الاجتزاء هو الآفة التى تحكم الفكر المشوه لجماعة داعش ، ولذلك يعتمدون في كل جرائمهم علي أحداث يخرجونها من سياقها ويلصقونها بالشريعة ، كما يعتبرون آراء بعض الأئمة وكأنها " الدين " نفسه ، ومن الفتاوى التي يستند إليها تنظيم داعش في الغزو والاحتلال أو ما يعتبره الجهاد الفتوى المعروفة باسم فتوى "ماردين "، ولهذه الفتوى حادثة تاريخيّة شهيرة ، فقد ولد ابن تيمية في بلدة " ماردين " الواقعة على الحدود بين سورياوتركيا عام 1263 وهذه البلدة كانت قديماً ضمن بلاد الشام وضمت إلى تركيا حديثاً ، وعندما كان ابن تيمية في عمر 7 سنوات هاجم المغول البلدة ودمروها ، أمّا ابن تيمية فقد قتل أبواه ونقل هو إلى دمشق وعاش مع جدّته ، وبعدما أصبح ابن تيمية فقيهاً أصدر فتوى شجّعت على محاربة المدينة وأهلها ، فقد كان أهل ماردين أغلبهم من المسلمين، وكان التتار، بحسب رؤية ابن تيمية، من المعتدين الكفار، فأصبحت ماردين بلدة أغلبها مسلمون ويحكمها غير المسلمين، وكان فقهاء الإسلام يقّسمون البلاد إلى دار إسلام أو دار كفر، وحسب أوضاع ماردين في تلك الفترة، فلم يكن من الواضح في أي صنف هي، فسئُل ابن تيمية عن هذه المسألة ، وهل ماردين بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟ فأجاب بالنص: " الحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل ماردين، أو غيرهم ، والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه وإلا استحبت ولم تجب ، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك، بأي طريق أمكنهم، من تغيب، أو تعريض، أو مصانعة ، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة، تعينت ، ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم. وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه " ، والملاحظ هنا أن الفتوى بنصها المتداول تضمنت أمرين ، الأول: تشريع القتال للخارج عن الشريعة بصيغة البناء المجهول ، وبذلك أصحبت هناك جماعات تدعي أنها هي التي ستقوم بهذا الدور بما فيه قتال الخروج على الدول والمجتمعات الإسلامية ، وثانياً: تعبير " الخارج عن الشريعة " واسع وفضفاض يبدأ من صغائر الذنوب وينتهي إلى كبائر الذنوب ، وبالتالي أصبحت كل هذه المساحة مساحة للقتال ، ولذلك كانت هذه الفتوى محلّ جدال طويل بين الفقهاء المسلمين حتّى الآن ، خاصة أن التتار وقتها كانوا مسلمين .. وكان لأميرهم قازان في عصر ابن تيمية قاض ومؤذن ، لكن ابن تيمية في فتواه الشهيرة قضى فيها ليس بجواز قتالهم فحسب .. ولكن بوجوب الخروج على التتار ومن ظاهرهم من أهل البلاد الواقعة تحت حكمهم ومقاتلتهم، ولو كانوا مسلمين ولو أقاموا الحدود الشرعية ولو صلوا وصاموا، وذلك أولاَ: لأنهم غزاة سرقوا البلاد وخيراتها من أهلها، وثانيا: لإجرامهم وظلمهم وجورهم وعدم إقامتهم للعدل ، وقيل وقتها إن ابن تيمية قال للسائل: " لو رأيتني أنا في صفوف التتار وعلى رأسي المصحف فاقتلني " ، وقد رأى المتطرّفون وأتباع السلفيّة الجهاديّة أن هذه الفتوي تبيح لهم شن الحرب وفرض أحكام الشريعة الإسلامية حتّى داخل الدول التي يدين أهلها بالإسلام ولا تدخل في حرب مع المسلمين ، وقيل إن التنظيمات الجهادية استخدمت الفتوى الماردينية لتبرير