«ماحدش بيبات جعان» هذه المقولة القديمة يتناقلها المواطنون جيلا بعد جيل باعتبارها أمرا واقعا بسبب كثرة الخير وطبيعة الشعب الطيب الصابر والراضى بأى شيء. ولكن يبدو أن هذه المقولة على وشك أن تصبح شيئا عاديا فى الحياة اليومية العادية مع ازدياد أعداد المصريين الذين ينامون من غير عشاء وازدياد حدة الأزمة الاقتصادية الى الدرجة التى أصبحت فيها كلمة الإفلاس كلمة تتردد فى الشارع المصرى: على المقاهى وفى المترو ووسط الجلسات العائلية.. فما هو إفلاس الدولة وما هى أسبابه وما هى تجارب الدول التى عانت من الإفلاس وكيف تجاوزت أزمتها؟ إن هذا الطرح ربما يكون مفيدا فى سياق الاستعداد لما هو قادم – لا قدر الله – لعل وعسى نستفيد من تجارب الآخرين ودروس الألم الإنسانى حتى نستطيع الانطلاق فى اتجاه المستقبل بدلا من البقاء محلك سر. فى الأيام الماضية ترددت أنباء عن إفلاس تونس وبما أن المصريين يعتقدون أن تونس دائما تسبقنا بخطوة فقد اشتعلت المخاوف من أن تصل مصر أيضا الى مرحلة الإفلاس خاصة أن تونس تعانى مثل مصر منذ قيام الثورة ووصول تيارات الإسلام السياسى الى الحكم.. وكانت الأنباء قد ترددت بأن السيولة الموجودة فى الحساب الجارى للخزانة العامة للدولة التونسية لا تتجاوز 126 مليون دينار، فى حين تقدر نفقات الأجور العمومية بحوالى 600 مليون دينار، مما أثار المخاوف حول قدرة الدولة على صرف مرتبات الشهر الحالى. وهذا المبلغ لم يخترعه الصحفيون التوانسة وإنما جاء فى أرقام وبيانات المؤشر الخاص بالحساب الجارى للخزانة التونسية والمقدر قيمته 126 مليون دينار. وبعد أن قامت الدنيا فى تونس وذاع الخبر اضطر سليم بسباس وزير المالية التونسى للإعلان عن أن الرقم الجديد للحساب الجارى للخزانة وهو 1380 مليون دينار!! وأرجع بسباس هذه الزيادة الى توفير 600 مليون دينار من بيع أملاك مصادرة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته، وأموال أخرى من الضرائب ستتجاوز 100 مليون دينار وقروض من البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، وبذلك ابتعدت تونس – ولو مؤقتا – عن شبح اضطرارها لإعلان إفلاسها. الإفلاس وعواقبه ماذا يعنى إفلاس الدولة؟ ببساطة هو فشل الحكومة فى سداد الديون السيادية مثل القروض الدولية أو قيمة السندات سواء بالعملة المحلية أو الأجنبية لعدم قدرتها على تدبير العملات اللازمة لسداد الالتزامات المستحقة عليها، وتسعى الحكومات الى عدم الوصول الى هذه النقطة الحرجة بهدف الحفاظ على تصنيفها الائتماني في سوق الاقتراض من التدهور مما سيؤدى الى فقدان المستثمرين الثقة في حكومة هذه الدولة وتجنبهم الاشتراك في أي مناقصات لشراء سنداتها في المستقبل،وتجنب حدوث حالة من الذعر المالي لدى المستثمرين الأجانب في هذه الدولة. والشيء المؤكد أن الحكومات هى المسئولة أساسا عن هذا الوضع خاصة فى حالة إساءة تقدير التدفقات النقدية من العملات الأجنبية في المستقبل والمغالاة في تقدير هذه التدفقات. وأحيانا تكون هناك أسباب خارجة علي إرادة الحكومة مثل وقوع حدث عالمى يؤثر على تدفق النقد الأجنبي مما يؤدي إلى تعرض احتياطى النقد الأجنبي الذي تملكه الحكومة لدى البنك المركزي الى ازمة خاصة اذا كانت الحكومة تعتمد على موارد من النقد الاجنبى على علاقة بمؤثرات خارجية مثل التصدير والتحويلات من الخارج.. وفى حالة مصر فهى تعتمد فى مواردها بشكل أساسى على السياحة وعائدات قناة السويس وتحويلات المصريين فى الخارج. ولا توجد نظم محددة تحكم عملية إفلاس الدول التى تجد نفسها مطالبة بمحاولة تدبير العملات الأجنبية فإذا