باب خشبي بسيط مفتوح علي درب قرمز عبرناه فنقلنا إلي ساحة أفخم قصور القاهرة القديمة علي الإطلاق .. تصوير: محمد لطفى وقفنا شوية في لحظة حيرة وفجأة أطلت علينا سيدة من فتحة المشربية علي طريقة عصر الحريم الذي علي مايبدو أنه لايزال محتفظا ببعض ملامحه في هذا المكان ... نحن الآن في قصر بشتاك الذي يرجع تاريخ بنائه الي عام 1339 ميلادية حيث بناه الأمير سيف الدين بشتاك وهو أحد الأمراء المماليك ... ورغم عراقته إلا أنه لايزال شامخا في مكانه مطلا بذلك علي شارع المعز لدين الله الفاطمي من جهة وعلي حارة بيت القاضي من جهة أخري , والطريف في الأمر أن جزءا كبيرا من ملحقات هذا القصر أصبحت محلا للنزاع بين أسرة كبيرة أقامت به منذ أكثر من 125 عاما حيث تعتبر بيت العائلة بالنسبة لها وبين وزارة الثقافة التي ترغب في إجلاء هذه العائلة لإقامة مركز للإبداع الموسيقي ... وهذا النزاع يخفي تفاصيل إنسانية كثيرة سعينا للاقتراب منها في هذا التحقيق . استطاعت هذه المنطقة التاريخية أن تحتفط بالعديد من كنوزها فلا يزال قصر بشتاك شامخا في مكانه متمسكا بجميع أركانه فمن الخارج به عدد من محلات بيع الشيشة , ومن الداخل تحفه معمارية نادرة حيث يعد بحق واحدا من أجمل وأفخم قصور القاهرة القديمة التي استطاعت أن تصمد وتتحدي الزمن وهو يتكون من مبني رئيسي من ثلاثة طوابق , الأول به بعض المخازن وإسطبلات كانت مخصصة في الماضي للخيول إلي جانب عدد من الغرف التي كان يقيم بها خدم الأمير بشتاك يرحمه الله , والطابق الثاني يضم قاعة احتفالات فريدة جدا من نوعها حيث ترتفع لما يزيد علي 15 مترا وسقفها مزين بزخارف فنية في غاية الجمال وتعلوها مشربيات كانت تطل منها النساء علي حفلات الرقص والجواري التي كانت تجري أمام الأمير بالإضافة الي عدد من غرف المعيشة والطابق الثالث به بقايا بعض الغرف . وبجوار هذا المبني يوجد مبنيان آخران ملحقان به وهما موضع النزاع حيث التقينا الأستاذ أحمد كرارة , مدير رقابة بمديرية تموين القاهرة , وهو كبير عائلة كرارة التي تسكن في حرم القصر , حيث يقول : إحنا عايشين هنا من أيام جدودنا وتحديدا منذ عام 1881, يعني جدي مولود هنا وأولاده اللي أنا واحد منهم وأولادنا , كلنا أتولدنا وعشنا حياتنا في هذا المكان . وتخيل لما تكون عايش في منطقة بهذا الجمال بجوار شارع المعز والمساجد الكبيرة والذكريات الجميلة من أيام السقا أبو قربة ونجيب محفوظ اللي كان جارنا !! طبعا بعد ده كله إننا نروح نعيش في أي مكان أخر , وإحنا أصلا بحكم القانون والأوراق الرسمية والعقود وبحكم التاريخ نعتبر أصحاب حق لاننا كنا مستأجرين لهذا المكان في البداية من وقف الدمرادش وبعد كده استأجرته جدتي عائشة كرارة من الأوقاف منذ عام 1934 بجنيه واحد في الشهر ولايزال هذا العقد ساريا حتي الأن , وكنا في البداية ندفع الإيجار للأوقاف ثم المجلس الأعلي للآثار وعندما حدثت المشكلة رفض المجلس أن يأخذ الإيجار فأصبحنا الآن ندفعه في المحكمة . وحول طبيعة سكان المكان يضيف كرارة : يوجد 17 أسرة منهم 10 أسر معها عقود بالفعل وكلنا تقريبا ننتمي لعائلة واحدة هي عائلة كرارة , وإحنا اللي حافظنا علي هذا القصر وحميناه من الاعتداء ومن اللصوص خلال ال 130 سنة الماضية وكنا عاملين زي الحراس عليه , والأهم من ذلك أننا أصلا مقيمون في الجزء السكني الملحق بالقصر وهو غير أثري , ولو عرضوا علينا بديلا