أعدت صحيفة الإندبندنت البريطانية تقريرا مثيرا حول ما وصفته بكنز مدينة البهنسا المصرية التى تقع بمحافظة المنيا، والذى جرى استنزافه ونقله إلى بريطانيا فى أواخر القرن التاسع عشر، هذا الكنز يضم أكثر من نصف مليون بردية وعدة آلاف من القطع الأثرية النادرة .. الغريب والمثير أن هذا الكنز، الذى يكشف عن مدى النهب الاستعمارى لمصر، يضم نسخة من خطاب قديم لنبى الله موسى عليه السلام! فمتى تطالب وزارة الآثار باستعادة هذا التاريخ الضائع؟ هذه الكنوز محفوظة الآن فى أرشيف مدينة البنهسا فى متحف بيترى للآثار المصرية بالعاصمة البريطانية لندن، منذ أن قام عالم الآثار الإنجليزى آلان بيترى بدراسة تاريخ البهنسا فى العصر اليونانى والرومانى مرورا بالفتح الإسلامى .. حيث تم نهب المدينة بالكامل، وهى المدينة التى شهدت عصورا تاريخية وملاحم سجلها التاريخ الإسلامى.. وبالإضافة لما هو معلوم حول تاريح البهنسا فإن الأرشيف البريطانى يضم مقتينات نادرة لنصوص من سفر الخروج ومقتطفات من أندروميدا، وهى مقطوعات أدبية ألفها الشاعر يوروبيديس. ونصوص أخرى باللغات اللاتينيّة واليونانية والقبطية. اما البهنسا التى نعرفها بوصفها البقيع الصغرى لما تضمه من مقابر الصحابة وآل البيت الكرام فإنا الأن تتعرض لإهمال شديد .. البداية كانت من معركة فتح البهنسا التى جعلت منها ملحمة شعبيها ترويها الأجيال حتى اليوم .. كانت البهنسا حامية عسكرية رومانية قبيل الفتح الإسلامى لها، ولهذا عندما انتهى عمرو بن العاص من فتح القاهرة والوجه البحرى وأراد السير إلى بلاد الصعيد أرسل إلى عمر بن الخطاب فأشار إليه بفتح مدينتين هما إهناسيا والبهسا بشمال صعيد مصر لأنهما كانتا تضمان أهم معاقل الرومان وإذا سقطتا سقط الرومان ولم تقم لهم قائمة فى مصر. ومن هنا أرسل سيدنا عمرو بن العاص جيشا من المسلمين لفتح البهنسا بقيادة قيس بن الحارث وذلك حسب أكثر الأقوال والروايات صحةُ وضم هذا الجيش مجموعة من الصحابة ممن حاربوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوات كثيرة، وهذا الجيش عسكر فى قرية قبل المهنسا سميت بعد ذلك بقرية " القيس" نسبة لقائد الجيش ثم تبع قيس بن الحارث سيدنا عبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الله بن الجموح وزياد بن أبى سفيان، وكانت معركة الفتح شديدة القسوة على جيوش المسلمين وسقط منهم الكثير من الشهداء واستمرت جهود الفتح ما بين 4 إلى 6 أشهر متواصلة، وكان الرومان فى ذلك الوقت يتحصنون خلف أبراج المدنية العالية وحصونها القوية وأبوابها المنيعة وكان لها أربعة أبواب وهما باب "قندس" شمالا و "توما" جنوبا و"الجبل" غربا وباب "البحر" على بحر يوسف، وعندما تمكن جيش المسلمين من فتح البهنسا استقرت القبائل العربية بالمدينة مثل قبيلة بنت غفار وبنى العوام وقبائل تنتسب لسيدنا أبى بكر الصديق إلى أن جاء العصر الفاطمى فأصبحت البهنسا من أهم مدن مصر وازدادت رقعتها ومساحتها حيث كانت بمثابة ولاية كبيرة ثم تضاءلت أهميتها فى العصرين المملوكى والعثمانى. ويشير سلامة زهران، مدير تفتيش الآثار الإسلامية بالبهنسا: إلى أن البهنسا تتمتع