فشلت يصبح البديل هو اللجوء الى إعادة هيكلة الديون سواء عن طريق المؤسسات غير الرسمية مثل نادي باريس وهو مؤسسة غير رسمية تمثل تجمع الدائنين من الدول الغنية الذي أنشئ في عام 1956 نتيجة المحادثات التي تمت في باريس بين حكومة الأرجنتين ودائنيها، ويتولى النادي مهمة إعادة هيكلة الديون السيادية للدول أو تخفيف أعباء بعض الديون أو حتى إلغاء بعض هذه الديون وغالبا ما تستند قرارات النادي إلى توصية من صندوق النقد الدولي. أما فى حالة لجوء الدولة إلى المؤسسات الرسمية الدولية مثل صندوق النقد الدولي, يقوم الصندوق بتقييم أوضاع الدولة، فإذا كان التوقف عن السداد راجعا لظروف طارئة يتم عقد اتفاق مساندة بمقتضاه يتم منح الدولة تسهيلات نقدية بالعملات الأجنبية (نسبة محددة من حصتها لدى الصندوق) بدون فرض إجراءات لتصحيح هيكلها الاقتصادي والمالي. أما إذا كان التوقف عن السداد يعود إلى مشكلة هيكلية مرتبطة بضعف هيكل إيرادات الدولة أو سوء عملية تسعير السلع والخدمات العامة، أو عدم مناسبة عملية تقييم معدل صرف عملتها المحلية… الخ، يشترط الصندوق يشترط لتقديم المساعدة للدولة ضرورة اتباع الدولة لبرنامج إصلاح هيكلي يتضمن مجموعة من الإجراءات لإصلاح هيكل الميزانية العامة وتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، وتحسين قدرتها على الاقتراض والسداد في المستقبل. وفى هذه الحالة فإن المواطن البسيط هو الذى يتحمل ثمن هذه الاجراءات ويصبح السؤال المنطقى: هل المواطن المصرى البسيط قادر على تحمل هذه الاجراءات وهو الذى يعانى أصلا من سوء أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية الى درجة كبيرة؟ وهل المواطن المصرى البسيط مستعد لهذا الحل لخروج مصر من أزمتها الاقتصادية فى حالة الاضطرار الى اعلان إفلاسها؟ وهل توجد بدائل اخرى يمكن ان تجنب المواطن البسيط دفع الثمن وحده؟؟ و تدعو دراسة حديثة لمعهد الاقتصاد الألماني الى السماح للدول بإعلان إفلاسها على غرار السماح للشركات والأفراد باعلان الإفلاس، كخطوة أولى لإعادة بناء الاقتصاد على أسس صحيحة. وذكرت الدراسة أن الدول المعرضة للإفلاس بحاجة لقواعد دولية للبدء في بناء اقتصادها من جديد وضرورة اعتماد قانون دولي لإفلاس الدول. وتؤكد الدراسة أن اعتماد أطر ملزمة لإعادة جدولة الديون للدول العاجزة عن تسديد ديونها الخارجية سيعطي جميع المعنيين أمانا قانونيا وأن القواعد والنتائج المترتبة عليها يمكن أن تؤدي إلى أن يتوقف الدائنون عن إقراض أموالهم بمثل هذا الاستخفاف وأن يتخلوا عن جزء من ديونهم المستحقة في حالة الضرورة. تجارب إفلاس الدول تعرضت العديد من الدول لإشهار إفلاسها لأسباب متعددة.. ومن اشهر الامثلة التاريخية: إسبانيا هي أول دوله مستقلة ذات سيادة تشهر إفلاسها في 1557 وتكرر ذلك ست مرات حتى نهاية القرن التاسع عشر منها أربع مرات في فترة حكم الملك فيليب الثاني في الأعوام 1557, 1560, 1575, 1596 بسبب الإنفاق العسكري. دول من أمريكا اللاتينية عام 1820 بسبب دخولها في سوق السندات في لندن والمضاربات فى البورصة. العديد من الدول في العشرينيات والثلاثينات من القرن الماضى وسط ازمة الركود العالمية بسبب انتشار الحماية التجارية، مما أدى الى إفلاس الدول التى تعتمد على التجارة الخارجية. فرنسا تعرضت للإفلاس حوالى 8 مرات في الفترة من 1500-1700 بسبب المغامرات العسكرية. ألمانيا أفلست مرتين .. الأولى في 1920 نتيجة لخسارة الحرب العالمية الأولى بسبب حجم التعويضات التي فرضتها معاهدة ڤرساي على ألمانيا حتى قيل إن «عربة كاملة من الأوراق النقدية لا