للرحيل يبقي لازم يكون هذا البديل عادلا , وعندما شعرت إن حقنا ممكن يروح هدر تقدمت بشكوي للسيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس الوزراء والسيد محافظ القاهرة والسيد وزير الثقافة , وعندما تأزمت المسألة عرضوا علينا تعويضا قيمته 46 ألف جنيه ثم ارتفع الي 84 ألف جنيه , وعموما نحن ناشدنا المسئولين رفع الظلم عنا حيث إنه مطلوب منا أن نترك العمار والحضارة والأمان وشارع المعز والناس الأصلاء لنذهب إلي المجهول في المساكن البديلة المقترحة أما فتح الله كرارة , موظف بالمعاش ومن سكان المكان , فيقول : هات لي خيمة في الجمالية وأنا مستعد أن أترك المكان , لكن المتاح الآن أو المعروض عبارة عن شقق في اخر الدنيا والناس هناك مش أسوياء , زي ما اتعودنا في مصر القديمة طيب مين يقبل يسيب وسط البلد ويروح في الصحراء في آخر الدنيا وكمان أغلب السكان مرضي وناس كبيرة في السن ومش وش بهدلة , ولذلك إحنا طلبنا مساكن بديلة في مصر القديمة بحيث تكون قريبة من أكل عيشنا ومن مدارس أولادنا ومن المستشفيات اللي بنتعالج فيها . أغلب سكان المكان بالفعل علي مايبدو مسنون وبسطاء للغاية وحالة بعضهم تقطع القلب , ففي حجر بالدور الأرضي تقيم أسرة أحمد طلعت كرارة وهو مصاب بالفشل الكلوي , بينما يقيم فتح الله كرارة بحجرتين بالدور الأول بعد الأرضي مع زوجته وهو بالمعاش حيث كان موظفا بإدارة الأزهر وهو مريض وأجري عمليات بالقلب , اما أمجد أحمد فيقيم بحجرة خشبية بالدور الثاني بعد الأرضي , ووالدته كانت حاضنة له وهي مطلقة وهذه الحجرة كانت بيت الطاعة بالنسبة لها , أما الحاجة آمال أحمد كرارة فهي مقيمة بحجرة بالدور الثالث بعد الأرضي وهي مطلقة وتعول ابنتيها زهور وياسمين وهي أيضا مريضة بالصدر , هذا بالإضافة لعدد آخر من الأسر البسيطة اللي مش طالبة من ربنا غير الستر والراحة ... حيث تقول الحاجة حليمة سعداوي (51 سنة ) ربة منزل : والله يا ابني أنا عايشة هنا من 30 سنة وأمي الله يرحمها كانت من أهل البيت وبعدين جوزي توفي من 25 سنة وأنا باصرف المعاش بتاعه ويادوب مكفي , والمكان هنا هادي وأغلب الناس اللي عايشين فيه علي قد حالهم . وبعيدا عن أزمة عائلة كرارة فإن المقصود من إخلاء القصر وملحقاته هو إنشاء بيت للغناء العربي ومركز للإبداع الموسيقي , وقد تعرفنا علي تفاصيل هذه الخطوة من الأستاذ محسن فاروق , المطرب الأول بالأوبرا وقائد ومؤسس فرقة أساتذة الطرب للتراث في مصر , والمسئول عن هذا المشروع , حيث يقول : بيت الغناء العربي سيكون مؤسسة فنية هدفها تعليم 100 شاب مصري فقير الموسيقي والغناء العربي كل عام وسيضم مركز تدريب علي الآلات الموسيقية الكلاسيكية التي علي وشك الاندثار وصالونا ثقافيا وجاليري فنيا ومكتبة سمعية وبصرية للتراث والثقافة العربية وعمل ليال للثقافة العربية بالمشاركة مع السفارات والهيئات الدبلوماسية والمراكز الثقافة الدولية , كما سيضم أول متحف للآلات الموسيقية العربية في الشرق الأوسط وهذا المشروع تابع لصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة وسيتم تنفيذه قريبا بعد الانتهاء من إكمال المعدات المطلوبة , وطبعا بالنسبة للسكان المقيمين بالبيوت الملحقة بالقصر فهناك مفاوضات للوصول لحل وسط معهم لأننا لن نتنازل عن القيام بهذا المشروع الذي يسهم في دعم العشرات بل المئات من الفنانين والمبدعين في مجال الموسيقي العربية .