم على الأقل حتى 1967 . أما فى عهد السادات ، فبعد فترة من الجمود السياسى ، قرر مع خياره للسلام مع إسرائيل وتحويل دفة الرهان الدولى من الاتحاد السوفييتى إلى الولاياتالمتحدة أن يقوم بفتح منابر تعددية محدودة ، وذكاء الرجل هنا أنه قرر تجنب تكلفة سياسية باهظة كان سيدفعها لو تمسك بنموذج الحزب الواحد فى عهد سلفه ، فتحرير الاقتصاد والانفتاح الدولى و المصالحة ( السلام ) مع إسرائيل كان يعنى ضرورة تحرير البيئة السياسية ، و هو ما فعله بفتح تجربة المنابر ( مع إبقاء يد السلطة متوغلة ومتحكمة بها ) ، فضلآ على إنشاء مجلس الشورى بجانب مجلس الشعب حتى لو حصل الأول على صلاحيات استشارية و لكن بحساب وقتها كان ذلك يعد ذكاء وتحديثآ سياسيآ. كانت المشكلة فى عهد مبارك ، ذلك أنه حاول الإبقاء على قواعد لعبة السادات ( حزب واحد قوى و تعددية سياسية مقيدة ) مع برلمان ضعيف مكون من غرفتين إحداهما بقيت شكلية و مسيطر عليها بواسطة السلطة التنفيذية . و رغم أن تغييرآ لاح فى الأفق بعد عام 2005 و لكن تم التراجع عنه سريعآ فى 2010 ليدفع مبارك ثمنآ سياسيآ باهظآ نتيجة إدارته للدولة بقواعد لعبة السبعينيات ، بينما كنا فى العقد الثانى من الألفية الثالثة . هذا ببساطة التحليل السياسى العام لأسباب و دوافع ثورة يناير بعيدا عن هيستريا المؤامرات التى تتبناها السلطة مما حدث فى 2011. ••• هذه المقدمة الطويلة تخلص بنا إلى نتيجة حتمية فى الممارسة السياسية وهى أن قواعد اللعبة السياسية الصالحة فى زمن ماض لا يمكن أن تصلح لزمن حاضر ولو عنَد من عنَد ، فالتكلفة السياسية ستكون وخيمة ، لأنه لا يمكن الحفاظ على نفس القواعد و تغييرات جمة و متتابعة تحدث فى البيئات الداخلية و الإقليمية و الدولية. أقول هذا لأننا ومنذ 2011 لم نشهد بعد قواعد ثابتة للعبة ، و لكن كل المؤشرات تؤكد أن النظام الحالى رغم كونه انتقاليآ إلا أنه يسارع الزمن لوضع قواعد سياسية جديدة تتمتع بالثبات النسبى لما هو قادم فى المحروسة ، و بتحليل ما اتخذ من إجراءات و سياسات و قوانين منذ يوليو 2013 و حتى اليوم قد يمكننا من تحديد ملامح هذه القواعد الجديدة ، و التى نبدأها اليوم بالحديث عن مستقبل الأحزاب السياسية فى المعادلة المقبلة و لو شئنا وضع عنوان كبير لمستقبل الأحزاب السياسية فى اللعبة الجديدة لقلنا « تقييد التعددية الحزبية » ، و ذلك من خلال عدة أدوات على النحو التالى: أولآ : استقطاب الدولة و دعمها للأجيال الأكبر و الأكثر محافظة للأحزاب المختلفة بما يمكن هذه الأجيال و أفكارها و مصالحها من الهيمنة على قواعد العمل داخل الأحزاب ، مع تهميش الشباب واستبعادهم من مراكز صنع القرار داخل هذه الأحزاب . هذه القاعدة ستوفر للدولة فرصة تبنى سياسات محافظة مع تجنب ضوضاء المعارضة الشابة المقلقة والفتية ، لكن فى مقابل هذه الفرصة سيكون الثمن هو الشيخوخة المبكرة للعمل الحزبى و من ثم السياسى ، و بينما احتاج نظام مبارك مثلا ربع قرن لتبدو شيخوخته ظاهرة ، فإن الثمن هذه المرة أن النظام سيولد كهلآ ، و ما يعنيه ذلك من العجز عن التواصل مع مطالب الشارع المتسارعة . ثانيآ : ستحرص الدولة على ترديد خطاب سياسى حزبى لا يصنف الأحزاب كحاكم و معارض و لكن كوطنى و خائن ، و هو ما ظهرت إرهاصاته واضحة بالفعل من الآن ، و هو ما سيعطى للنظام فرصة سياسية فى تقليم أظافر أحزاب المعارضة بحيث يتم