عملياتها ومن ضمنها اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات ، ولمعرفة رأى دار الإفتاء المصرية في هذه الفتوى .. عدنا إلي بحث بتاريخ 29 سبتمبر 2011 يتناول فتوي ابن تيمية ، ومما جاء به أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- دفع بالمهاجرين الأوائل إلي أرض الحبشة ولم تكن دار إيمان ولكنها كانت دار أمن ، كما توجد فتوي أخري للإمام الرملي أباح فيها للمسلمين البقاء في بلاد غير إسلامية ماداموا يجهرون بدينهم في سلام ولا يؤذيهم أحد ، أما د. علي جمعة مفتي الجمهورية السابق فيري أن غياب التوثيق في فتوي ابن تيمية أدي إلي تحريفها بشكل أهدر كثيرا من دماء المسلمين وغيرهم، بل أضر بمقاصد الشريعة وأهدافها، وتسبب في تشويه صورة الإسلام والمسلمين ووصمهما بالتطرف والعنف ، ومنذ عدة سنوات أعلن فقهاء مسلمون أنّ فتوى ابن تيمية لا يمكن استخدامها في زمن العولمة الذي تحترم فيه حرية العقيدة وحقوق الإنسان ، وجاء في بيان صدر بعد مؤتمر عقدوه في مدينة " ماردين " نفسها أن " فتوى ماردين لا تبرّر العنف وتقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام .. وكل المسلمين سواء كانوا أفرادا أو جماعات ممن أعلنوا الجهاد من تلقاء أنفسهم، وسمحوا لأنفسهم بقتل المسلمين وغير المسلمين بحجة فتوى ماردين قد ارتكبوا خطأ " ، ولابن تيمية أيضا فتوى خطيرة اسمها فتوى "التترّس "، و تنص هذه الفتوى على أنّ "المجاهد" الذي ينوي استهداف "الكفّار"، ووجد في طريقه المسلمين، فإنّه يجوز له قتل هؤلاء المسلمين من أجل الوصول إلى هدفه ، وقد استند تنظيم القاعدة وداعش على هذه الفتوى في تبرير قتل الأفغان والسوريين والعراقيين والليبين .. بل والمصريين في سيناء بأعداد هائلة من خلال تفجير السيّارات المفخّخة والعبوات الناسفة ، واعتمد أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة على هذه الفتوى لتبرير هجماته ضد الغرب وضد الحكومات في البلدان الإسلامية بدعوى موالاتها للكفار، وهو ما يعلق عليه مدير قسم الدعوة في مجمع البحوث في الأزهر الدكتور عبد العزيز النجار رافضاً الدعاوى والفتاوى التكفيرية غير المنضبطة شرعياً والتى لا يقبلها المسلم سليم الفطرة ، وقال: إن الأزهر يحارب فتاوى التكفير والقتل العشوائي في كل مكان داخل مصر وخارجها لتصحيحها ، وقد يكون في زمن معين فتاوى لها ظروف معينة، وبالتالي يحاول بعض الشباب أن يطبق هذا على أرض الواقع طمعاً في شهرة او مال ، وطبعا هذا يعتبر جهلاً لأن العلماء قالوا: إن الفتوى الوسطية لا تكون إلا من عالم، والتشدد لا يكون إلا من جاهل ، وهذه الفتاوى التكفيرية لا تتماشى وسماحة الدين الاسلامي، وإنما فيها مغالطات في فهم النصوص التي أتت في كتاب الله عز وجل، وفيها اجتزاء لبعض الآيات وبعض الأحاديث ، وليس هناك في الاسلام مفتٍ ملزم للمسلمين، لأن المفتي مهما كان وضعه ومكانته ومنزلته العلمية هو مجتهد والاجتهاد غير ملزم للآخرين، وعلى المسلمين أن يختاروا ما يشاءون من هذه الفتاوى ما دامت لا تتعارض مع الاسلام ، أما اذا كانت الفتاوى تكفيرية وجهادية تدعو الى قطع الرقاب والحرق والدمار والتفجير، أي أنها تتعارض مع مقاصد الشريعة الاسلامية، فهي مرفوضة تماماً .