بقدسية شديدة لأن ثراها المبارك يحتضن الشهداء من آل البيت الأطهار ومن أمراء الصحابة وفرسان العرب، وهذه القدسية التى تتمتع بها البهنسا جعلت لها مكانة خاصة فى قلوب العلماء .. لدرجة أن الشيخ عبد الحليم محمود عندما نزل البهنسا خلع حذاءه وقال وقتها "كيف لا أخلع نعلى على أرض قد وطأتها أقدام ودماء الصحابة والشهداء" أيضا ذكر على باشا مبارك أن مساحة البهنسا كانت تفوق الألف فدان وكانت تتميز بالبساتين وبها ورش لصناعة النسيج فى العصر الإسلامى وكانت كسوة الكعبة تذهب من البهنسا فى العصر الفاطمى. فى قلب البهنسا وفى أوقات الصلاة يتزاحم المصلون على أبواب مسجد الحسن الصالح بن على بن زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. هذا المسجد العامر يعد من أقدم المساجد التى أنشأت فى مصر، وتذكر بعض الروايات أنه أقدم من الأزهر الشريف، عندما تدخل المسجد تشعر ان عجلة الزمن دارت للوراء لأكثر من ألف عام، حيث العمارة الإسلامية القديمة والأعمدة المثيرة للدهشة والتى تضم زخارف وتيجان فى غاية الروعة، هذا المسجد ترجع نشأته للعصر العباسى وتحديدا عام 323 هجرية وتم تجديده فى العصر الفاطمى. بعض الروايات تؤكد أن هذا المسجد بنى على أنقاض كنيسة قديمة تدل على ذلك الأعمدة التى يقام عليها المسجد .. لكن سلامة زهران ينفى هذه الرواية ويؤكد ان دراسات وأبحاث عديدة نفت صدق هذه الرواية كما أن الأقباط كانوا من اوائل الناس الذين دعموا الفتح الإسلامى ليتخلصوا من الإضطهاد الرومانى. والآن تضم البهنسا 18 ضريحا لأمراء الصحابة وهؤلاء هم المعلومون بخلاف ما يحفل الثرى من رفات الشهداء ممن لا نعلم مكانهم، كما توجد مأذنة مملوكية وموقعان لحفائر إسلامية وتلال أثرية. ومن الأضرحة الشهيرة، ضريح خولة بنت الأزور وضريح فتح الباب وهو يخص عبد الرازق الأنصارى أول من فتح باب الحصن الرومانى وأستشهد ودفن بالمكان. وكالعادة دائما لا تحظى الآثار الإسلامية باهتمام يذكر، والأغرب أن البهنسا الإسلامية لم توضع على خريطة السياحة بعد، ليس هذا فحسب بل أن القباب القديمة التى تعود لعصور الإسلام الأولى مهددة بالانهيار وقد أصابتها الشقوق وعوامل الزمن .. ذلك أن البهنسا الإسلامية معرضة للخطر وتحتاج للترميم والصيانة، فمثلا قبة الأمير زياد والتى تضم كتابات بالخط المملوكى بتاريخ 992 هجرية تعرضت للانهيار والتصدع، ثم تأتى أزمة التعديات على حرم المناطق الأثرية. لكن المكان الوحيد الذى حظى باهتمام هيئة الآثار وتم تحديده وإقامة حرم حوله هو مقام سيدى على الجمام قاضى قضاة البهنسا .. المقام المحاط بسور كبير يعد مدخلا لمزار شجرة مريم عليها السلام وهى الشجرة التى استظلت بظلها فى أثناء رحلة العائلة المقدسة، وبجوار الشجرة تقع مقامات أئمة الصحابة وفرسان الإسلام الذين شاركوا فى الفتح حيث تتوسطها آلاف المقابر التى تتزاحم بجوار بعضها لأخذ البركة حيث يصفها البعض بالبقيع الثانية .. فى هذا المكان يوجد ضريح سيدنا الحسن الصالح وعبيد بن عبادة ابن الصامت والأمير زياد وأضرحة عديدة تخص الصحابة البدريين ممن شاركوا الرسول عليه الصلاة والسلام فى موقعة بدر الكبرى.