استخدام خطاب الوطنية كفزاعة للمعارضين لكن تكلفة هذه الأداة ستكون متمثلة فى دفع بعض أحزاب المعارضة الحقيقية أو رموزها إلى البحث عن وسائل غير تقليدية للمعارضة تخرج بعيدآ عن الإطار الحزبى المؤسسى الرسمى لتجنب وصم الحزب بالعمالة إلى عمل أكثر رحابة و شبكات أكثر ميوعة لمعارضة النظام ، و هو ما سيكلف النظام سريعآ ثمنآ فادحآ متمثل فى تشتته بين مواجهة الحزبى الرسمى والسياسى غير الرسمى ، وسيتمثل الأخير فى حركات و جمعيات أكثر رحابة من العمل الحزبى على غرار الجمعية الوطنية للتغير أو كفاية .. إلخ . ثالثآ : أغلب الظن أن الدولة ستنحاز إلى النظام الفردى فى الانتخابات مع استبعاد أو تهميش نظام القائمة ، وهو ما سيوفر فرصة للنظام وأحزابه فى الهيمنة على العملية السياسية والتشريعية من خلال خلخلة قدرة الأحزاب فى السيطرة على أعضائها ، بحيث تصبح لشبكات المال و رجال الأعمال و العصبيات و القبليات السطوة على العمل الحزبى ، بحيث لا يكون الأخير بالنسبة لتلك الشبكات التقليدية سوى واجهة اجتماعية لممارسة السياسة ، ستوفر هذه الأداة أيضآ فرصة للسلطة التنفيذية الهيمنة على عملية التشريع لأن النظام الفردى لن يمكن الأحزاب من الحصول على الأغلبية التى يشترطها دستور 2014 لتشكيل الحكومة ، وهو ما يعضد فرص تشكيل حكومات أكثرية معتمدة على تألف عدد كبير من الأحزاب و الشخصيات المستقلة بما يسهم فى النهاية فى خلق حكومات تحت سيطرة الرئيس أولآ و كليهما ( الرئيس والحكومة ) لهما السطوة فى مواجهة البرلمان المفتت ثانيآ ، لكن تكلفة هذه الأداة أيضا عالية ، فمع ضعف البرلمان و الأحزاب فى مقابل التنفيذيين ستتلاشى الرقابة على أعمال الحكومة ، و فى كل التجارب العالمية كان ثمن ذلك هو تفشى الفساد بشقيه السياسى و الإدارى وكفى بهما تكلفة ! . رابعآ : يتبقى لدى الدولة أخطر أداة لتقييد التعددية الحزبية ألا وهى المادة 74 من دستور 2014، و التى تقوم بحظر إنشاء الأحزاب السياسية على أساس دينى ، وهى عبارة شديدة العمومية ستترك للسلطة مساحة واسعة فى تحديد وتعريف « الأساس الدينى » لاستبعاد ما ترى من أحزاب معارضة و مناوئة وترك أخرى مسالمة وطيعة بغض النظر عن معنى الأساس الدينى الوراد فى الدستور ، وهو ما يعطى فرصة للنظام فى استئناس الأحزاب الدينية ( الإسلامية بالأساس ) و استبعاد تلك المعارضة لها ، بل و ربما منع إنشاء أحزاب أخرى جديدة ليست على هوى النظام بدعوى « الأساس الدينى » ، و لكن فى مقابل ذلك سيتكبد النظام تكلفة مرتفعة للغاية بحيث تعود المعادلة القديمة لمواجهة الأحزاب والتيارات الإسلامية المعارضة تحت الأرض مرة أخرى و قد أظهرت التجربة المصرية أن العمل السياسى الإسلامى السرى كلف النظام كثيرآ ! ••• وهكذا تبدو فرص التعددية الحزبية مستقبلآ محدودة ، و كل المؤشرات تدفع بالاعتقاد أن التعددية المقيدة هى إحدى قواعد اللعبة التى سينتهجها النظام القادم ، لكن إلى متى و بأى تكلفة سياسية ، وهل سيتحمل النظام هذه التكلفة و خاصة و هو يستدعى نموذج سبعينياتى محدث فى ألفية ثالثة و بعد ثورتين ؟ و ماذا لو أضفنا صعوبة إنشاء حزب واحد قوى يعتمد عليه النظام مثلما فعل ناصر والسادات ومبارك ومرسى على التوالى ، خاصة بعد تشرذم الحزب الوطنى ؟ التعددية هى الحل وبغير ذلك سيدفع النظام تكلفة سياسية باهظة . د . مصطفى خميس السيد الباحث فى شئون الاحزاب