قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمان كان العالم كله يرتقب حدثاً عظيماً أوشك على الوقوع، وينتظر مولوداً كريماً أوشك على القدوم، لقد تأكد الجميع من أن هذا المولود لم يعد بينه وبين الحياة إلا أياماً قلائل، وبعدها سوف يشق صوته الوجود، وينير وجهه الظلمات التي ملأت العالم، لقد ظهرت العلامات، وملأت البشائر الوجود كله. وهاهم الرهبان في كل ليلة ينتظرون قدوم هذا المولود، إنهم ينظرون على نجوم السماء كل ليلة، ويسألون القادمين إلى بلاد الشام من بلاد العرب عن كل مولود جديد في أرضهم، ولم يطل الانتظار، فقد حانت اللحظة الفاصلة في تاريخ البشرية جمعاء، وجاء هذا المولود المرتقب، ولكن من هو؟ وأين ولد؟. قريش راعية الكعبة في أرض الجزيرة العربية كانت مكة أم القرى هي المكان الذي يقصده العرب جميعاً لزيارة بيت الله الحرام، وهي الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولأن قريشاً كانت تسكن مكة. كانت هي القبيلة الأعظم بين العرب، فهذه القبيلة قريش كانت راعية الكعبة؛ تسقي الحجاج وتخدمهم؛ فاستحقوا تعظيم العرب جميعاً، وحول الكعبة التفت أصنام العرب وأوثانهم، وهي تلك التماثيل التي نحتوها من الحجارة والخشب وعبدوها من دون الله تعالى. ((اللات – والعزى – ومناة – وهبل – وإساف – ونائلة))، وأصناماً أخرى قد جعلوها حول الكعبة يسجدون لها ويلتفون حولها؛ فكفروا بالله تعالى وأشركوا به. حروب ووأد وفي أنحاء الجزيرة العربية كانت الحروب تجري بين القبائل العربية من أجل أسباب تافهة، فربما كانت الحرب بسبب حصان سبق الآخر، أو طمع من أحدهم في أرض الآخر ومائه، ولم تكن الحرب تنتهي سريعاً، بل كانت تمتد سنين طويلة، مثل حرب البسوس، وداحس والغبراء. وقد يستمع القادمون إلى مكة لأصوات الصغار من البنات، وآباؤهم يضعونهن في التراب؛ خوفاً من أن يحلقهم العار، وفي ظلمات الليل كان العربي يلجأ إلى الخمر يشربها، وهي عادة سيئة أخرى من عاداتهم. صفات طيبة ورغم هذه الصفات السيئة إلا أن العرب كانوا يتمتعون بصفات أخرى طيبة؛ كالجود والكرم، فلقد عرفوا كيف يؤدون للضيف حقه وواجبه، وكانوا إذا وعدوا وفوا بعهدهم، حتى ولو كلفهم ذلك حياتهم وأنفسهم. رزق العربي موزع ما بين التجارة والرعي، كان بعضهم يرعى الغنم في جبال مكة، يشرب لبنها، ويصنع من شعرها ما ينام عليه وما يستره في نومه، أما الأغنياء فخرجوا للتجارة إما إلى الشام في الصيف، أو إلى اليمن في الشتاء، وهذا ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم:- {لإيلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} سورة قريش. الذبيح وبئر زمزم وفي بني هاشم – إحدى بطون قريش – كان عبد المطلب سيد قريش يعيش بين أولاده العشرة. وتذكر عبد المطلب يوم أن رأى في نومه من يأمره بحفر بئر زمزم بعد أن ردمت بالتراب. فلما حفرها وقفت قريش له لأنه كان وحيداً، فنذر لله إن رزقه عشرة أولاد أن يذبح أحدهم عند باب الكعبة. وها هم أولاده العشرة ((الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله))، إنه الآن لابد أن يوفي بنذره ويذبح أحدهم، وعز عليه فراق ولد من أولاده، ولكن لابد للعهد من وفاء، وللوعد من تحقيق، ولم يطل تفكير عبد المطلب، فقد جعل كل ولد من أولاده يكتب اسمه على قدح من الأقداح ليقترعوا فيما بينهم، ثم أخذهم وذهب بهم إلى "هبل". وكان هو الصنم الذي يحتكمون إليه، وخرجت الفزعة على ولده الأصغر عبد الله، وكان عبد الله أحب أولاده إليه، فماذا يفعل؟ هل يطيع أمر الآلهة؟ أو يخلف عهده؟. واحتار عبد المطلب، ولكنه سريعاً ما قرر ذبح ولده وقرة عينه وحبيب قلبه، وشحذ عبد المطلب سكينه، وأوشك على ذبح ولده، لكن قريشاً كلها خرجت إليه تمنعه من ذبح الصغير عبد الله، حتى لا تصير هذه عادة للعرب بعد ذلك فيذبحوا أولادهم، وأشاروا على عبد المطلب بالذهاب إلى عرافة في أرض الحجاز؛ ليستشيرها في هذا الأمر، فلما وصل إليها أمرته أن يعيد القرعة مرة أخرى. ولكن هذه المرة يضع عشرة من الإبل في سهم، وفي السهم الآخر اسم ولده عبد الله ويستمر حتى تخرج القرعة على الإبل. نجاة عبد الله وعاد عبد المطلب وولده سعيدين بهذه الحيلة الذكية، ولازال عبد المطلب يقترع بين الإبل وبين عبد الله حتى انتهى الأمر أخيراً بذبح مائة من الإبل ونجاة عبد الله من الذبح، لتنقذ العناية الإلهية عبد الله من الذبح، وتدخره لمهمة أخرى أصعب وأشق. كان القدر السعيد قد أعد لعبد الله بن عبد المطلب مهمة لو علمها هو؛ لمات من شدة الفرحة، وقد ذاع خبر نجاة عبد الله من الذبح في مكة وما حولها من القرى والمدن. وأعادت هذه القصة إلى الأذهان ذكرى الجد الأكبر للعرب إسماعيل الذي فداه الله تعالى بذبح عظيم، ونجاه من الذبح هو الآخر، وصارت قصة عبد الله على كل لسان، وفي كل بيت، وبينما عبد الله يسير إذ دعته امرأة وعرضت عليه أن يتزوجها، مقابل أن تعطيه المائة إبل التي ذبحها أبوه، ولكن عبد الله لم يهتم كثيراً بها. سعادة بالغة واصطحب عبد المطلب ولده عبد الله قريباً من "يثرب" ليزوجه من "بني زهرة"، وكانوا أهل كرم ومروءة، ولم يجد عبد المطلب خيراً من سيدة نساء قريش في وقتها، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف. فصارت آمنة زوجة عبد الله وشهدت قريش عرساً كانوا ينتظرونه، فاختلطت فرحة نجاة عبد الله، بفرحة زواجه من آمنه، فيا لها من سعادة بالغة!. النبأ السعيد ولما عاد العروسان إلى مكة، ذهب عبد الله إلى المرأة التي كانت قد عرضت عليه الزواج فقالت له: هل تزوجت؟ قال: نعم، وكيف عرفت؟! قالت: قد كان في وجهك نور، ولكنه ذهب منك، فعرفت أنك قد تزوج؛ ولم يفهم عبد الله كلامها، ولكنه عاد إلى آمنة لتزف إليه خبراً سعيداً، إنها في شهور حملها الأولى، وقد أحست بما تحس به النساء من آلام الحمل. وسعد عبد الله سعادة كبرى، إنه قد نجا من الذبح، ثم تزوج، ثم ها هي بشائر القادم الجديد على الحياة من ولده قد بدأت في الظهور، وظن أنه قد حقق كل ما أراد لكن القدر لم يمهله، فلقد دفع ثمن هذه الأحداث السعيدة. إرادة الله فبينما هو عائد من تجارته إذا به يسقط ميتا وهو في زهرة شبابه، لم تسعد عينه برؤيا مولوده الأول. وحزنت مكة كلها لموت عبد الله، فلئن نجا من سكين الذبح، فإن سيف الموت لا نجاة منه، وهذه هي إرادة الله. وفاضت عيون آمنة بالدموع وهي التي لم تسعد طويلاً بالحياة مع زوجها، فإن ملابس العرس مازال العرق فيها لم يجف بعد، ولكن وفاة عبد الله أحالت السعادة إلى بؤس، فقد صارت العروس الشابة أرملة سريعاً، وفقدت الزوج الحبيب، لكنه ترك لها ذكرى لن تنساها، إنه ذلك المولود الذي يتحرك في أحشائها، فكان هذا مما خفف آلام الفراق، وجعلها تفارق الأحزان سريعاً. عام الفيل ارتجت مكة كلها في يوم من الأيام، فخرج الناس ليروا ما الأمر، لقد جاء أبرهة الحبشي – قائد جيوش الحبشة – يريد هدم الكعبة؛ لأنه قد بنى بيتاً يريد أن يحج إليه الناس بدلاً من الكعبة، وسماه (القليس)، لكن أعرابياً تبول فيه بدلاً من أن يطوف به؛ فأقسم أبرهة ليهد من الكعبة بيت الله الذي يحج إليه العرب جميعاً. وخرجت قريش كلها تنتظر ماذا سيفعل أبرهة؟ فإنهم لن يقدروا على الوقوف ضده، ووقف الفيل العظيم لا يريد التحرك، فأمرهم أبرهة أن يضربوه فلم يتحرك، فزاد ضربهم له، فازداد ثباته ووقوفه. وفجأة ودون سابق إنذار، امتلأت السماء بطير صغير في فم كل منها حجارة صغيرة، إذا نزلت على الرجل من جيش أبرهة قتلته، وبعد قليل صار الجيش العظيم جثثاً تأكل منها الطير:- {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في تضليل (2) وأرسل عليهم طيراً أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول} . وفرح عبد المطلب وسعدت قريش كلها، فلقد حمى رب الكعبة كعبته، ووقاها شر أبرهة وجنوده، وسمي هذا العام عام الفيل، وعاد عبد المطلب سريعاً إلى داره؛ ليتفقد حال آمنة التي كانت قد اقترب موعد ولادتها. علمات ودلائل وكانت هناك علامات ودلائل على مولد الرسول الكريم ، فقد امتلأت السماء الصافية بالنجوم المتلألئة، ونظر أهل الأرض جميعاً في هذه الليلة إلى السماء فوجدوها قد تزينت، كأنها العروس تنتظر رجلها، وها هو القمر قد لبس أحلى أثوابه، فأنار السماء كلها بنوره الوضاح. وفي بلاد فارس حيث كان الناس يعبدون النار إذا بهم يجدون نارهم انطفأت فجأة، وفي قصر ملكهم "كسرى أنو شروان" سقطت شرفات قصره؛ ففزع من في القصر جميعاً، وقد جفت بحيرة "ساوة" التي كانوا يعظمونها، وإذا بكسرى يرى عرشه أمامه يهتز وينشق؛ فخاف هو الآخر، وجرى بعيداً. وخرج الرهبان جميعاً وقد تأكدوا من ميلاد الوافد الجديد، إنه محمد، أحمد نبي آخر الزمان الذي بشر به موسى نبي الله في التوراة، وأخبرهم به المسيح عيسى عليه السلام، وإنهم ليجدون صفته في التوراة والإنجيل، ويعرفون علامة مولده، فهتف الجميع: اليوم ولد أحمد، اليوم ولد محمد. لحظات الولادة وفي أم القرى كان عبد المطلب يحدث الناس بأنه رأى في نومه أن نوراً قد خرج من ظهره فأضاء الدنيا، وقد حدثته آمنة أنها رأت نوراً يخرج منها فأضاء لها قصور الشام، وإذا بصرخة آمنة تعلو، لقد حانت لحظة الولادة، لكنها لم تحس بآلام الوضع، إن المولود الآن ينزل من بطنها متبسماً لا باكياً، وقد رفع إصبعه السبابة مشيراً به إلى السماء، ثم خر على السرير ساجداً لربه عز وجل. فنظرت آمنة حولها فكأنماً سقطت نجوم السماء بجوارها، فكل شيء الآن يكسوه النور، لكنه ليس كأي نور، إنه نور لا يضر الين، بل يسعدها ويريحها، وتتمنى العين لو دام هذا النور. وكان عبد المطلب جالساً عند الكعبة، فلما بشر بميلاد ابن له يعوضه عن ولده عبد الله قام سريعاً وهو يقول: محمد، سأسميه "محمداً"؛ حتى يحمده أهل السماء وأهل الأرض. الفرحة تعم الوجوه ودخلت الأفراح بيت عبد المطلب بعد أن ملأته الأحزان برحيل عبد الله أحب أولاده إليه، وتبددت الأحزان، وعمت الأفراح، ومدت موائد الطعام فقد كانت الفرحة عارمة وكبيرة، فإن محمد بن عبد الله هو ابن الذبيحين إسماعيل جده الأكبر، وعبد الله والده، واستعد العالم كله لاستقبال نور ابن الذبيحين.