مصر آمنة نوويًا.. هيئة الرقابة تطمئن المواطنين وتعزز خطط الطوارئ والإعلام    18 يونيو 2025.. أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة اليوم    جهاز مدينة دمياط الجديدة يشن حملة لضبط وصلات مياه الشرب المخالفة    اليوم.. آخر فرصة لسداد مقدم جدية حجز وحدات «سكن لكل المصريين7»    سكاي نيوز عربية: بريطانيا تسحب مؤقتا عائلات موظفي سفارتها وقنصليتها في إسرائيل    ماذا قالت مصر في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الفيتو الأمريكي والتصعيد الإسرائيلي الإيراني وغزة؟    مدرب صن داونز يكشف سر الفوز على أولسان هيونداي في مونديال الأندية    محسن أحمد يكشف عن اللحظات الأولى لانهيار منزل نور الشريف بالسيدة زينب    واحة علاجية بمواصفات دولية فى الصعيد.. محافظ أسوان ومدير صندوق مكافحة الإدمان يتفقدان مركز العزيمة لعلاج الإدمان مجانا.. إطلاق دبلوم خفض الطلب على المخدرات ومنح الخريجين أولوية للعمل فى مراكز الصندوق    نائب وزير الصحة تبحث مع رئيس جامعة جنوب الوادي تعزيز التعاون لتحسين الخصائص السكانية بقنا    محافظ أسوان يهدي مفتاح المدينة لجراح القلب العالمي مجدي يعقوب    جامعة كفرالشيخ ال 518 عالميًا في تصنيف «يو إس نيوز» الأمريكي لعام 2025    انخفاض الحرارة وأمطار.. تفاصيل حالة الطقس في مصر حتى الأحد 22 يونيو    بقيمة 5 ملايين جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية لمافيا الاتجار في الدولار    محسن أحمد عن منزل نور الشريف: فكرته زلزال والبيت بقى كوم تراب    رئيس الوزراء يشهد توقيع عقد مستلزمات الطاقة الشمسية ب 200 مليون دولار    «عشماوي» يستقبل وفد الهيئة الليبية لضمان جودة التعليم لبحث التعاون المشترك    محافظ دمياط يناقش ملف منظومة التأمين الصحى الشامل تمهيدا لانطلاقها    تراجع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات جلسة الأربعاء    رئيس جامعة أسيوط يترأس اجتماع مركز استشارات الحاسبات لبحث تطوير الخدمات الرقمية    جامعة قناة السويس تطلق الدورة العاشرة في الاستراتيجية والأمن القومي    نتيجة الشهادة الإعدادية فى 7 محافظات بالاسم ورقم الجلوس    «الداخلية» تلاحق تجار الموت.. مصرع عنصرين وضبط مخدرات ب50 مليون جنيه    «جوتيريش» يطالب بالتحقيق في «قتلى الجوع» بغزة.. ويشدد على ضرورة إدخال المساعدات    الموت يفجع الفنانة هايدي موسى    التعليم تكشف آلية توزيع الكتب المدرسية للمدارس الخاصة .. مستند    الأفضل بكأس العالم للأندية.. الشناوي يزاحم نجوم بايرن ميونخ في قائمة    ارتفع أسعار النفط وسط مخاوف التوترات بشأن التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران    بتكلفة تجاوزت 87 مليار جنيه.. «الصحة»: 18 مليون قرار علاج على نفقة الدولة خلال 5 سنوات    صحة إسرائيل: 94 مصابا وصلوا إلى المستشفيات الليلة الماضية    المعركة بدأت.. ومفاجأة كبرى للعالم| إيران تعلن تصعيد جديد ضد إسرائيل    محافظ الدقهلية: تركيب رادارات ولوحات ارشادية لتقنين السرعات على دائري المنصورة    تركي آل الشيخ يكشف كواليس زيارته لعادل إمام    سيطرة «كوميدية» على أفلام الصيف.. من يفوز بصدارة الشباك؟    