استبشر المصريون خيرا في الضابط الألباني الشاب محمد علي الذي جاء إلي مصر علي رأس كتيبته في أعقاب الحملة الفرنسية وبعد أن أظهر حماسا واضحا في الدفاع عن مصر مع رجالها وعلي رأسهم الزعيم عمر مكرم فتصرفوا معه علي حد وصف الحجاج بن يوسف الثقفي لأهل مصر"ما أتي إليهم قادم بخير إلا التقموه كما تلتقم الأم رضيعها.. وما أتي عليهم قادم بشر إلا أكلوه كما تأكل النار أجف الحطب....الخ" وقد لاحظ محمد علي أن فئران السفينة من المماليك قد عادوا إلي المحروسة بعد أن هربوا من الحملة الفرنسية الي جنوب الصعيد، ليكملوا عملية امتصاص دماء المصريين التي بدأوها منذ خمسة قرون، وذلك بعد أن قفزوا من السفينة بمجرد أن صدمهم التقدم التكنولوجي للجيش الفرنسي والذي جعلتهم مدافعه يفرون صائحين ياخفي الألطاف نجنا مما نخاف". وبقدر غرور المماليك بقوتهم الزائفة وصبر المصريين وبقدر حصافة محمد علي وحسن تقديره لقوة المصريين الذين يصفهم الحجاج (إن قاموا لنصرة رجل ماتركوه إلا والتاج علي رأسه) وبقدر ما أبعد المماليك والعثمانيون -من بعدهم- الشعب المصري عن الانخراط في سلك العسكرية، خوفا من أن يؤدي الأمر الي امتلاكه مقاليد القوة بقدر ما سعي محمد علي إلي تكوين جيوشه منهم، مؤمنا بأنهم خير أجناد الأرض خاصة. وقد كانت الحروب هى المحدد الأول لمصائر الممالك قوة وضعفا، ثباتا وانهيارا، وكان محمد علي قد عاصر فرق"المرتزقة" من الجنود فلم يكن مهما ان ينتمى الجندى المحارب الى طبقة او قبيلة او بطن من البطون وإنما كان الجندي الماهر المتمكن من فنون القتال هو محط اهتمام القادة بصرف النظر عن ولائه الشخصى مادام شراء هذا الولاء فى إمكان الملك أو القائد العسكري. ومن أشهر الجنود المرتزقة قديما فرق "الانكشارية" التي كونها المماليك الذين بدأوا عبيدا يبرعون فى فن القتال منذ الصغر، ولا ينتمون اجتماعيا او أسريا الا للأقوى والأكثر مالا، وقد تحدث بن خلدون عن "الجندى المرتزق" عندما تحدث عن مراحل قيام الدولة وأكد أنه فى المرحلة التى يهنأ فيها الملوك والقادة بنعيم العيش ورفاهية الحياة يكثر اعتمادهم فى أساس قواتهم العسكرية على المرتزقة من الجنود الذين يحصلون مقابل حمايتهم لحدود الدولة على أعظم الأجور، ويمارسون سلطة ونفوذا على الجميع بما فيهم السلطان نفسه، كما أنهم فى كثير من الاحيان كانوا يصنعون كلمة النهاية فى قصة الدولة التى طالما عاشوا فى كنفها ونهلوا من خيراتها. لذا يستبعد محمد علي فكرة تكوين الجيش من الألبان الذين ينتمي إليهم في الأصل أو الأفارقة،أو الانكشارية من المماليك الذين كانوا يتحينون الفرص للقفز علي حكمه كما اعتادوا في الغدر بحكامهم، ورغم أنه صبر علي المماليك لمدة ست سنوات ليدمجهم في نظامه الا أنهم فضلوا "مقاعد الثورة المضادة" التي سعت إلي إجهاض مشروع النهضة- الذي بدأه بمعونة الصفوة من متعلمي مصر- فقرر إزالة ورم المماليك السرطاني "الجاثم علي قلب مصر بإجراء عملية جراحية قاسية، بعد نفاذ صبره عليهم بتنفيذه لمذبحة القلعة التي ساعده عليها رجله الأول ومحل ثقته (لاظوغلي). وكانت طريقته في تكوين الجيش المصري الحديث تتلخص في تجنيد الشباب من أبناء الريف المصري، الذين كانوا يخرجون من قراهم للمرة الأولي، ليتلقوا مبادئ العسكرية المصرية علي أيدي أمهر القادة، فانطلقوا يحملون مع كتائبهم مشعل الحضارة الي السودان وباقي دول حوض النيل، كما انطلقوا إلي شبه الجزيرة العربية يحررونها من أيدي العصابات التي كانت تهاجم قوافل الحجاج ويؤسسون"التكايا" التي توزع علي قبائل شبه الجزيرة العربية المؤن والكسوة من قبل اكتشاف البترول وتغير الأحوال. وقد رسخ محمد علي نظاما صارما للجندية يقوم علي الشجاعة والانضباط والعدالة حتي أنه عاقب أمير ألاي البحرية عندما استقبل الأمير إبراهيم باشا نجل الوالي محمد علي بالحفاوة والاحترام، وذلك بعد أن أبلغه الوالي أنه سيرسل ولده إبراهيم- الذي كان فتي صغيرا- إلي جميع الفرق العسكرية المختلفة، ليتعلم أصول العسكرية في جميع التخصصات؛ كسلاح المشاة والبحرية والفرسان.. الخ وذلك تمهيدا ليصبح بحق أبو العسكرية المصرية قد أدهشتني اللهجة الصارمة التي خاطب بها الوالي، قائد البحرية، عندما وقعت في يدي بالصدفة الوثيقة التي تحتوي الخطاب وكنت أبحث في دهاليز دار الوثائق القومية بالقلعة عن الوثائق الخاصة برسالتي الدكتوراة فهو يبدأخطابه قائلا: "رفتناك من منصبك لأنك وقفت احتراما لولدنا الأمير ابراهيم عندما أرسلته إليك ليتلقي علوم سلاح البحرية علي يديك، وكان عليك أن تعامله بصفتك قائده ومعلمه بالانضباط الواجب والربط، كي يخشاك ويهابك ويأخذ عنك العلم والعسكرية الواجبة، أما وقد أظهرت الخضوع له عند استقبالك الأول له، فما عاد ممكنا لك أن تقوم علي تهذيبه وتربيته التربية العسكرية الواجبة وصار من الضروري أن يتولي أمر تعليمه من له القبضة العسكرية الحازمة ليتهيأ لقيادة خير أجناد الأرض عن جدارة واستحقاق...". وقد أكدت الأحداث بعد ذلك كيف صار الفتي الذي تربي علي الخشونة والانضباط إبراهيم باشا أبو العسكرية المصرية بحق فلم يعرف تدليل أبناء الحكام ولا إفسادهم الذي عانينا ويلاته في حاضرنا.