يمكنها شراء رغيف من الخبز». المرة الثانية كانت بنهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945. باكستان في عام 2008 تأثرا بالأزمة المالية العالمية. وأدى ذلك الى التأثير سلبا على حياة المواطنين. فوصلت فترات انقطاع التيار الكهربي عن المساكن لأكثر من 12 ساعة وامتدت طوابير السيارات الراغبة في إعادة التزود بالوقود وهرع المودعون للبنوك لسحب الودائع خوفا من تبخر قيمتها النقدية. وانفجرت الأزمة مع انخفاض الاحتياطي النقدي في البنك المركزي لحوالى 4.3 مليار دولار بعد ان كان 17 مليار دولار بسبب ارتفاع أسعار النفط عالميا خاصة ان النفط يشكل ثلث واردات باكستان. زيمبابوي صاحبة أكثر قصة إفلاس مأسوية، ففي 2008 انتشرت الكوليرا وشح الطعام وحدث ارتفاع فلكي في معدلات التضخم وسجلت معدلات البطالة 80% وسط حالة من عدم الاستقرار السياسي وتم اجبار الرئيس روبرت موجابي على التنحي وأعلنت الحكومة عدم قدرتها على سداد قروض قيمتها 4.5 مليار دولار. الأرجنتين فى السنوات الماضية عاصرنا حالة إفلاس دولة الارجنتين ونقلت إلينا وكالات الانباء كافة التفاصيل المرعبة التى ارتبطت بإعلان إفلاس الدولة. فقد عجزت عن سداد ديون قيمتها 100 مليار دولار في ديسمبر 2001. وسيطرت حالة غضب عارم على الشوارع، وتعرض العمال للإقالة الجماعية ووقف الدائنون فى طوابير يطالبون بأموالهم ونام المودعون امام البنوك لسحب مدخراتهم وحين فشلوا اقتحموها ووقعت اعمال سرقة ونهب واسعة وسقط قتلى وجرحى في العاصمة عندما واجهت الشرطة المتظاهرين. وعندما خرج الوضع علي السيطرة تماما، فر الرئيس فيرناندو دي لا روا يوم عشرين من ديسمبر 2001 بطائرة هليكوبتر من مقر الحكومة بعد أن أعلن استقالته. وخلال عامين تنحى خمسة رؤساء ونشبت العديد من أعمال الشغب المروعة في بيونس آيرس. وأعلن الرئيس الانتقالي أدولفو رودريجوز إفلاس بلاده والعجز عن سداد الديون وخفض قيمة العملة المحلية (البيزو) بنسبة 65% بعد أن كانت تساوي نفس قيمة الدولار مما رفع النسبة المئوية لنصيب الديون الخارجية في إجمالي الناتج المحلي من 50% إلى أكثر من 100% من إجمالي الناتج المحلي، وفى محاولة للخروج من الأزمة، قدمت الحكومة عرضا للمدّخرين من خيارين : أن يتكبّدوا خسائر كبيرة من خلال حصولهم على مدّخراتهم بالعملة الوطنية (البيزو) التي فقدت الكثير من قيمتها، أو الانتظار وقتاً طويلاً قبل الحصول على قيمة سندات الدولار على أقساط، وهو الطريق الذي اختاره الكثيرون. وفى عام 2002 وصل حجم الانكماش في إجمالي الناتج المحلي الى 11% ولكن عاد الازدهار الاقتصادي فى 2003 بقوة واستمر حتى اليوم. فقد حاول الرئيس نيستور كيرشنر الذي انتخب عام 2003 استعادة الثقة الدولية في بلاده تدريجيا، التى تواصلها أرملته وخليفته في المنصب، كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر. واللافت للنظر فى هذه القصة هو الموقف المتشدد لصندوق النقد الدولى والذى ظهر جليا فى اللقاء المتوتر مع المدير العام للصندوق هورست كولر بقصر الرئاسة في بوينس أيرس عندما عبر عن شكوكه في قدرة الأرجنتين على الوفاء بالتزاماتها المالية وهدد لامكانية أن تتجنب البنوك إقراض الأرجنتين،مما أدى إلى تصلب موقف كيرشنر في أعقاب هذا الاجتماع. كما وجهت جماعات الضغط الممثلة لمصالح المستثمرين من حملة سندات الخزانة الأرجنتينية انتقادات حادة لسياسات الحكومة وعندما سئل هؤلاء المستثمرون عن سبب الطريقة العنيفة التي يتعاملون بها قالوا إنهم يخشون أن تحذو دول أخرى حذو الأرجنتين وتتوقف عن سداد ديونها. ومؤخرا تحرّرت الأرجنتين