300 كيلو متر جنوبالقاهرة .. تلك هى المسافة التى كان يجب أن نقطعها لنصل بكم إلى أعماق المنيا، حيث التاريخ الحى الذى لا يزال ينطق بالأسرار من أعلى الجدران .. هنا البشر والحجر يشتركان فى العراقة والأصالة، هنا نفرتيتى لا تزال حية فى الحكاوى والتراث الشعبى وسط البسطاء .. هنا قرى برديس والحاج قنديل وتل العمارنة وهى قرى صغيرة وبسيطة تقع شرق مدينة دير مواس بالمنيا إلا أنها تحتفظ بالسر الأعظم "سر اختفاء نفرتيتى"
الأهالى البسطاء يعيشون فى بيوت فقيرة ولا يتمتعون بمعرفة كاملة بالمكان الذى يسكنون فيه وبعضهم يتخطى حدوده ويبنى على أملاك نفرتيتى بالمخالفة للقانون .. فما يقرب من 3 آلاف عام هو عمر هذه المدينة الكاملة التى أقامها إخناتون فى تل العمارنة، فى هذا المكان انطلقت دعوته للتوحيد، وفى هذا المكان أيضا عاشت نفرتيتى ملكة متوجة فى قصر به حمام سباحة على النيل!. القصر لايزال فى مكانه وأطلال المدينة باقية أيضا، وهناك قصران: قصر شمالى للصيف وقصر جنوبى للشتاء، أما نفرتيتى فقد اختفت مع إخناتون فى ظروف غامضة، لتسجل بذلك أشهر حادثة اختفاء فى التاريخ..
وليسمح لنا القارىء بإطلالة تاريخية بسيطة حتى نفهم الحدوتة .. كانت نفرتيتى هى زوجة الملك إخناتون المعروف باسم "أمنحتب الرابع" الذى تولى الملك بعد أبيه أمنحتب الثالث، فاتجه لعقيدة التوحيد وأراد أن يغير من الأوضاع الدينية فى هذه الأثناء وقام بتسمية الإله الذى يدعو إليه باسم "آتون" أى قرص الشمس وبعد ذلك سعى لإيجاد عاصمة جديدة للبلاد لم يعبد فيها أى إله آخر، فاختار وزراؤه تل العمارنة وهو وادى يمتد فى شكل قوس على النيل وكانت أرضا بكرا وكانت مكانا لفيضانات النيل ولذلك أرسل المهندسين والعمال وأسسوا له مدينة بالطوب اللبن وبيوت ومقبرة ملكية واتخذها لدفنه هو زوجته نفرتيتى وبناته، وكانت تل العمارنة تسمى "إخيت آتون" أى مشرق الشمس.
اصطحبنا فى الجولة حمادة قلاوى، مفتش آثار ملوى، وهو باحث متمرس فى تاريخ تل العمارنة، حيث يقول: الدكتور نيكولاس ريفز متخصص فى دراسة مقابر فترة العمارنة فى وادى الملوك والقصة بدأت من عهد الملك أمنحتب الثالث، والملك إخناتون تربى فى طيبة "الأقصر" فى البداية، ولم يعجبه الوضع العام للكهنة وتعدد الآله، ففضل الانتقال إلى تل العمارنة، وكانت هناك خلافات بين كهنة آمون فى الأقصر وبين مملكة إخناتون فى المنيا، ومن ثم كانت هناك نية مبيتة، لهذا قام كهنة آمون بهدم المدينة وقتل من بها، فهناك من هرب وهناك من لقى مصرعه، والمفترض أن نفرتيتى كانت مع العائلة المالكة وأن نهاية نفرتيتى هى نفس نهاية الملك زوجها إخناتون وبناتها الأميرات الستة، وهنا تدور الكثير من التساؤلات فهل العائلة المالكة عادت إلى طيبة مرة أخرى؟ علما بأنهم جاءوا من طيبة ورفضوا الحياة بها فكيف يعودون مرة أخرى إليها خاصة فى ظل وجود كهنة آمون؟ وهناك آراء تقول أنهم رجعوا إلى "أخميم"، عند أهل نفرتيتى، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم كيف كانت نهاية الملك إخناتون وزوجته نفرتيتى، فهل دفنوا فى العمارنة أم دفنوا فى الأقصر فى مقابر وادى الملوك أم دفنوا فى مكان مجهول، الجديد أن بعثة بلجيكية اكتشفت نقشا مذكور فيه اسم نفرتيتى والعام السادس عشر من عمر مملكة إخناتون فى تل العمارنة بما يعنى أن نفرتيتى عاشت فى المدينة حتى نهايتها ولاقت نفس المصير. هنا مقبرة نفرتيتى!
