باحث فى علم الاجتماع:"فيديوهات الأحضان" استمرار لمسلسل الانفلات المرتبط ب"الربيع العربى" شهدت الأسابيع القليلة الماضية، ظاهرة غريبة، أقل ما توصف به أنها "مستفزة"، وأنها خارج السياق العام للأخلاق والعادات والتقاليد، صحيح أن الحياة تشهد الكثير من التجاوزات الأخلاقية من البشر وإن كانت تتم في الخفاء، لمخالفتها للشرع والأعراف والقوانين، ولكن الجديد في هذه الأيام هو "التبجح" والمجاهرة بما كنا نعتبره جريمة "شرف"، والعديد من الفيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بين شباب وفتيات، في المرحلة الثانوية، أو الجامعية، يتقمص فيها الشاب دور"الحبيب"، الذي يقدم لخطيبته هدية على الملأ، يتبعها انبهار وادعاء الكسوف والخجل من البنت، تتبعها قبلات وأحضان أمام مرأى ومسمع من المارة بالشارع، وأمام أعين كاميرات الموبايل التي تتناقل الفيديوهات لتنتشر بسرعة البرق، وكأنه لا رادع لهؤلاء. الوقائع التي تكررت أكثر من مرة تجعلنا نقف كثيرا أمام عدة أمور، أبرزها الأسرة، ودورها، واحترام هؤلاء الأبناء لأسرهم، خاصة أنهم يعرفون أن الفيديوهات سيتم تناقلها وستصل لأسرهم، وأنهم لا يعبؤون برد فعل الأب. عموما الظاهرة، ما هي إلا استمرار طبيعي لمسلسل تدني الأخلاق، الذي تروج له بعض الأعمال الدرامية والتليفزيونية، وأيضا لانتشار فيديوهات البلطجة والرقص وغيرها من الأعمال المنافية للأخلاق التي برزت بشكل كبير في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسيلة سهلة لانتشار مثل هذه الأفعال. الدكتور، طه علي أحمد، الباحث في علم الاجتماع السياسي، وهو صاحب دراسة عن التحولات الاجتماعية في المجتمعات العربية، متعلقة بمثل هذه السلوكيات غير الأخلاقية، أكد أن ظاهرة الفيديوهات الشاذة والغريبة عن الثقافة العربية والمصرية، هي إحدى الظواهر المرتبطة بالتحولات التي تطرأ على مجتمعات المنطقة .. فالمنطقة العربية بما فيها مصر تمر بعملية تحول اجتماعي ملحوظ..وقد ارتبطت هذه العملية بعدد من المؤشرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة بما فيها مصر بطبيعة الحال. وعن تأثير الوضع الاقتصادي عن نشوء مثل هذه الظواهر، أكد الدكتور طه علي، أنه على الصعيد الاقتصادي، تمر المنطقة بأزمة اقتصادية لا تنفصل عن الأزمة التي يشهدها الاقتصاد العالمي بشكل عام..إذ تتداخل اقتصاديات دول المنطقة (السياحة في مصر، والبترول في دول الخليج، فضلا عن عمليات التبادل التجاري، والعاملين بالخارج) مع الاقتصاد العالمي وهو ما يجعل أي هزة في الاقتصاد العالمي تنعكس بالضرورة على اقتصاديات دول المنطقة وصولا إلى التأثير المباشر في حياة الأفراد ولعلنا نلاحظ ذلك إذا ما نظرنا إلى الأزمة الاقتصادية الموجودة في المجتمع المصري على سبيل المثال. وشدد الدكتور طه علي أحمد، الباحث في علم الاجتماع السياسي، على دور المؤسسات الدينية، وأن غياب الخطاب الديني المعتدل والمتوافق مع الشخصية المصرية، وفي المقابل انتشار الجماعات والتيارات المتطرفة التي سعت لجذب الكثير من الشباب، وهو ما أدى لحالة تشتت لدى بعض الشباب، وكانت هذه هي النتيجة. مؤكدا أنه على الصعيد السياسي