طريقة عمل الحجازية، أسهل تحلية إسكندرانية وبأقل التكاليف    السلطات الإيرانية تمدد إغلاق الأجواء في البلاد    تياجو سيلفا: فلومينينسي استحق أكثر من التعادل ضد دورتموند.. وفخور بما قدمناه    وكيل لاعبين يفجر مفاجآت حول أسباب فشل انتقال زيزو لنادي نيوم السعودي    الإيجار القديم.. خالد أبو بكر: طرد المستأجرين بعد 7 سنوات ظلم كبير    "أدوبي" تطلق تطبيقًا للهواتف لأدوات إنشاء الصور بالذكاء الاصطناعي    الرئيس الإماراتي يُعرب لنظيره الإيراني عن تضامن بلاده مع طهران    مؤتمر إنزاجي: حاولنا التأقلم مع الطقس قبل مواجهة ريال مدريد.. ولاعبو الهلال فاقوا توقعاتي    «رغم إني مبحبش شوبير الكبير».. عصام الحضري: مصطفى عنده شخصية وقريب لقلبي    مينا مسعود: السقا نمبر وان في الأكشن بالنسبة لي مش توم كروز (فيديو)    كوريا الجنوبية تمنع توتنهام من بيع سون لهذا السبب!    جاكلين عازر تهنئ الأنبا إيلاريون بمناسبة تجليسه أسقفا لإيبارشية البحيرة    الشيخ أحمد البهى يحذر من شر التريند: قسّم الناس بسبب حب الظهور (فيديو)    نجم سموحة: الأهلي شرف مصر في كأس العالم للأندية وكان قادرًا على الفوز أمام إنتر ميامي    ألونسو: مواجهة الهلال صعبة.. وريال مدريد مرشح للتتويج باللقب    سي بي إس: لا يوجد توافق بين مستشاري ترامب بشأن إيران    جدال مع زميل عمل.. حظ برج الدلو اليوم 18 يونيو    تجنب التسرع والانفعال.. حظ برج القوس اليوم 18 يونيو    الأبيدى: الإمامان الشافعى والجوزى بكيا من ذنوبهما.. فماذا نقول نحن؟    المنيا خلال يومين.. حقيقة زيادة أسعار تذاكر قطارات السكك الحديدية «التالجو» الفاخرة    اللواء نصر سالم: الحرب الحديثة تغيرت أدواتها لكن يبقى العقل هو السيد    فضل صيام رأس السنة الهجرية 2025.. الإفتاء توضح الحكم والدعاء المستحب لبداية العام الجديد    الشيخ خالد الجندي يروي قصة بليغة عن مصير من ينسى الدين: "الموت لا ينتظر أحدًا"    أمين الفتوى يكشف عن شروط صحة وقبول الصلاة: بدونها تكون باطلة (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«سيّدات القمر» لجوخة الحارثي: بعيدًا عن خطابات الأزمة، قريبًا من النصّ والتأويل
نشر في أخبار السيارات يوم 01 - 06 - 2019


حول الأزمة المفتعلة
أصابتني الدهشة حدّ الإزعاج من الطريقة التي عبّر بها بعض المُدوّنين أو الصحافيين أو الكُتّاب، ومن بينهم نقّاد معروفون للأسف، بانفعال (ربما ينطوي علي دهشة أو سخرية أو حسد أو غير ذلك ممّا لا أدّعي علمًا به) تجاه فوز رواية جوخة الحارثي (العُمانية) »سيدات القمر»‬ التي ترجمتها باقتدار المترجمة الكبيرة مارلين بوث تحت عنوان »‬أجرام سماوية» بجائزة المان بوكر الدولية. لقد جاءت التعليقات أو التدوينات المتراشقة حول الرواية علي شكل