منذ بدء الثورة في 25 يناير 2011 وحتى اليوم والمانشيت الدائم لكل الصحف عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تمر بها مصر وما يقال حول إفلاس البلاد ، وذلك وسط مخاوف كبيرة من ثورة جياع يتوقعها البعض بعد انكماش احتياطيات من النقد الأجنبي وارتفاع قيمة الدولار وانخفاض قيمة الجنيه المصري ، وهو ما سبب فزعاً للمصريين ودفع بعضهم لسحب ودائعهم من البنوك والبحث عن سبل أخري لاستثمارها , وتزامن ذلك مع زيادة معدلات البطالة والفقر ، فهل نحن فعلاً علي وشك الإفلاس ؟! الإجابة سنعرفها من خلال حوارنا مع الخبير والباحث الاقتصادي وائل جمال . من وجهة نظر خبير اقتصادي .. كيف تقيم ما يقال حول إفلاس مصر ؟ الحديث عن إفلاس مصر تجدد مرات عديدة خلال السنتين الماضيتين فى تزامن متطابق مع أزمات مصر السياسية، أشهرها كان فى فبراير 2011 حينما حذرنا رئيس الوزراء السابق أحمد شفيق من مجاعة إن استمرت مظاهرات التحرير ، بل وحذرنا الدكتور محمد البرادعى فى أكتوبر 2011 وسط أزمة محتدمة مع المجلس العسكرى من أن مصر ستفلس خلال 6 أشهر ، والآن الحكومة وقيادات الإخوان يقولون إن هناك أزمة ، لكنهم وأحيانا أخري ينكرونها وفق مصالحهم السياسية ، لكن عموماً الوضع السياسى المضطرب يؤثر سلبيا فى وضع الاقتصاد ، ومن المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية سيئة خاصة وان الحكومة الحالية تعتمد حتى الآن على الاستدانة الخارجية والمحلية فقط للتعامل معها ، إلا أن حديث الإفلاس ورقة سياسية صار الجميع يلعب بها ويستخدمها حسب أهدافه ومصالحه ، بل أحيانا فى مناط الدفاع عن مبدأ " داوها بالتى كانت هى الداء " ، كما تفعل حكومة الرئيس مرسى حاليا باستخدام انهيار الاقتصاد، بتفعيل عقود من سياسات الخصخصة والتوجه للاستثمار الأجنبي وتطويع الاقتصاد والسياسة لحساب المستثمرين، لكى تروج للمزيد من هذه السياسات نفسها التي كانت تمارس من قبل . ولكن هذا لا يمنع معاناتنا من أزمات اقتصادية كبيرة وحقيقية ، وهناك من يري أننا بالفعل علي وشك الإفلاس ، فمتى تفلس الدول؟ الإفلاس هو عدم قدرة الحكومة أو الدولة ذات السيادة أو رفضها لسداد ديونها أو التزاماتها ، وقد يعنى ذلك إعلان التوقف عن سداد المرتبات من أصول وفوائد الديون رسميا , وعادة ما يتعلق إفلاس الدول بالدائنين الأجانب، لأنه دائما فى قدرتها أن تطبع العملة المحلية لكى تسدد ديونها بها ، وهذا ما دعا الاقتصادي الكبير آلان جرينسبان لرفض فكرة إفلاس الاقتصاد الأمريكي من حيث المبدأ قائلا لقناة إن بى سى فى أغسطس 2011 " احتمال إفلاس أمريكا صفر " وذلك بالطبع لأن لديها ميزة أن الدولار هو عملتها المحلية ، وهناك سوابق عالمية لتوقف الدول عن سداد ديونها مثل الأرجنتين فى العقد الماضى التى كانت مدينة وحدها بما يصل لنحو 14 % من ديون الدول النامية الخارجية . لماذا يتوقع أن يتكرر في مصر ما حدث في اليونان ؟ المقارنة باليونان تكشف أن دعاوى إفلاس مصر بهذا المعنى زائفة , ففى الحالة اليونانية ولرغم تلقى أثينا دعما أوروبيا بنحو 148 مليار يورو وسياسات التقشف الهائلة التى حدثت وأنتجت ملايين العاطلين، ووصول معدل الدين إلى 176٪ من الناتج المحلى، ومع انكماش الاقتصاد بحوالى 20٪ (أى إغلاق خمس قدرته الإنتاجية) منذ 2009، وتراجع احتياطياتها من النقد الأجنبى إلى 7.6 مليارات دولار، لم تعلن اليونان إفلاسها ولم يعلنها أحد دولة مفلسة حتى الآن ، بينما فى مصر مازال الاقتصاد ينمو بمعدل 2.2٪ فى مصر ، ولدينا معدل دين هومرتفع لكنه أقل كثيرا من اليونان (حوالى 100٪ من الناتج المحلى)، واحتياطيات من النقد الأجنبي ضعف اليونان (فوق ال15 مليار دولار). ويشير تقرير البنك المركزى الصادر فى نوفمبر إلى زيادة فى الودائع بالجهاز المصرفى من 1.03 تريليون جنيه فى يوليو 2012 إلى 1.05 تريليون بنهاية سبتمبر، منها 116.8 مليار جنيه ودائع حكومية بزيادة عن الشهر السابق، من ضمنها مايوازى 53 مليار جنيه بالعملة الأجنبية. وفيما يتعلق بسداد أجور الموظفين، فإنه لا احتمال على الإطلاق لفكرة الإفلاس. فأمام الدولة دائما أن تطبع النقد، وهو قرار له مساوئه طبعا فيما يتعلق بالتضخم وغيره، إلا أن المقصود هو أنه لا مجال لتوقف الدولة عن سداد التزاماتها المحلية. أذاً .. ما مشكله مصر الحقيقية علي المستوي الاقتصادي ، ولماذا كل هذا القلق والتضخيم مادام شبح الإفلاس بعيداً ؟ استبعاد الإفلاس لا ينفى أن هناك مشكلة كبرى فى الاقتصاد وفى إدارته، يتعلق جزء كبير منها بالإغراق فى الاهتمام بالجوانب المالية فى عزلة كاملة عن الاقتصاد الحقيقي من مشروعات واستثمارات , والحكومة تحدثنا دائما عن العجز والدين العام ولا تحدثنا عن الوظائف وتحفيز الطلب المحلى ، وحتى فى إطار الجانب المالى، فإن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة التى ورثت من نظام مبارك تركة ثقيلة من التشوهات والانحيازات الاقتصادية ضد الأغلبية ومن الفشل، وقفت مشلولة بدون أن تتحرك لاتخاذ أية إجراءات للتعامل مع الوضع حتى من زاوية خطط الطوارئ العاجلة، واقتصرت على الاستدانة والمزيد من الاستدانة مع العويل والتهديد بالكارثة القادمة. وما الذى كان يجب فعله لإنقاذ الإقتصاد المصري بشكل عاجل ؟ عند الأطباء هناك علاجان لكل مرض : أحدهما يشخص سبب الصداع والهزال والضعف ويعالج أصل المرض ، وثانيهما يتعامل مع الأعراض فيصف ما يخفف من حدتها ويكتفى بذلك مما يزيد المرض , وحال سياستنا الاقتصادية من النوع الثانى ,أنظروا مثلا للضغط على الجنيه، يخبرنا الاقتصاديون بأن قيمة العملة تتراجع بسبب أننا نستورد أكثر مما نصدر، وبسبب خروج رؤوس الأموال من البورصة والأوراق الحكومية، بالإضافة إلى هروب رؤوس الأموال – سواء شرعية أو غير شرعية - والذى تواصل على مدى سنوات قبل 25 يناير وبعدها ،و يخبرنا هؤلاء عن تراجع عوائد الدولة من الضرائب وغيرها وزيادة إنفاقها فى دعم الطاقة وغيره ، والحلول لهذا النوع من المشاكل معروفة ومعتادة ومنطقية وموجودة ، فعليك أن توقف النزيف من حيث منبعه ، فتفرض ضريبة على الأموال الساخنة فى البورصة لتقليص التذبذبات والضغوط على العملة وزيادة الحصيلة ، وبالتالي يتم تفعيل الضرائب على الأغنياء ورجال الأعمال المحتكرين (فى العقارات والأرباح الرأسمالية وضريبة التلوث لمصانع الأسمنت والسيراميك، مع إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار)، فلتفرض قيودا على التحويلات الرأسمالية (حتى وإن كانت مؤقتة وهو أمر تسمح به حتى مقررات منظمة التجارة العالمية) فتقلل من المال الهارب، وتونس استردت 13 مليار دولار من أموال بن على الهارب .. فلماذا لا نضع نحن خطة لاسترجاع أموال الفساد الهاربة من مبارك وأبنائه الذين هم موجودن فى السجن ، كما يتم تقييد استيراد السلع الترفيهية فتوفر العملة الأجنبية ، والأهم من ذلك وضع تصور لسياسة صناعية واقتصادية متكاملة بإجراءات عاجلة . وماذا عن مخاوف المصريين علي ودائعهم في البنوك ؟ الحمد لله أزمة سحب الأموال مرت رغم خطورتها ، خاصة مع عدم خروج الحكومة علينا بأي خطاب واضح يوضح للناس ما هي المشكلة وما أبعادها وما أفضل الطرق لاستثمار الأموال ، وهو ما عقد الأمور أكثر وساهم في رفع قيمه الدولار بسبب زيادة شرائه . لكن بعيدا عن الصالح العام .. كل مواطن الآن في ظل هذه الأزمة غير الواضحة يفكر في المجال الآمن لاستثمار أمواله ؟ البنك المركزي أكد انه ضامن لأموال الودائع الموجودة بالبنوك وهو ما يعني أن الحكومة لا تستطيع الاقتراب من هذه الأموال نهائياً ، أما بالنسبة لمسالة تحويل الودائع من جنيه الي دولار فهذا لا يعني أن الدولار سيواصل ارتفاعه . البعض يري في العقارات أفضل استثمار ، والكثيرون اتجهوا إلي هذا المجال بالفعل ، كيف تري ذلك ؟ العقارات أكثر أنواع الاستثمار أمانا وثباتا ، وهذه الإجراءات أسهمت في إنعاش هذا السوق الذي ظل راكدا خلال الفترة الماضية ، وسواء الودائع او العقارات الاثنان في مأمن واستثمار جيد . كيف تقيم قرض صندوق النقد الدولي ؟ ورقة للصندوق حول الأوضاع الاقتصادية فى مصر وتونس تم تقديمها لقمة مجموعة الثمانية فى فرنسا، وكرروا لنا نفس الخطوط العامة المعهودة وهي " النمو الاقتصادي أولا وقبل العدالة الاجتماعية " إلي جانب الاستقرار المالى، أى محاصرة عجز الموازنة كهدف للسياسة الاقتصادية وأن يكون هذا شرط للإنفاق العام ، الذى ينبغى توجيهه للبنية الأساسية ، وقبل كل هذا يحدثنا الصندوق عن اقتصاد حر يقوده القطاع الخاص ، أليست هذه هى نفس السياسات التى ثار المصريون عليها بسبب انحيازها السافر ضد أغلبيتهم من الفقراء؟ أليس من حقنا أن نقرر ديمقراطيا نظامنا الاقتصادي ؟ وهل من حق أحد أن يستبق قرارنا بتحديد مسارنا بدون حتى العودة إلينا؟ ولكن قيل أكثر من مرة أنه لا سبيل أمامنا سوي الاقتراض من الصندوق سواء الآن أو في المستقبل القريب ؟! اتسم إعلان الموافقة على قرض صندوق النقد الدولى، ومن قبله الإعلان عن حزمة مساعدات دولية بقيمة 20 مليار دولار (قد ترتفع إلى 40 مليارا بحسب التصريحات غير الرسمية) بغياب هائل للمعلومات وللشفافية ، فكما لا نعلم حتى الآن تفاصيل مساعدات مجموعة الثمانية ولا كيف تتوزع بين منح وقروض واستثمارات، لا نعلم تفاصيل اتفاق حكومة عصام شرف السابقة مع الصندوق ، وبينما أعلن أن الفائدة على القرض ستكون 1.5% اكتشفنا أنها متغيرة تبدأ من 1.5% أى أنها قد ترتفع مع عودة أسعار الفائدة العالمية، المنخفضة حاليا، للارتفاع ، كما لم تخبرنا الحكومة لماذا نحتاج قرضاً بهذه القيمة ، فقد كان تفعيل الضريبة العقارية، التى بادرت الحكومة بتجميدها وحده كفيلا بإمداد الموازنة العامة بعائد متوقع يصل ل 4 مليار جنيه سنويا أى 20 ملياراً فى 5 سنوات هى مدة القرض الذى لا تتجاوز قيمته 18 مليار جنيه ، وإذا كان الاتفاق له بعد إيجابي يتمثل فى إقناع مجتمع الأعمال الدولى بأن اقتصادنا جيد وأن الصندوق مستعد لإقراضنا لثقته فى ذلك، فقد حصلنا على هذا المكسب بالفعل.