فغني عن البيان ما تمر به الدولة المصرية من هزة على إثر ثورتي الخامس والعشرين من يناير، والثلاثين من يونيو وما حدث من تغيرات عميقة في المشهد السياسي بشكل عام، كما أن غياب الأحزاب السياسية، يمثل أحد التحديات التي تعيق الانطلاق نحو حياة سياسية منفتحة تستوعب كافة الأفكار والاتجاهات. وهنا نجد أنه على الرغم من الهامش المتنامي لمشاركة الشباب في الأنشطة السياسية خلال السنوات الأخيرة، إلا أنه يظل هناك حاجة للمزيد من الجهد الرسمي لدعم حضور الأحزاب السياسية في الشارع المصري بغرض استيعاب الطاقات الخلاقة لدى الشباب. وركز الدكتور طه علي أحمد، في كلامه على الوضع الاجتماعي، فأكد أنه على المستوى الاجتماعي، فلا تزال المشكلات الاجتماعية متراكمة بين المصريين فما بين البطالة، والفجوات الاجتماعية، وغيرها متفشية بشكل واضح، وهو ما يسهم بدوره في سيادة حالة من الاغتراب بين الكثير من الشباب.. فعلى الرغم من مشاركة الشباب في محاولات التغيير خلال السنوات الأخيرة (25 يناير وما بعدها) لكن هناك قطاعا واسعا من الشباب لا يزال غير متاح له الفرصة للمشاركة وذلك بسبب سيطرة جيل قديم، أو قطاع واسع من المجتمع لايزال يسيطر على كثير من الشئون العامة بالمجتمع وهو ما يجعل الشباب في حاجة للاقتناع بأهمية دوره في تلك المرحلة المهمة من تاريخ بلده. ونوه الدكتور طه علي أحمد، الباحث في علم الاجتماع السياسي، أنه فضلا عن ذلك يلعب غياب الخطاب الإعلامي الهادئ والمعتدل دورا في دعم حالة الاختلال القيمي بين الشباب إذ تنعكس حالة الفوضى الإعلامية السائدة على أنماط التنشئة السائدة. مؤكداأنه في ظل هذا الواقع المتأزم، فإن إشكاليةً مهمةً تفرضُ نفسَها على المجتمع بكافة مستوياته وهي ما يعرفها علماء الاجتماع باسم "الأنومي" أو"اللامعيارية" بمعنى غياب معيار محدد للحكم على الأشياء، وتعرف أيضا ب "الاختلال القيمي". وهي ظاهرة تعرفها المجتمعات التي تمر بعملية تحول عميقة كما يجري في مصر خلال السنوات الأخيرة. في تلك الحالة، مع ارتفاع سقف التوقعات لدى الكثيرين، في ظل محدودية واضحة من ناحية الموارد المتاحة لدى صناع القرار، وكذلك محدودية في عامل الوقت نجد صدمة يفاجأ بها الكثير من المتحمسين خاصة بين الشباب محدود الخبرة، والذي يرتفع لديه سقف التوقعات. عند تلك النقطة يصعب على عقلية الكثيرين استيعاب تلك الصدمة مما يسفر بدوره عما يعرف باختلال في منظومة القيم لديهم. وأشار إلى أن علماء الاجتماع يتحدثون في هذه النقطة من خلال أمثلة عن بعض مظاهر تلك الإشكالية مثل، الانتحار الأناني الناتج عن العزلة وعدم الانتماء، والانتحار الناتج عن اللامعيارية والقلق، والانتحار الناتج عن التعلق بهدف معين أو قيمة اجتماعية معينة، وقد شهدت مصر والعالم العربي تلك الحالة خلال ما يعرف ب "الربيع العربي"، فقد شاهدنا انتشار ظواهر تخرج عن النظام العام والآداب المتعارف عليها بين المصريين، بل وتسير في إطار اللامعقول. مثل انتشار ظاهرة التعري احتجاجا على حكم الإخوان في عام 2012. كذلك انتشرت ظاهرة "الإلحاد"، كرد فعل للتطرف الديني خلال تلك المرحلة، وأيضا عرفنا ظاهرة التخلي عن الجنسية