تشكيلات خطابية انفعالية حادّة، كأنها تستنكر أو تستكثر علي جوخة أو علي عُمان كلها مثل هذا الفوز الثمين، متذرّعة في ذلك بأسباب شتّي لا أراها إلا أسبابًا لا تثبت عند التحليل المتأنّي أو هي علي أقل تقدير خارج السياق الثقافي. أولها: قِلّة عدد الكُتّاب العُمانيين (ولا أعرف ما علاقة عدد سكان دولة ما بعدد المبدعين فيها؟! ربما كنتَ تعني التراكم التاريخي لممارسة هذا الفن أو ذاك. وهذا صحيح نسبيًا. لكنّ انتشار وسائل التواصل المعرفي، وسهولة تداول المعرفة وانتقالها من بلد إلي آخر أمران من شأنهما تفكيك مقولة المركز والأطراف فيما يتصل بالحديث الراهن عن الفنون والآداب والثقافات. وإلا فما علينا سوي أن نغضّ الطرف عمّا تنتجه الأقليّات أو الكِيانات البشرية الصغري من مظاهر فنية وحضارية ونتاجات معرفية وعلمية ذات قيمة، متذرّعين في ذلك بكونها أقليّات مهمّشة غير ذات تأثير في المراكز الثقافية والحضارية التي تتقاطع معها. وهذه أمّ المغالطات في مبادئ علم الاجتماع. فما بالك بعلم اجتماع الفن والأدب!). وثانيها: كون جوخة ترتدي الحجاب، أو ما يشبه الحجاب، وأنّي لأمثالها أن يُبدعن في نصوصهن. (وأندهش أيضا من علاقة الزي بالإبداع، مع ضرورة الوعي بأن استجابة الرجل العماني والمرأة العمانية صِنوان في ميزان التقاليد الاجتماعية التي لا تفرّق جنسيًا بينهما في ضرورة التعايش مع الإطار الاجتماعي (التقليدي) الذي هو مكوّن من مكوّنات الهوية المحلية. فلباس المرأة العمانية وغطاء رأسها أمران لا يفترقان عن ارتداء الرجل العماني غطاء رأسه في السياقات الشعبية والرسمية علي السواء، بدءًا من سياقات الضيافة والعمل والمناسبات الاجتماعية والاحتفالات الرسمية (ك»‬الكمّة» التي تشبه الشال الملوّن المربوط بأناقة، أو »‬المَصَرّ الذي هو »‬طاقية» مزركشة)، فضلًا عن ارتداء »‬الدشداشة» العمانية المعروفة. وثالثها: كون الجائزة -مثل كل الجوائز الدولية الكبري، وعلي رأسها »‬جائزة نوبل»- مُسيّسة؛ جاءت لتُداهن الدور العُماني في منطقة الخليج الملتهبة التي هي علي وشك أن تكون ميدانًا لحرب عالمية ثالثة، ويمكن لوساطة عمان أن تلعب دورًا سياسيًا مفصليًا في هذه المرحلة التاريخية. وهلمّ جرّا، مما لا علاقة له بعالم الكتابة والفن ومعاييرهما.
لا أهدف ممّا سبق إلي أن أقدّم دفوعًا حِجاجيّة (بالمعني القانوني) عن رواية جوخة الحارثي التي أقدّر قيمتها الفنية جيدًا لأسباب عدّة، سأخوض في تحليلها لاحقًا. لكنني معنيّ هنا بتحليل مفردات خطاب الأزمة التي أربكت القارئ العربي »‬غير المتخصّص» المتابع للصحافة الثقافية العربية ومواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية، وجعلته يضرب أخماسًا في أسداس، ولا يعرف كيف يحدّد موقفه القِرائي من الرواية. هل هي جديرة بالقراءة أم لا؟ وكفي الله المؤمنين شر القتال. وفي رأيي، إن كل نصّ إبداعي ينطوي علي مقوّمات بقائه الذاتية وديمومته أو صيرورته بين قطاعات شتّي من القرّاء والمتلقّين، وهي مقوّمات جمالية وثقافية محايثة بالأساس قبل أن نُسقط عليها نحن النقاد أو القرّاء المحترفين أيديولوجياتنا، أو نستنطقها بما لا تنطق به، فيكون مَثَلُنا في ذلك الشأن كَمَثَلِ من يلوي أعناق الحقائق لتقول بما يهوي، فيكون بذلك سببًا مباشرًا في وأد الحقيقة أمام عينيه. فلا هو تركها لتحيا بكامل حريّتها، ولا هو أنصت لها متخلّصًا من انحيازاته المسبقة وقراءاته المُغرِضة. ولا أخفيكم سرًّا، لَكَمْ أبهجني، حقًّا، فوز رواية »‬سيّدات القمر»، بهذه الجائزة المرموقة التي سوف تضع قدمًا جديدة للأدب العربي في سياق المحافل الدولية، تضيف إلي ما فعله نجيب محفوظ عندما حصل علي جائزة نوبل عام 1988. كما أعترف بإعجابي أيضا بروايتها »‬نارنجة» التي لا تقلّ قيمة ونضجًا فنيًا استأهلت بهما جائزة السلطان قابوس لعام 2016. أما ما أزعجني كل الإزعاج، ولعلكم تشاركونني هذا الشعور المُمِضّ، فهو ذلك القدر الكبير من تداول الخطابات الأيديولوجية الزاعقة (حول) رواية »‬سيدات القمر»، وليس (في الرواية ذاتها) بالمعني الفني أو الجمالي أو التِّقَني. ويا ليتنا نقرأ الرواية متجرّدين من أيديولوجياتنا المسبقة! وهي جملة خطابات مغلوطة تكشف لنا عن أمراض شتّي استفحلت في جسد ثقافتنا العربية الراهنة، بحيث أراها -من وجهة نظري علي الأقل- قد تجاوزت حدود الخوض في علم الأدب وإستيطيقا الفنّ لتطال النعرات السياسية الضيّقة التي لا تكرّس إلا لخطاب أيديولوجي عنصري إقصائي يتكئ علي وجهة نظر ذكورية وطبقية في التعامل مع رواية كتبتها »‬امرأة خليجية ترتدي الحجاب» علي حد وصف البعض. ربما باستثناء بعض الأصوات العاقلة المعتدلة سواء في الطرح والتناول؛ أذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر مقالات كل من محمد برادة (جريدة »‬الحياة»، 7 يونيو 2012) ومحمد بدوي (علي صفحته الشخصية في الفيس بوك) ومنير عتيبة (موقع ميدل إيست أون لاين)، .. وآخرين.
وما أدهشني أيضًا في هذا السياق ذاته أن الجائزة ذاتها قد تنافس عليها بقوة في العام الماضي فحسب 2018 الكاتب العراقي أحمد سعداوي عن روايته المائزة »‬فرانكشتاين في بغداد» التي ترجمها إلي الإنجليزية جوناثان رايت، وهي الرواية التي سبق لها أن حصدت جائزة البوكر العربية عام 2014. ولم أعثر علي أي تعليق قريب الشبه من وضع رواية »‬سيّدات القمر». وهنا يحقّ لي المقارنة وطرح السؤال الذي سأتبنّي فيه وجهة نظر مُغرِضة تسفّه كل شيء ذي قيمة في مجتمعاتنا: ماذا، إذن، لو فازت رواية »‬فرانكشتاين في بغداد» بجائزة المان بوكر الدولية في العام الماضي؟ هل كان المدوّنون والكُتاب الساخرون أنفسهم سيزعجوننا برطانهم الزاعق حول تواضع رواية سعداوي (العراقيّ) فنيًا مثلًا؟ أو إلي كونها أقرب إلي رواية المغامرات أو الرواية البوليسية التي قد تغازل الوجود الأمريكي في العراق عن طريق إدانتها جميع الفصائل العراقية دون استثناء؟ إلي آخر هذا الرطان الذي لا طائل من ورائه سوي خلق حالة من التشوّش والارتباك لدي القارئ العام. ليست لديّ إجابة أو توقّع.