فى أعماق الجبل وفى منطقة لا يتصورها أحد تقع مقبرة نفرتيتى أو المقبرة الملكية التى أنشأها إخناتون لتكون مقرا لدفن الأسرة بأكملها، المقبرة منحوتة فى بطن الجبل على عمق يصل لأكثر من 50 مترا وفى الداخل غرفة كبيرة لدفن إخناتون وغرف أخرى لدفن الأميرات والملكة نفرتيتى.. هذا المكان يحمل الكثير من الأسرار التى ننقلها إليكم. حيث يواصل مفتش الآثار حمادة قلاوى حديثه معنا قائلا: هناك حجرة لدفن الأميرة ميكت آتون وهى إبنة إخناتون ونفرتيتى وهى الوحيدة التى وجدت بالمقبرة لأنها ماتت صغيرة قبل أن يهدم كهنة أمون المدينة ولهذا دفنت ووجدت متعلقاتها فى هذا المكان، أما إخناتون فقد تم العثور على تابوت خشبى كان مخصصا لدفنه به ولكن لم يتم العثور على نفرتيتى أو أى أشياء تخصها، هذه المقبرة اكتشفها البدو فى القرن الثامن عشر ووصل إليها اللصوص ووجدت أشياءها مبعثرة ومهلهلة لأنها تعرضت للإهمال ووصلت إليها السيول، ومنذ بداية الدولة الحديثة كان الملوك فى مصر القديمة يختارون وادى متطرف فى الجبل وهو نفس ما عمله إخناتون حيث اختار واديا بعيدا فى الجبل للمقبرة الملكية وجعلها تتجه ناحية الشرق، وفى هذه المقبرة الملكية تم محو اسم نفرتيتى ووجوه نفرتيتى أثناء دخول الكهنة، وعاشت العائلة الملكية فترة أخرى، ولكن لا يوجد دليل على أنها دفنت فى الأقصر إلا إذا أثبتنا صحة أنها عاشت هناك وهذا لم يثبت، وفى المقبرة 55 فى وادى الملوك وجدوا هياكل عظمية فاعتقدوا أنها تخص الملكة نفرتيتى ولكن هذا لم يثبت. الإله الرسمى والآلهة الشعبية!
يحظى النصف الجنوبى من المنيا بالذات باهتمام عالمى.. حيث تتواجد بعثات أثرية أجنبية، أفراد هذه البعثات متيمون بالتاريخ المصرى، ويقيمون فى بيوت تراثية ويتميزون بقدر كبير من الطرافة .. آنا استيفن من أستراليا تعيش وسط تاريخ تل العمارنة منذ 15سنة لدراسة المكان، أعدت دراسة دكتوراه طريفة عن مظاهر التدين عند المصريين القدماء فى المنيا، الطريف أنها اكتشفت نتائج لا تختلف كثيرا عما هو موجود الآن، فالناس كانوا يعبدون أتون فى المعبد باعتباره "الإله الرسمى" أما فى المنازل فيعبدون آلهة أخرى مثل الإله بس، حيث تقول آنا كان هناك تظاهر باتباع الدين الرسمى فى حين أن الناس فى الحياة العادية يعبدون آلهة أخرى، التدين الرسمى لازم تعمل كذا وكذا، لكن فى الحياة الشعبية وفى الحياة الطبيعية هناك تعدد فى الآلهة والميل لاتباع العادات والتقاليد أكثر بكثير من إملاءات الملوك، وأنا اشتغلت فى الجبانة الجنوبية بالمكان وبقايا العظام التى تم العثور عليها من خلال التحاليل تثبت أن الناس كانت تعانى من الأمراض وكانوا يموتون وهم فى سن صغيرة، أى أن أعمارهم كانت قصيرة. الطريف أن آنا استيفن تشعر بالهوس تجاه نفرتيتى وتراها الأكثر شهرة وحضورا وجمالا فى التاريخ المصرى، والحل الوحيد لفك اللغز الخاص باختفاءها يتم بالعثور على المومياء الخاصة بها، ولهذا فإن الأبحاث لن تنتهى ومطلوب إجراء دراسات وأبحاث لأكثر من 300 سنة قادمة لفك طلاسم المنطقة.