(1) عندما بلغ السادسة من عمره طلبت منه أمه أن يتهيأ ليقابل أباه للمرة الأولى في حياته. لم يكُن اللقاء عاديًّا. « استعِدّ للسفر إلى يثرب لزيارة قبر أبيك ».. قالت آمنة. (2) كان عبد المطَّلب جد الرَّسُول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نائمًا في حِجْر الكعبة، فأتاه في الحلم مَن يطلب منه أن يحفر بئر زمزم التي ردمتها السنون. قام عبد المطَّلب يصحبه ابنه الوحيد وقتها- الحارث- وهمّ بالحفر بين الأوثان، غضبت قُرَيش مِمَّا يفعله عبد المطَّلب، وتجرَّؤوا عليه لَمَّا رأوه قليل الولد، فطلب من ابنه أن يذود عنه حتى يفرغ من مهمته، ولَمَّا رأى جرأة قُرَيش عليه دعا أن يُرزَق بعَشَرة أبناء ونذر أن يذبح واحدًا منهم في حِجْر الكعبة إذا استُجِيب دعاؤه. تَدفَّق الماء عبر زمزم من جديد وفاض الخير على قُرَيش، وتَوَلَّى بعدها عبد المطَّلب سقاية زمزم للحُجَّاج. ثم رزقه الله عَشَرة أبناء. (3) في الطريق من الكعبة إلى بيت آمنة كان عبد الله حديث قُرَيش كلها ومَحَطَّ أنظارها، كان عبد الله يسابق الريح مدفوعًا بمشاعره تجاه آمنة، التي طالما خبَّأها حتى اطمأنّ على مصيره.. فطلب يدها للزواج. استمرَّت الأفراح ثلاثة أيام بلياليها إلى أن أذَّن المؤذِّن برحيل قافلته في تجارة إلى الشام... في طريق العودة ألَمَّت به وعكة قويَّة فنزل على أخواله في يثرب، ووصلت القافلة من دُونِه. ظلَّت تنتظر رجوعه إلى أن أدركت أنها كانت آخر مرة يلتقيان فيها. (4) كان عبد الله لا يعرف مصيره بعد أن نذره عبد المطَّلب للذبح في حِجْر الكعبة. أخذه عبد المطَّلب، ولم يكد يهمّ بذبح ولده حتى قامت قُرَيش تمنعه قائلة: «ستصبح عادة وسيأتي كل رجل بابنه ليذبحه أمامنا.. فما بقاء الناس على هذا؟». قال له شيوخ قُرَيش: «فلتنطلق بابنك إلى عرَّافة في خيبر، فإذا أمرتك بذبحه ذبحتَه، وإذا أمرتك بمخرج من هذا النذر فلتستجِب لها». قالت له العرَّافة: «ارجعوا إلى بلدكم، وقرِّب ابنك وعشرة من الإبل، ثم اضرب عليهم بالقداح (شيء يشبه إجراء القرعة)، فإن خرجَت على ابنك فأضف عليها عشرة أخريات، واضرب بالقداح مرة أخرى، فإذا خرجت على ابنك فأضف عليها عشرة، وظَل هكذا حتى تخرج القداح على ابنك، سيكون ربكم قد رضي ونجا ابنك». أمام الكعبة ظلّ عبد المطَّلب يضرب القداح مرة بعد أخرى، وفي كل مرة يخرج على ابنه. كم ناقةً تراصَّت حتى خرج القداح عليها وصاحت قُرَيش: «إنه رضا ربك يا عبد المطَّلب»؟ مائة ناقة. نجا عبد الله من الذبح، لكن مات بعدها بشهرين. (5) «إنه رضا ربك يا عبد المطَّلب». كان أهل الجزيرة يعبدون الأصنام تقرُّبًا إلى الله، بعضهم كان يقول: «نحن غير مؤهَّلين لعبادة الله بغير واسطة لعظمته ولنقصنا» (وَمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (سورة الزُّمَر)، وبعضهم يقول: «اتخذنا أصنامًا على هيئة ملائكة نعبدهم ليشفعوا لنا وليقرِّبونا إلى الله»، وبعضهم كان يقول: «في كل صنم جِنّ أو شيطان موكَّل من الله، فإذا أخلصت في عبادة الصنم سخَّر الله هذا الجن أو الشيطان ليقضي حوائجك، وإذا أهملت في عبادة الصنم أصابك الجنّ أو الشيطان بنكبة من أمر الله». لكن مَن الذي يتحمل وزر سنوات من عبادة الأصنام؟ كان «هُبَل» مصنوعًا من العقيق على هيئة إنسان بذراع ناقصة، أكملها سادة قُرَيش في ما بعد وصنعوا له ذراعا من الذهب. وكان واحدًا من ضمن 360 صنمًا تحيط بالكعبة عندما دخلها المسلمون في فتح مكَّة وهُدمَت جميعًا. كان صنم «مناة» في طريق البحر، وتولى هدمه بنفسه سيدنا عليّ بن أبي طالب. كان صنم «العُزَّى» في منطقة تُسَمَّى وادي نخلة، وكان ضخمًا ويصدر عنه أصوات مخيفة (يقال إنه كان مبنيًّا بجذوع الشجر)، تَوَجَّه إليه خالد بن الوليد، وبينما يهدمه خرجت من داخله حبشية نحيفة يبدو أنها كانت المسئولة عن إصدار هذه الأصوات، فقتلها وهدم الصنم. والصنم هو جسم له صورة، أما الوثن فهو جسم ليس له صورة. هل عبد والدَا سيدنا النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هذه الأصنام؟ الإجابات في كتب السيرة كثيرة، أحَبُّها إلى قلبى تقول: «هذا عِلْم لا ينفع والجهل به لا يضرّ». ولكن قيل إن والدَى الرَّسُول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كانا هما وعبد المطَّلب من الذين أدركوا التوحيد ببصيرتهم، إذ كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، فقد قالت السيِّدة آمنة قبل موتها: إنْ صحَّ ما أبْصَرتُ في الْمَنامِ فأَنْتَ مَبعُوثٌ إلَى الأَنَامِ تُبعَثُ بالتحقيقِ والإسلامِ دِينِ أَبِيكَ البَرِّ إبراهامِ فاللهُ أنْهَاكَ عَنِ الأصنامِ ألّا تُوَالِيهَا مَعَ الأَقْوَامِ( ) وقال أكثر من مفسر: إن عبد المطَّلب كان مستجاب الدعوة، وهو الذي استغاث بالله تعالى يوم الفيل، فاستجاب الله دعوته فيهم. ويقول ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) في قوله تعالى «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى»: مِن رِضَا محمَّد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ألا يُدخِلَ أحدًا من بيته النار. كانت العرب تَدِين بدين سيدنا إبراهيم، "الحنيفية " التي تقوم على التوحيد. كان من بينهم عمرو بن لحي، وهو من سادات قُرَيش، عندما زار الشام وجده يمتلئ بالأصنام، طلب تفسيرًا، فقالوا له: «هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا»، طلب منهم واحدًا فأعطوه هُبَلَ، وضعه في صدر الكعبة وأمر الناس بعبادته لعظيم فائدته، ثم تبع عربُ الجزيرة كلهم أهل مكَّة لكونهم وُلاةَ بيت الله الحرام. بعد فترة أسَرَّ إليه أحدهم أن أصنام قوم سيدنا نوح عليه السلام (وَدًّا وسواعًا ويَغُوثَ ويَعوقَ ونسرًا) مدفونة بجَدَّةَ، فاستخرجها وجاء بها إلى مكَّة، فلما جاء الحَجّ دفعها إلى القبائل، فعادت بها إلى أوطانها.. فانتشرت الأصنام بعدها انتشارًا كبيرًا. بعد ظهور الإسلام بسنوات قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): إنه رأى عمرو بن لحي يسير في النار وهو يجرّ أمعاءه خلفه. (6) نجا عبد الله من الذبح.. لكن مات بعدها بشهرين. «لقد أمهله الله حتى يُودِعَني هذا الجنين».. قالت آمنة. كان جنينها مبعث سكينتها إلى أن بدَّد عبد المطَّلب هذه السكينة عندما طلب منها أن تتهيأ للخروج من مكَّة مع قُرَيش بعد أن اتفقوا على الاختباء في شعاب الجبال هربًا من جيش أبرهة الحبشي الذي خرج من اليمن في طريقه إلى الكعبة حتى يهدمها. تَهَيَّأ أبرهة بجيشه لدخول البلد الحرام فسلط الله نقمته عليهم فانتشر فيهم وباء مُهلِك رمَتهم بجراثيمه طير أبابيل، فجعلهم الوباء كالعصف المأكول. يقول ابن إسحاق: «لم تكُن أرض العرب قد شهدت وباء الحصبة والجدري قبل ذاك العام»، وقال عبد الله السهمي شاعر قُرَيش: سِتُّونَ ألفًا لَمْ يَؤُوبُوا أَرْضَهُمْ بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا أي إنه حتى من نجَوْا من الموت بالوباء في مكَّة ماتوا متأثرين به عند عودتهم إلى اليمن. انتهت المحنة وفرحت آمنة أنها ستستطيع أن تلد ابنها في مكَّة. (7) في طريقه من الكعبة إلى بيت آمنة كان عبد الله مَحَطَّ أنظار قُرَيش كلها، إذ إنه لم يُفْدَ أحد قبله بمائة من الإبل. في الطريق طاردته نساء قُرَيش يعرضن عليه أنفسهن صراحةً ويُغرِينه بمَهْرِ مِثْلِ الإبل التي نُحِرَت عنه قبل دقائق. تجاوزهن كلَّهن إلى بيت آمنة. في صباح اليوم التالي على زواجه خرج من بيته فالتقى واحدةً منهن فأشاحت بوجهها عنه فقال لها: «مالك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالأمس؟»، قالت له: « فارقك النور الذي كان معك، بالأمس رأيتُ في وجهك نورًا فأردتُ أن يكون لي، فأبَى الله إلا أن يجعله حيثُ أراد.. فماذا صنعتَ بعدى؟». فقال: «تزوجتُ آمنةَ بنتَ وهب». (8) بعد عودته من رحلة الرضاعة ظلّ في كَنَف أُمِّه تُنبِته بإلهام من الله نباتًا حسنًا.. إلى أن بلغ السادسة.. «استعدّ للسفر إلى يثرب لزيارة قبر أبيك».. قالت آمنة. كان لقاؤه الأول بأبيه، والأخير بأمه... في طريق العودة من يثرب توُفِّيَت آمنة