في قراءة النصّ، وحضرة التأويل
في روايتها الثالثة»سيّدات القمر» (الصادرة عن »‬دار الآداب» في طبعتها الأولي عام 2011)، تتناول الكاتبة العُمانية جوخة الحارثي عالمًا متشابك التفاصيل معقّد العلاقات. وهو عالم مُبَطَّن بالتواطؤات والصراعات الخفيّة، متداخل الصور، متشابك الأزمنة والأمكنة التي يجتمع في فضائها الثقافي العام إرث عُماني تاريخي وجغرافي وإنساني ينسج خيوط شبكة سردية آسرة، سوف يرتبك معها القارئ فيما أتوقّع في بادئ الأمر حتي يتعرّف إلي مواقع الأصوات الساردة أو يُحلّل طبيعة علاقاتها ببعضها البعض. فعلي مستوي البنية السطحية للسرد، سوف يتداخل ضمير الغائب المهيمن علي سرد الأحداث المعنِيّ بالتفاصيل الدقيقة للأماكن والأشخاص والأشياء والطقوس الاجتماعية مع ضمير المتكلّم الذي يتحدّث بلسان عبد الله بن التاجر سليمان الذي بني ثراءه علي تجارة الرقيق والتمور، وناله ما ناله من خيبات وانكسارات وأزمات شتّي اجتماعية وعاطفية. من زاوية مقابلة، سوف يمور في قلب هذه الرواية هادئة الإيقاع عميقة الدلالات والرموز كجبل الجليد المغمور حروبٌ فردية وقَبَليّة، ووجود ثقيل للاحتلال البريطاني الغاشم ممثَّلاً في إحالات مرجعيّة إلي معاهدة السيب في عام 1920 التي انقسمت السلطنة بموجبها إلي شطرين؛ أولهما عُمان الداخل التي تحكمها الإمامة وحكومة مسقط وبعض المناطق الساحلية التي يحكمها الإنجليز، كما إنها سوف تحتدم بأفكار متصارعة حدّ التضارب أو التصادم عن الدين والميثولوجيا وطقوس الولادة والزواج والموت، .. وغيرها.
الغالب علي طبيعة الشخصيات الروائية في »‬سيّدات القمر» هو تلك العلاقة ثلاثية البُعْد التي تجمع بين الأخوات الثلاث »‬ميّا» و»خولة» و»‬أسماء» اللاتي تحضرن بوصفهن »‬نماذج بشرية» من لحم ودم، إذا استخدمنا لغة محمد مندور. هُنّ نسوة عُمانيات امتلكن القدرة علي مواجهة سطوة الماضي التليد بإرثه المثقل بحروب وغارات وانكسارات وتجارة رقيق وهجرات وشتات وطقوس فولكلورية جمعت بين قوة الدين وسطوة القبيلة؛ إذ لم يكن ثمة بُدّ أمام هذا الثالوث النسائي سوي تفكيك سلطة هذه الخطابات جميعها، خصوصًا ما اتصل منها بعالم الطب والسَّحَرة وأمثولة »‬التغييب»، في رحلة بحثهن الجمعيّة التوّاقة إلي إدراك »‬المُعادِل الموضوعي للحياة» في رحابتها، سواء تجسّد هذا المُعادِل في ممارسة الحرية المفرطة أو غواية المعرفة الصادمة أو اشتباك رمزيّة الحب بحسّية الجنس أو اندماج معرفة الآخر برغبات الهجرة والمروق من تقاليد القبيلة الحفريّة.
نظرً لكون »‬سيّدات القمر» روايةً مكثّفة المشاهد، واعيةً بطبيعة اللغة السردية المركّبة والمتعددة المستويات في مراوحتها بين خطابات سردية غير مباشرة أو غير مباشرة حرة، هي أقرب إلي طبيعة تكنيك تيّار الوعي، وهي في الوقت ذاته لغةٌ رشيقة تمتاح من نوادر الأمثال العامية وروائع شعر الغزل، مستلهِمةٌ لبناء الجملة العامية المكثّفة، فإنها سوف تؤسّس مبكّرًا (جدًّا) لطبيعة الأبعاد الثقافية لشخصياتها المحورية الثلاث تأسيسًا باردًا ماكرًا منذ المشهد الأول عبر ثلاثة مستويات متقاطعة. في مستوي أول تحضر »‬ميّا» بوصفه »‬الخياطة» الخبيرة التي تخيط الملابس بالطريقة ذاتها التي تخيط بها مشاعرها وأحاسيسها البطيئة بإبرة الزمن وعين الوعي، علي حدّ وصف عبد الفتاح كيليطو لأبعاد اشتغال الزمن في كتابه عن »‬العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة». وفي مستوي ثانٍ، تحضر »‬أسماء» بوصفها المثقّفة أو دودة الكتب (المرجع المعرفيّ) التي تستحضر صورة الجارية تودّد القابعة في حكايات »‬ألف ليلة وليلة»، القادرة علي تقليم أظافر الرجال المتغطرسين بمقصّ المعرفة وشفرات البلاغة. وفي مستوي ثالث، تحضر »‬خولة» بوصفها جميلة المفاتن صاحبة الجسد الذي لا يُقاوَم. أي أن سرديّة »‬سيّدات القمر» تنحو منحي نسويًّا (رمزيًا) ناعمًا نعومة الحيّة في رغبتها السامّة في نقض مركزية السلطة القامعة لحرية المرأة.
