على الرغم من الصورة الوهمية التي تحاول إسرائيل فرضها عبر وسائل الإعلام، عن ترابط المجتمع الصهيوني، إلا أن صاحب النظرة المتعمقة يمكنه بكل بساطة، اكتشاف حجم الخلافات والصراعات الدائمة داخل هذا الكيان غير المتجانس منذ التكوين الأول. وقد جاء ذلك، على عكس مما أعلنته الصهيونية قديمًا، عن إنشاء وطن قومي، يجمع يهود الشتات، باختلاف الثقافات واللغات، وطرحت حينها نظرية "بوتقة الإنصهار"، التي شبهت فيه الكيان الصهيوني، بالوعاء الذي ستذوب فيه كل هذه الاختلافات والثقافات، لتحيا جميعها جنبًا إلى جنب. وقد أثبتت الوقائع، خطأ النظرية الصهيونية وفشلها في تحقيق هدفها، ليطفو على السطح يومًا تلو الأخر، الانقسامات والصراعات داخل المجتمع الصهيوني، ليس بين الطوائف الدينية والعلمانية فحسب، بل امتدت لتشمل "الحريديم" وهي ظاهريًا، الطائفة الدينية الأكثر اتساقًا. كما يبدو الصراع بين الطوائف العلمانية والدينية، اعمق بكثير مما هو ظاهر للعيان، ويكفي رصد مشهدين يتكررا كل يوم سبت، فمن جانب "لحريدم"، تجد مكبرات الصوت ترتفع بصوت الحاخام الذي يقدم العطلة الأسبوعية لمستمعيه. بينما ينصب "العلمانييون " مكبرات الصوت فوق صالات الديسكو، التي تضج بالموسيقي الصاخبة والطرب والرقص والسُكر، حتى يهاجم اليهود المتشددون هذه الصالات، ويكسرون السيارات ومكبرات الصوت، في مشهد يبدو عبثيًا من كثرة تكراره. وإن كانت تلك المشاهد تتكرر كل أسبوع، فهناك لافتات تحذيرية لا يتم إزالتها طوال أيام الأسبوع، ففي مدخل حي يقطنه "الحريديم" تجد لافتة مكتوب عليها "ممنوع دخول العلمانيين"، وتجد اللافتة المضادة في مقدمة حي العلمانيين، والتي تحظر دخول اليهود المتشددين أو "الحريديم". أما عن الصراع بين اليهود ذوي الأصول الشرقية وأسبانيا، الذين يعرفون بيهود "السفارديم"، وبين اليهود ذوي الأصول الغربية " الإشكنازيم"، فيبدو هو الأخر أزلى وبلا نهاية، فالتمييز بين الطائفتين يقسم المجتمع رأسيا بدءًا من الوظائف الهامة التي يتم اسنادها للأشكناز، حتى النظرة الدونية للسفارديم وكأنهم منبوذين. هذا ويمارس المجتمع الصهيوني عنصريته الذاتية، نحو السفارديم على كافة المستويات، ففي تشكيل الحكومة الأخيرة، تم ابعاد وزيرين تابعين لحزب "شاس" الممثل للمتدينيين الشرقيين. وقد شهد الكيان الصهيوني مطلع الأسبوع الثاني من هذا الشهر، حادثة ليست بالجديدة، بل سبق تكرارها عدة مرات، لتبرز عنصرية الكيان حتى ضد نفسه، حيث إعتدى خمسة شباب إسرائيليين أشكناز، على شابين سفارديم من أصول أثيوبية، حيث كانت بشرتهم الداكنة التي تميز السفارديم عن الإشكناز ذوي البشرة البيضاء ذريعة للهجوم، وهي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، بل تأتي في خضم عنف يتصاعد من تشظى كيان هلامي النشأة، بلا مستقبل . ويظل الصراع داخل المجتمع الصهيوني، دليلًا يؤكد على فشل نظرية مؤسسي الصهيونية، والذين ادعوا أن "اليهودية" كافية لتشكل قومية من العدم، لأناس من شتى القوميات والخلفيات، بإمكانهم التعايش فقط لأنهم يهود ولا شىء أخر، وتبقى الاختلافات الثقافية والاجتماعية تنذر بانهيار "إسرائيل"، ذلك الانهيار المتروك لحركة التاريخ الحتمية، تؤخرها عوامل الجغرافيا قليلًا ربما لكنها لا تخفى أن نظرية بوتقة الانصهار قد فشلت.