ها هي كلماتي التي تأخرت أكثر من ثلاثة أعوام، فمنذ وفاة «أبويا» لم أستطع الكتابة عنه وكأني أنعيه، لم تساعدني الكلمات في التعبير عن عظمة هذا الشخص الرائع المتسبب في كل شيء إيجابي داخلي الآن، أبويا الذي وضعني على كل الطرق الصحيحة وظل مراقبا لي ليكون سندا وقت ضعفي، ويأخذ بيدي من عثرتي، ويعطيني أملا وثقة في نفسي عند اليأس، ويؤكد لي أن الخير المتأصل داخلي سيغلب شيطاني. رغم حقيقة وفاته القاسية، وعدم امتلاكي أي شيء سوى التصبر والاعتياد على الحياة بدونه، إلا إنني أكره لقب «الله يرحمه»، وليغفر لي الله الذي يعلم قسوة هذه الجملة عليّ، وكأنها تذكرني أن «أبويا مات».. حتمًا سيرحمه، فمن يرحم سوى الله ومن يُرحم سوى أبويا. أبويا الذي حاول تدليلي طفلا، وأعطاني أكبر قدر من اللهو واللعب، ولم يرفض لي أي مطلب من مطالب الرفاهية، النادي والملابس والرياضة والخروج والرحلات المدرسية، كان دائم الاستجابة لتلك المطالب، وكثيرا كان يسمح لي بمناقشته ويعطي حديثي ورأيي الأهمية، فأنتهي من مناقشته مغلوبا كالعادة ولكني سعيدا بالطفل الذي استطاع التحدث مع أبوه لساعات. وما أن أصبحت مراهقًا حتى تمردت على والدي وعلى المنزل وتشبثت أكثر بآرائي وتقمصت دور المقهور أسريًا، وتحملني والدي، وأعطاني أكبر قدر من الحرية والخصوصية. أبويا الذي لا أتذكر أنه فتّش ملابسي أو أغراضي إلا عندما خذلته ووقفت في موضع الشبهات، ولم أتذكر أنه اقتحم غرفتي دون استئذان أو تنبيه، ولم يتجسس على مكالماتي، ولم يقرأ مذكراتي الشخصية في غيابي، ولم يتدخل في صداقاتي ويمارس عليّ ضغوط الأب الخايف على ابنه. أبويا الذي تركني للعديد من التجارب التي كانت تبث قلقا داخله، ولكنه كان مراقبا من على بُعد، وكأنه يعطي احتمالية نجاح لوجهة نظري، أو يزرع داخلي إحساس من المسؤولية والاعتماد على النفس، وكان عندما يتعجب من سلوك شائع بين أبناء جيلي يبتسم نصف ابتسامة قائلا: «لكل زمان دولة ورجال». أبويا الذي كان رحيمًا لأبعد الحدود، لن أنساه عندما طالبني بمصارحته بأي خطأ قد أقع فيه، قائلا: «يا ابني قول لي مشاكلك وأنا أحلهالك، اغلط وأنا أساعدك تصلح غلطك، يا ابني أنا مُشفق عليك من التفكير في مشكلة إنت مش عارف تحلها لكن أنا أقدر أحلها، يا ابني ده حقك عليا». أبويا الذي لم يحرجني أو يكسرني في نظر نفسي، لن أنساه عندما اكتشف أحد أكاذيبي وجاء ليواجهني، لأرد: «ممكن متكلمش دلوقتي يا بابا؟» وأجده مرحبًا مبتسمًا ولم يفتح معي الموضوع مجددا، فرسالته قد وصلت، في هذا الوقت شعرت كم أنا مُقصر في حق أبويا، الذي رفض إحراجي في نظر نفسي. أبويا الذي احترم خطابات الاعتذار التي كتبتها له، ولم يقلل من عدم قدرتي على مواجهته بخطأي، تلك الخطابات التي وجدت منها واحدًا داخل محفظته بعد وفاته، واثنين آخرين كتب لي الرد أسفلهم، وأحتفظ بهما الآن لأتأمل عظمة أبويا وأتعجب من حكمته. أبويا الرجل الكريم، الذي علمني عزة النفس والإيثار ومساعدة الغير، وطالما وجدته متافنيًا في كثير من الاجتماعيات التي لم أجد له أي مكسب من خلفها، سوى رضاه التام عن نفسه. لن أنسى نظرات أبويا لي عندما أخبرته أني تشاجرت مع أحد أصدقائي، وأبكيته من الضرب، شعرت يومها أني خيبت آماله، ليقولي لي: «وهيجيلك نوم وانت صاحب عيّط بسببك؟ هو أنت مش عارف يعني إيه صاحب يا ابني؟ يا كريم الصحاب دنيا، لو خسرتهم هتبقى خسرت الدنيا». أبويا الذي كان سريع الغضب وشديد العصبية، ولكنه سرعان ما يراجع نفسه ويشعر أنه بحاجة لتصحيح موقفه، فينادي عليّ للعشاء أو للسؤال عما معي من نقود، لأعلم من داخلي أنه الآن صافيا لي. أبويا الذي زرع في نفسي تقديس الكبار سنًا وعدم التجاوز بحقهم، واحترام الصغار سنًا وعدم الاستهانة بهم، وطالما حذرني من هدم شخصية أي شخص مهما كان. أبويا هو الشخص الذي عاش للناس ونسى أن يعيش لنفسه، لم أجده يوما راغبا في السفر أو التسوق أو قضاء إجازة خارج منزلنا، رغم إنه لم يحرمنا جميعًا من تلك الحقوق، وكانت متعته في الأفلام الأجنبي والقراءة. أبويا عندما صارحني بحلمه في شبابه بأن يصبح أديبًا بارزًا، ولكنه اعترف أنه لم يبذل الجهد الكافي لتحقيق هذا الحلم، حزنت يومها من الدنيا التي حرمت أبويا من هذا الحلم، ولو كنت أعلم لوالدي مشروع كتاب أو ديوان شعري؛ حتمًا كنت بذلت قصارى جهدي لنشره والمساهمة بشكل طفيف لتحقيق حلم من حقق كل أحلامي. أبويا الذي طالما حثني على الاجتهاد، وكان يحذرني من صعوبة المستقبل في مصر، ويناشدني بإعداد نفسي جيدًا والتسلح بالعلم والقراءة واللغة من أجل مواجهة سوق العمل. أبويا الذي سهرنا أمام شاشة التلفزيون سويا نشهد أخبار ثورة يناير، وأسمعه يردد بأعلى صوت «أيام مجيدة في تاريخك يا مصر.. الحمد لله إني عشت وشوفت الأيام دي».. أبويا الذي التقيته بالصدفة في إحدى المظاهرات المنددة بنظام مبارك وابتسم لي وسار جانبي وهتفنا سويًا «الشعب يريد إسقاط النظام». أبويا الذي أيقظني هتافه من النوم يوم التنحي ليعانقني قائلا: «اتنحى الحمد لله.. يارب أيامكم تكون أحلى». أبويا الذي لم يقهره المرض، لقد كان حمولا وقويا لدرجة تفوق الوصف، ولم ينشغل بنفسه قدر انشغاله بي وبكل من حوله، فبعد إجراؤه جراحة كبيرة بأيام وأثناء زيارتي له في المستشفى أصر على إعطائي وجبته البسيطة التي يقدمها المستشفى، قائلا: «انت قاعد لوحدك خد المعلبات دي كُلها أنا مش عاوز.. معاك فلوس ولا لا ؟». أبويا الذي تحمل آلام العلاج الكيماوي، ولم يظهر شيئا مما يبطنه، وكان مبتسما أمامي في أغلب الوقت، وعندما اضطر إلى الصلاة جالسًا تجنب الصلاة أمامي خوفا على مشاعري وصورته في نظري. أبويا الذي أصر –رغم مرضه- على لقاء أصدقائي الذين تبرعوا له بالدم، وتوجيه الشكر لهم بنفسه، ومطالبتي بالسفر معهم وعدم تركهم. أبويا الذي رفض تقبيلي ليده، وكأنه يريد جبهتي دائمًا مرفوعة، لكن إذا لم أخفضها لأبويا فلمن أخفضها؟ كل الكلمات في تذكر والدي تكون قمة في البُخل، وأنا أتحول إلى شخص خجول لا أستطيع أن أرفع وجهي أمام ذكراه، أنا أقل كثيرًا من هذا الاسم الذي يتبع اسمي، فأبويا بكل الفخر هو السيد طه توفيق البكري. شكرًا يا أبويا شكرًا.. لأنك ربيتني.. لو كانت التربية واجبك فأنت أحسنت تأدية الواجب. شكرًا.. على كل نصيحة صادقة قدمتها لي. شكرًا.. على كل جرس إنذار ضربته بايدك في طريقي. شكرًا.. على كل مرة سامحتني فيها ورجعت لي ثقتي في نفسي. شكرًا.. على احترامك لشخصي ولوجهة نظري. شكرًا.. على كل ما زرعته جوايا من إيجابيات. شكرًا.. على نعمة الأصول اللي عرفتهالي. شكرًا.. على كل جنيه صرفته عليا. شكرًا.. على تحقيق رفاهياتي قبل احتياجاتي الأساسية. شكرًا.. على كل مرة عاقبتني بسبب «الكذب» حتى كرهته. شكرًا.. على كل حوار دار بنا وسمعتني فيه. شكرًا.. على إنك كنت خير مثال وقدوة. في النهاية.. أبويا لم يمت.. فالموت لا يليق به.. أبويا ومن هم على شاكلته يجب أن يظلوا أحياء... ولكن أبويا وحشني جدا.