في ضوء هذه المستويات الثلاثة، سوف تتخلّق شخصيات الرواية المتعدّدة بحمولاتها المعرفية التي تشتغل -من وجهة نظري- علي ثلاثة مفاهيم أو مقولات ثقافية كبري هي »‬الزمن» و»المعرفة» والجسد». أما ما يتخلّق أو ينمو بينها من علاقات تطفو علي سطح جبل الجليد العائم فهي بمثابة صراعات بين سلطة العُرْف القَبَليّ وحِدّة مقولات الدين، أو صراع الرغبة الجنسية وسطوة التقاليد الذكورية، أو مناوشة الفروق المفاهيمية بين طبائع الحروب والانتفاضات والثورات، أو ترسيم حدود العلاقة المعقّدة المزدوجة بين الأحرار والعبيد، أو مقاربة الهوية العُمانية النقيّة في علاقتها بالهويات والإثنيّات المختلطة، .. إلخ. من جهة مقابلة، سوف تنهض معظم العلاقات الشخصية في الرواية علي قيمة الازدواج ambivalence التي تجعل ميّا متأرجحة بين عليّ بن خلف وعبد الله ولد التاجر سليمان، وناصر مذبذبًا بين حب خولة وغواية المرأة الكَنَدية، وتردّد عزّان النفسي بين زوجته سالمة سُرّة البيت ونجيّة القمر سُرّة العالم الأنثوي الذي يتناصّ مع مرويّاته الشعرية عن المتنبّي وغيره من شعراء العرب القدامي الذين يمتلئ بهم صدره وذاكرته، وأحمد بين »‬لندن» الطبيبة ابنة الطبقة الراقية ورئيسة الجماعة الأدبية المجسّدة في محض صورة مختبئة في محفظته. جميع الشخصيات تحيا علي تناقضات العلاقة المزدوجة، أو تحيا علي الحافّة المسنونة التي تشبه حِدّة البرزخ الكائن بين عالمين يبدوان متناقضين دون رابط بينهما. وفي مقابل تواتر هذه الخيبات العاطفية التي تهيمن علي فضاء الرواية من بدايتها إلي نهايتها، فإنه من الغريب أن تكون »‬ظريفة»، وحدها ظريفة، بحمولتها التاريخية المغروسة في عالم الأقنان وجذور العبودية والخضوع، تمثيلًا لمركز الثقل العاطفي الأوحد، ومِفْصل التحرّر الأبرز، وهي »‬العَبْدة» التي سيتم توظيفها في النصّ باعتبارها أداة للتطهير من المكبوتات الدفينة، سواء في علاقتها العاطفية الطبقية النفسية المركّبة بسيّدها التاجر والشيخ والحبيب، أو في علاقة عبد الله وِلْد التاجر الذي رأي فيها بديلًا عن أمّ غائبة ووجهًا لامرأة مختلفة.
