الدين والفلسفة صديقان لدودان يتنازعان حينا، ويتفقان آخر قد يتفلسف التدين فيصبح العقل معضدا للنقل ومدافعا عنه أو شارحا عقلانيا له كما كان ابن رشد ومن قبله فيلون السكندري، وقد تتدين الفلسفة وتصبح دينا تأمليا استنباطيا كما عند أفلوطين المصرى . ورغم أن علاقة الدين بالفلسفة شهدت توترا فى مراحل عديدة من التاريخ لكن الخلاف ليس ماهويا كما يتصور البعض فالفلسفة ليست نقيضا للدين ولا الدين نقيضا للفلسفة ولكل مجاله، وإن تصادما في حالات كثيرة عبر التاريخ. ومنها حالة وقعت بالإسكندرية فى القرن الخامس الميلادى مع حكم الرومان واعتبار المسيحية ديانة معترف بها من قبلهم بعد اضطهاد ساد قرونا. البداية كانت من غزو الإسكندر للشرق فى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد مؤسسا للعصر الهلينستى الذى هو خليط من ثقافة اليونان الهللينية وبين الشرق، وكانت الإسكندرية البوابة الرئيسية التى تربط مصر بالعالم الخارجي، والمركز التجارى العالمى التى تتجمع فيه العناصر الإفريقية والهندية والعربية واليونانية والسورية، كما وفد إليها أبناء الطبقة الأرستقراطية لتلقى التعليم فكانت ملتقى التجار والعلماء والشعراء وأهل الفن وغيرهم، فامتزجت فيها ثقافات عديدة وتيارات فكرية واسعة. فى الإسكندرية تجاور الوثنيون والمسيحيون واليهود من أصحاب الديانات مع الغنوص والأفكار الهرمسية من التيارات العرفانية مع الأفلاطونية المحدثة والأفلوطينية من بقايا التيار الفلسفى اليونانى الذى تدين بالإسكندرية بعد رحلة عقلية شاقة والتوق الى إيمان كما يقول الدكتور نجيب بلدى فى تأريخه للفكر السكندرى آنذاك. ومع هذا التجاور والاختلاط نشأت علاقة تأثير وتأثر لا تنكر بين كل التيارات السابقة ومع هذا الإختلاط نشأت صراعات هيمنة كان للسياسة فيها دور ملحوظ. وكان من بين مشاهير الفلسفة فى المدينة ثيون عالم الرياضيات والفيلسوف الذى ترك شروحا لمؤلفات بطليموس اعترف فيه بالدور الذى قامت به هيباتيا Hypatia ابنته فى وضع هذا الكتاب . غير أن ابنته فاقته فى الشهرة وكثرة التآليف فقد وضعت شروحا لكتاب ( القوانين الملكية) لبطليموس وكتاب (المخروطات) لأبولونيوس وآلت إليها زعامة مدرسة الأفلاطونية المحدثة . يحدثنا المؤرخ الكنسي سقراط – فيما نقله عنه الدكتور رأفت عبد الحميد- أنها (فاقت كل فلاسفة عصرها وكانت تقدم شروحها وتفسيراتها الفلسفية لمريديها الذين قاموا من مختلف المناطق التى بلغتها شهرة الفيلسوفة السكندرية. وقد بلغ من رباطة جأشها ودماثة خلقها الناشئتين من عقليتها وثقافتها الواسعة أنها كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد وهى بحضرتهم مسلكها المتواضع المهيب الذى كان يميزها عن غيرها، والذى أكسبها احترامهم وتقدير الناس جميعا وإعجابهم وكان والى المدينة أورستوس فى مقدمة هؤلاء الذين يكنون لها كل الاحترام). ومع تزايد أعداد معجبيها – ومنهم والى المدينة كما ذكرنا- أصبحت تمثل خطرا على جماعة المسيحيين لا سيما مع صراع الأسقف كيرلس – عمود الكنيسة- مع الوالي. كان صراع المسيحية والوثنية فى أعلى مراحله، ودمر معبد السرابيوم، وتكونت جمعية تعرف ب (محبى الآلام) Philoponai التى كانت مهمتها تبليغ الإدارة الحكومية عن العناصر الوثنية التى تمارس نشاطا فكريا ملحوظا يمكن أن يكون عقبة فى سبيل إقرار سلطان الكنيسة وسيادتها أو انتشار المسيحية بين جماعة المثقفين . ثم ساءت علاقة الأسقف كيرلس مع اليهود الموجودين بالإسكندرية وسعى لإخراجهم بمساعدة جيش من الرهبان التابعين للكنيسة، بل وتعرض الوالى نفسه للتطاول والإهانات من جانبهم وقذف بالحجارة من جراء تقرير أعده للإمبراطور يصف الفوضى التى عمت المدينة من جراء اشتباك الرهبان مع اليهود، وساد الاعتقاد أن السبب فى العداء بين الوالى والكنيسة هى الفيلسوفة هيباتيا وتأثيرها على الوالى فكان القرار هو التخلص منها. ترصدت مجموعة من ( محبى اللآلام) لهيباتيا وانتزعوها من عربتها وسحبوها لكنيسة ( قيصرون) وجردوها من ملابسها ورجموها بالحجارة ومثلوا بجثتها وقطعوها إربا وأشعلوا فى جثتها النيران. يعلق المؤرخ سقراط على هذه الحادثة (ليس هناك شئ أبعد عن الروح المسيحية أكثر من السماح بالمذابح أو الحروب أو أى وحشية من مثل ذاك، وإن هذا العمل لم يلحق الخزى والعار بالأسقف كيرلس فقط بل بالكنيسة السكندرية كلها). ويضيف المؤرخ جيبون إن أسقف الاسكندرية تمكن من إيقاف سير التحقيقات عن طريق هدايا ومنح واكتفى الامبراطور ثيودوسيوس بقرار يقضى بعدم تواجد الرهبان فى الأماكن العامة. حادثة هيباتيا لم تكن الأولى ولم تكن الأخيرة كذلك، فالتاريخ مليئ بالحوادث التى استقوى فيها المتعصبين على المفكرين الأحرار، ولعلها ضريبة الحرية لزاما على الأحرار أن يدفعوها عن طيب خاطر.. عندما أفكر مليا فى كتابتك وفيك أنت يا هيباتيا المبجلة عندئذ أركع لمرأى وطن العذراء المزدان بالنجوم وهناك فى السماوات أتعرف الى أعمالك وكلماتك الحقة كنجم ساطع…