المصرية بين عدد من الشباب وخاصة المحبطين حديثي السن، فضلا عن التعدي على الملكية العامة وغير ذلك. وفي نفس المرحلة شاهدنا أيضا انتشار لظاهرة الألفاظ الخارجة، والمشاهد المثيرة بين الكثير من الجماهير سواء على الانترنت أو الميادين العامة. وأضاف، الباحث في علم الاجتماع السياسي، أنه في هذا السياق تأتي ظاهرة انتشار الفيديوهات الغريبة عن الثقافة المصرية، باعتبار ذلك أحد مظاهر اختلال القيم وتحللها بين المصريين. فلا تقتصر تلك الفيديوهات عن تصوير الأفعال الفاضحة على الملأ في الشارع، بل أيضا التفاخر بأعمال البلطجة وتعاطي المخدرات، والأفكار المنحرفة دينيا وأخلاقيا تأثرا بغياب الدور الأخلاقي للمجتمع. والملاحظ هنا هو اقتصار الدور الاجتماعي على النقد والتندر على أيام الماضي المليئة بالاحترام والقيم الايجابية بعيدا عن مواجهة تلك المشكلات بشكل حقيقي. أما عن سبل المواجهة، والتخلص من مثل هذه الظواهر، فيؤكد الدكتور، طه علي، الباحث في علم الاجتماع السياسي، أن مسئولية مواجهة تلك المشكلة تقع على عاتق الدولة والمجتمع على حد سواء، فالمجتمع مطالب بدعم القيم الإيجابية كالتضامن الاجتماعي، وسيادة روح التعاون واحترام الخصوصيات بين الجميع، بل والتعامل مع مواهب الشباب باعتبارها طاقات خلاقة ينبغي الاستفادة بها وتوظيفها، أيضا هناك دور كبير ومهم يقع على وسائل الإعلام فهي الأخرى مطالبة بتبني خطاب إعلامي معتدل، يبعد عن التشدد، والحال نفسه بالنسبة للمؤسسات الدينية التي ينبغي عليها التمسك بضرورة فرض خطاب ديني معتدل بعيدا عن المغالاة والتكفير الذي انتشر خلال السنوات الأخيرة وعدم إتاحة المجال للتيارات المتشددة التي تعمل خارج إطار المؤسسات الدينية الرسمية. وأضاف الدكتور طه علي أحمد، أما الدولة وتتمثل في السلطة الحاكمة والجهاز الإداري مطالبة بمحاربة الفساد الذي يترتب عليه غياب العدالة الاجتماعية بين أوساط الشباب. إذ أن أحد مسببات مشكلة اللامعيارية هو الإحباط الناجم بين الشباب عن غياب تطبيق القانون بشكل يضمن المساواة والعدالة بين الجميع، وبالتالي فإن الإرادة الجادة لمحاربة الفساد تدفع بدورها في إقناع الشباب بأن هناك خطوات جادة يتم القيام بها لتصحيح المشكلات المتصلة بالعدالة الاجتماعية. وأشار على الصعيد الاقتصادي نجد أن الدولة تبذل خلال السنوات الأخيرة الكثير من الجهود لتصحيح المشكلات الهيكلية في الاقتصاد المصري، وهو ما يعني أن الدولة اختارت الطريق الأصعب بعيدا عن الحلول الظاهرية والسطحية كما سبق، ويترتب علي ذلك صعوبة إحساس المواطن بنتائج تلك الإصلاحات الاقتصادية مما يفرض على الدولة ضرورة إعادة النظر في تلك الإشكالية فالمواطن يهتم في المقام الأول بتلبية احتياجاته الأساسية، والدولة أيضا مطالبة بفرض المزيد من الرقابة الموضوعية على الخطاب الإعلامي ومحتوياته وتجنب الترويج لمشاهد العنف، والأفكار الخارجة عن ثقافة الشعب المصري، كما أن الدولة مطالبة بدعم وتقوية الحياة الحزبية في مصر من خلال إتاحة المزيد من الفرص للأحزاب لتستوعب طاقات الشباب وهو ما يسهم في خلق جيل جديد على قدر من المسئولية تجاه الدولة في تلك المرحلة.