تتشكّل شخصيات الرواية في شكل ثنائيات مترابطة حينًا ومتضادة حينًا آخر بحيث تُكوّن سلسلة متصلة الحلقات تحيل إلي ثلاثة أجيال متعاقبة كحبّات عِقْد ينظمها خيط واحد غير مرئيّ، لعب كل جيل منها دورًا في رسم منحني الصيرورة الاجتماعية العُمانية التي تتناولها الرواية بأزمنتها المرجعيّة التي تعود إلي بدايات القرن العشرين، وفي مراوحاتها البندوليّة المستمرة بين مدينة مسقط وقرية العوافي علي وجه الخصوص وبعض الأماكن والقري الأخري، مرورًا بظهور السيارات ودخول الكهرباء حتي ركوب الطائرات في مشهدي البداية والنهاية اللذين يستأثر فيهما عبد الله بحكي الحكاية الكبري أو الحكاية/الإطار بحِسّ أثير. من بين هذه الشخصيات التي تنتمي إلي الجيل الأول في »‬سيّدات القمر»، يأتي القاضي يوسف والتاجر سليمان وظريفة الخادمة وسالمة أم النسوة الثلاث (ميّا وأسماء وخولة) اللائي ينتمين إلي الجيل الثاني، جنبًا إلي جنب عبد الله ولد التاجر سليمان (الذي يمثّل الراوي الرئيس الذي يفتتح الرواية ويُنهيها في الطائرة المتّجهة إلي فرانكفورت، مُحمّلًا بخيبات وانكسارات شتّي)، وسنجر وِلْد ظريفة الخادمة زوج شنّة ابنة مسعودة (الذي لم يجد ملاذًا من الهروب إلي الكويت وتأسيس أسرة جديدة بعيدًا عن سطوة أمه الواقعة في غرام سيدها التاجر؛ فهي ربيبته وسليلته وحبيبته)، ومروان الطاهر ابن عم عبد الله (الذي ينتهي به المآل منتحرًا بقطع شرايين يده مستخدمًا نصل خنجر أبيه، بعد أن كانت أمّه قد منحته لقب »‬الطاهر» كي تُعِدّه ليكون من أهل العلم وذوي الشأن، فكان يحفظ القرآن ويصوم في غير رمضان ويمارس الزهد، بيد أنه كان من ورائها يسرق الأشياء التافهة من أهله). أما الجيل الثالث فتمثّله »‬لندن» ابنة ميّا خير تمثيل، وبما تعكسه من حتمية التغيّر الاجتماعي الذي يسري في جسد الرواية سريان الخيط الرفيع في حبّات العِقْد.
تبدو رواية »‬سيّدات القمر» تمثيلًا جماليًا وثقافيًا دالًّا علي تحوّلات مجتمعية وحضارية مفصليّة في نسيج المجتمع العُماني علي مدار المائة سنة الماضية، كما تبدو في الوقت ذاته مشدودةً إلي فضّ التناقض الزائف بين ثنائية الحداثة والموروث، منادية بحرية المرأة العُمانية المرتبطة بقوة الحياة وحتمية التغيّر المتصلين بطبيعة التجربة الإنسانية، منتصرة لصوت المرأة في سرديّتها التحرّرية التي توازي سرديّة مجتمعاتنا العربية ذاتها الطامحة إلي الخلاص من أسر التبعيّة في صورها المتعدّدة (تبعيّة الرجل البطريرك، أو تبعيّة المستعمِر الغاشم، أو تبعية الميثولوجي والميتافيزيقي). لذا، لم تنشغل جوخة الحارثي بغواية التجريب في الشكل الروائي، بل انشغلت بكتابة واقع ينأي بنفسه عن الأيديولوجيات السياسية المقولبة، فجاءت سرديّتها عن عُمان طازجة، عفوية، مخلصة لمحليّتها وجغرافيتها وهويتها الإنسانية. وهكذا، أطلقت جوخة الحارثي علي مرويّتها اسم »‬سيّدات القمر»، بصيغة الجمع (سيّدات) لا الإفراد (سيّدة)؛ لتنسحب طاقة التسيمة، بدلالاتها المجازية، لا علي شخصية »‬نجيّة القمر» وحدها (واسمها يشتقّ حمولته من »‬النجوي» و»المناجاة» و»النجاة»؛ ربما لأنها الناجية الوحيدة من سطوة التقاليد، المتمرّدة علي كل المواضعات والأعراف)، بل علي نسوة سالمة المقاوِمات رغم خيباتهن المتكرّرة، وربما علي »‬ظريفة» أيضًا بوصفها محظيّة التاجر سليمان وسريّته وقمره الأثير. وفي رأيي النقدي، هي رواية جديرة بقراءة واعية قادرة علي التقاط الرموز والإشارات التي قد تبدو متباعدة في فضاء سردي بانورامي معنِيّ بتمثيل الصيرورة الاجتماعية العُمانية تمثيلًا ثقافيًا شائقًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.