بسبب العقلية الأحادية القاصرة التى يتصف بها المجتمع الذكورى ترسخ فى ذهن الكثير مِن الرجال فى وقتنا الحالى وعلى مر الزمن أن النبوغ والتألق العلمى والفكرى قاصر عليهم, بل أدى ذلك بالبعض منهم إلى إزدراء المرأة والحط مِن شأنها والتسفيه مِن دورها وطموحاتها, الأمر الذى أدى فى النهاية إلى نسيان فضل بعض العالمات القديرات اللاتى نبغن وتألقن بل وتفوقن على الرجل, سواء فى عصرنا الحديث أو على مر العصور, نسيان فضلهن فى تقدم وإرتقاء البشرية, بل ونسيان وجودهن للأسف, ومِن هن تلك العالمة العظيمة التى يقف عندها التاريخ إجلالاً وإحتراماً وأسفاً .. إنها العظيمة سليلة قدماء المصريين وبنت الإسكندرية هيباتيا. - مَن هى هيباتيا؟ هيباتيا هى الفيلسوفة المصرية وعالمة الرياضيات والفلك, وتعتبر مِن أبرز النساء اللاتى نبغن فى الحقل العلمى فى التاريخ, إختلف المؤرخون حول تاريخ ولادتها, فمِنهم مَن قال بأنها ولدت ما بين عامى 350 - 355م, ومِنهم مَن رجح أنها ولدت فى عام 370م, ولكنهم إتفقوا جميعاً حول تاريخ وفاتها بأنها حدثت فى مارس 414م, ولدت هيباتيا لأب عالم فى الرياضيات والفلك, وهو أحد أعلام الإسكندرية ومكتبتها فى عصره, وهو العلامة ثيون السكندرى أو ثيون الكنسدروس, عاصرت هيباتيا الصراعات الدينية التى حدثت ما بين اليهود والمسيحيين, وما بين المسيحيين أنفسهم حول طبيعة الإله وعلاقته بالإنسان, ولكنها لم تتبع المسيحية وظلت على ديانتها المصرية, والتى وصفها المسيحيين كما وصفوا كل ماهو هو غير مسيحى بالوثنى, عاشت وماتت هيباتيا عزباء, وحينما سألوها عن سبب ولعها بالرياضيات وعدم الزواج قالت أنها تزوجت الحقيقة. - تعليمها وأعمالها: تلقت هيباتيا تعليمها بشكل رئيسى على يد أبيها ثيون, هذا بالإضافة إلى تأثرها بأفكار وكتابات العديد مِن العلماء والفلاسفة الإغريق والسكندريين, وعلى رأسهم الفيلسوف المصرى الصعيدى أفلوطين, والتى مِن خلال تساعاته إنضمت إلى الأفلاطونية المحدثة, وأصبحت أستاذاً فيها, أما على مستوى الإنتاج العلمى والفكرى فكانت لها أعمالاً منفردة وأعمالاً أخرى مشتركة مع أبيها, وللاسف الشديد ضاع أغلبها, ولم يتبقى سوى القليل, بالإضافة إلى أنها رسمت مواقع للأجرام السماوية، واختراعت مقياس ثقل السائل النوعي (المكثاف) المستخدم في قياس كثافة ولزوجة السوائل, وصنعت أيضاً نوع من آلات الإسطرلاب, وهى آلة فلكية. وبالرغم مِن عدم إتباع هيباتيا للمسيحية إلا أن نبوغها وتألقها خلق لها سُمعة حَسِنة بين مجتمع العلماء والنخبة, وذلك لتفوقها وسيطرتها على ما تقدمه مِن معارف وأفكار وإختراعات, مما ترتب عليه أن أصبحت قِبلة للدارسين والباحثين, يأتون إليها مِن كافة البلدان لينهلوا مِن علمها, ولم يقتصر نوع هؤلاء المريدون على فئات غير المسيحيين بإعتبار أنها غير مسيحية بل كان لديها طلاب كُثر مِن المسيحيين, ولعل مِن أشهرهم سينوسيوس الذى سيصبح قسيساً فى ليبيا فيما بعد, ويُذكر أنه أشاد بهيباتيا, وعَبّر عن مدى إحترامه وتقديره لها ولأفكارها فى خطابات أرسلها إلى أخيه, ومِن ضمن ما قال ما يلى: "لم يبقى لأثينا غير أسماء البلاد المشهورة, فاليوم قد تلقت مصر وصانت الحكمة النافعة مِن هيباتيا, قديماً كانت أثينا موطن الحكمة, أما اليوم فتجار العسل مصدر فخارها". - إغتيالها: عاصرت هيباتيا الصراع الدينى المُغلف بغلاف سياسى الذى كان قائماً أنذاك, خاصة بعدما تم إعلان المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية, وترتب على ذلك الإعلان أن تم تصنيف كل ما هو غير مسيحى على أنه وثنى, وشمل ذلك التصنيف كافة الأديان والأفكار والفلسفات التى تختلف مع المسيحية ثم إتسعت الدائرة لتشمل الأطراف المتصارعة حول طبيعة الإله وعلاقته بالإنسان, ووصم المخالفون للرأى بالمهرطقين والملاحدة, وأدى ذلك فى النهاية إلى إضطهاء المسيحيين وعلى رأسهم البطريرك لكل مِن اليهود وأصحاب المدارس الفلسفية والقائمين على جامعة الإسكندرية ومكتبتها, وإحتد الصراع وإشتد تطرفاً بعدما تولى رأس الكنيسة القس كيرلس الأول الملقب بعمود الدين عام 412م, حيث أعطى بسلوكياته طابعاً سياسياً للصراع, وذلك بعدما نازع والى الإسكندرية أوريستوس فى السيطرة على المدينة. ولسوء الحظ فقد كان أوريستوس مقربًا إلى هيباتيا ويكن لها تقديرًا كبيرًا, كما قيل أنه كان أحد تلاميذها، وكان يستضيفها دوماً لإلقاء الندوات والمحاضرات عليه وعلى بعض النخبة, وللأسف تسببت تلك العلاقة فى الفتك بها لاحقاً, وتتابعت الأحداث كالآتى: - دخل كيرلس في صراع مع اليهود الموجودين بالمدينة، ونجح في طردهم إلى خارجها, وذلك بمساعدة أعداد كبيرة من الرهبان، الذين شكلوا ما يمكن تسميته (بجيش الكنيسة). - لم يكن باستطاعة الوالي إيقاف ذلك الصراع، بل تعرض للإهانة والإعتداء من جانب بعض الرهبان الذين قاموا بقذفه بالحجارة، بعد أن علموا بالتقرير الذي أرسله للإمبراطور شاكياً المسيحيين بسبب الفوضى التي جرت بالإسكندرية جراء اشتباكاتهم مع اليهود. - تأزمت العلاقة بين المسيحيين وبين الوالي أوريستوس رغم أنه كان مسيحياً أيضا, ولكنهم أخرجوه مِن الدين. - إلتفاف جمهور المثقفين حول هيباتيا سبب حرجًا بالغًا للكنيسة وللأسقف كيرلس الأول الذي كان يدرك خطورتها على المسيحيين - إنتشرت الشائعات وتضمنت أن سبب العداء بين الوالى والبابا يعود إلى هيباتيا وتأثيرها على حاكم المدينة، وهذا يعني أن المدينة لن تعرف الهدوء إلا بالخلاص منها. - إنتظرها مجموعة مِن الرهبان (جيش الكنيسة) وتتبعوها عقب رجوعها لبيتها عائدة مِن إحدى ندواتها, حيث قاموا بنزع ملابسها وسحبها عارية تماما بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها، وإصطحبوها إلى داخل إحدى الكنائس, حيث لقيت مصرعها على آلات التعذيب, ولحق هذه الوحشية أنهم قطعوا جسدها ووضعوه على كومة مِن الحطب وأشعلوا به النيران, وتمت تلك الجريمة في شهر مارس من عام 414 م. على غرار الكثير من ضحايا الإرهاب الديني قُتلت هيباتيا, وبمقتلها فر العديد مِن العلماء مِن الإسكندرية, خاصة بعدما تم إحراق المكتبة بدعوى أن كُتبها تحتوى على أفكار وثنية وسحر, ثم لاحق ذلك أن دخلت البشرية ما عُرف بالعصور الوسطى المُظلمة, أو بألفية الظلام والجهل خاصة فى أوروبا, حيث صكوك الغفران وإضطهاد العقل وتدمير العلم, ومثالاً على مدى التخلف فقد رفعت أوروبا شعار تحريم التداوى لأن العلاج يعتبر إعتراض على مشيئة الرب. سليل الفراعنة - Hesham Nady 16 أبريل 2018 المراجع: 1- متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة - تيموثى فريك & بيتر غاندى - ص16 2- مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربى - ه آيدرس بل - ص169 3- الإسكندرية تاريخ ودليل ا . م . فورستر - ص111 4- الامبراطورية الرومانية والنظام الامبراطوري ومصر الرومانية - مصطفى العبادى - الصفحات 256 , 257, والصفحات 305 , 306