من آخر ديونها القديمة بعد أن سدّدت آخر 2.2 مليار من إجمالي 17 مليار دولار إلى دائنيها، من الأشخاص الذين حجبت السلطات الأرجنتينية مدّخراتهم في الحسابات البنكية. ورغم أن الأرجنتين ما زالت مدينة بحوالى 15 مليار دولار للدائنين الأساسيين وخسرت القضايا المقامة ضدها في المحاكم الأمريكية بسبب عجزها عن سداد الديون المستحقة واستمرار منع الدولة من استغلال أسواق رأس المال الدولية، إلا أنها بسبب زيادة الطلب على منتجاتها الزراعية، استطاعت الخروج من الأزمة المالية. أوروجواي التي تعرضت لأزمة حادة فى 2002 اختارت إشراك الدائنين وحصلت على قرض قصير الأجل قيمته 1.5 مليار ووافق حوالى 93٪ من الدائنين الأجانب على تقليل حجم ممتلكاتهم من الأوراق المالية بنسبة 20٪، مع مدفوعات ممتدة على مدار خمس سنوات. وحاليا أصبح اقتصاد أوروجواي من بين أسرع الاقتصادات نموا في العالم. ويكشف الاقتصادى كارلوس ستينيري، أحد الذين أشرفوا على عملية إدارة ديون أوروجواي في تلك الفترة، عن الروشتة السحرية لهذه المعجزة.. فقد اعتمدت الروشتة على اقتناع الحكومة بضرورة استعادة ثقة الشعب بسرعة في مواجهة التهافت على سحب الودائع من البنوك. كما اعتمدت على اجراء مفاوضات جادة مع حاملي السندات وخفض الرواتب والمعاشات بعد اقتناع الشعب بأهمية ضمان عدم المساس بسمعة أوروجواي المعروفة بجديتها واحترامها للعقود والاتفاقات والقانون. ويروي ستينيري أنه بعد مرور خمس سنوات، بدأت الدولة في الحصول على قروض دولية وحدث انتعاش اقتصادى مع حدوث طلب آسيوي هائل على فول الصويا واللحوم وغيرها من المنتجات الأخرى التي تنتجها البلاد . وزاد الناتج الاقتصادي بحوالى 7% سنويا منذ عام 2003. اليونان هى أحدث قصة إفلاس وأقربها إلينا، فقد بلغت ديونها حوالى 300 مليار دولار. وتكشف الأزمة اليونانية عن الطموحات الكبرى التي تتجاوز الامكانيات، حيث انه بمجرد انضمام اليونان إلى منطقة اليورو الأوروبية، توسعت في الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية عامة والأوروبية خاصة، بهدف تحقيق الرفاهية للشعب اليوناني بما يتلاءم مع الشعوب الأوروبية الأخرى!! كما تكشف الأزمة عن مخاطر عدم الدقة والافتقار للصراحة التي كان يجب على الحكومات اليونانية المتعاقبة الالتزام بها. فقد أخفت الحكومات اليونانية نسبة العجز الحقيقية في الميزانية بسبب شروط الاتحاد الأوروبي على أعضائه بألا تتجاوز نسبة العجز 3٪ سنويا بينما بلغت هذه النسبة في اليونان 13% سنوياً. وبدأت الدول الأوروبية تستخدم مصطلح «الإفلاس المحكوم» في تعاملها مع الأزمة اليونانية. وقدمت الدول الأوروبية حزمة مساعدات ضخمة لليونان. لمنع الأزمة من الانتشار إلى الدول الأخرى حماية لدول الاتحاد الأوروبى لأن السماح بإعلان إفلاس اليونان يهدد بتحول المستثمرين إلى المضاربة على ديون إيطاليا وإسبانيا. هذه هى نماذج أشهر تجارب إفلاس الدول فى مختلف انحاء العالم فهل مصر شعبا وحكومة مستعدة لتجرع الدواء المرام ان سياسات «خليها على الله» و«محدش بيبات جعان» هى التى ستدفع البلاد الى الهاوية؟ الاجابة لدى المصريين فقط الذين يجب عليهم ببساطة اللجوء الى الخبراء والمتخصصين – أهل الكفاءة وليس أهل الثقة أو أهل الجماعة والعشيرة – والثقة فيما يطرحونه من حلول والتوقف عن الاعتماد على المشايخ ورجال الدين فى مواجهة الازمات، كما انه من الضرورى ألا يسمح المصريون بأن يدفع الثمن الفقراء فقط وإنما يدفع قبلهم الأثرياء ورجال الأعمال الذين حققوا ثرواتهم الهائلة من أعمالهم – إذا افترضنا حسن النية – المشروعة داخل المحروسة.