«حين رأت ميا عليّ بن خلف، كان قد أمضى سنوات فى لندن للدراسة وعاد بلا شهادة، لكنّ رؤيته صعقتْ ميا فى الحال. كان طويلا لدرجة أنّه لامس سحابةً عجلى مرقتْ فى السماء، ونحيلا لدرجة أنّ ميا أرادت أن تسنده من الريح التى حملت السحابة بعيدا. كان نبيلا، كان قدّيسا، لم يكن من هؤلاء البشر العاديّين الذين يتعرّقون وينامون ويشتمون. «أحلف لك يا ربّى أنّى لا أريد غيرَ رؤيته مرّة أخرى». يا ترى ما الذى يخبئه هذا الحب المملوء بالتمنى والمكاشفة سرا لرؤية المحبوب. الرواية تنطلق من حيث عائلتين يجمعهما زواج عبدالله بميا، تدخل الأم هنا فتقص لنا الحارثى حال قصة الزواج: «تمنت فى سرها أن يأتى من يقدر موهبتها فى الخياطة وبعدها عن النهم ويزفها لبيته»، وجاء «يا بنتى ولد التاجر سليمان يخطبك» تشنج جسد ميا أصبحت يد أمها ثقيلة بالغة الثقل على كتفها جف حلقها ورأت خيوطها تلتف حول رقبتها كمشنقة». ابتسمت الام ولم تقرأ ما فى خلجات ابنتها وقالت: «ظننتك كبيرة على خجل البنات». ومن بين هذا التمنى على الله وحبال الحب متسلسلة مغلفة فى شخصية ميا، التى تعشق فى صمت بالغ حد التأوه والبكاء وزواج دون رغبة أو سماع رأى، منطلقة بنا خيوط الرواية كشبكة عنكبوتية إلى رحلة خروج ميا من رحم الأم تحكى الأم قائلة: «عندما خذلتنى رجلاى صاحت الداية مرية الله يسامحك يا عيب الشوم.. بنت الشيخ مسعود ستلد راقدة وما قدرت تقف، فوقفت متشبثة بالوتد حتى انزلقت منى يا ميا فى السروال وكدت تموتين مختنقة لولا أن حلت الداية مرية يدى وسحبتك.. إيه والله، لم تنكشف على ولم يرنى مخلوق.. اذهبن أنتنَ إلى مستشفيات مسكد، تصبحن فرجة للهنديات والنصرانيات.. إيه والله يا ميا ولدتك أنت وكل إخواتك واقفة مثل الفرس». لعل هناك نقطة مهمة خلف هذا البوح من الأم ينقل لنا هوية المكان الشعبية التى تنقل لنا حالة ثقافية عن هذا المجتمع أى نظرة ثاقبة فى تاريخ عمان على مدى أربعة قرون عبر القرن العشرين والقرن الحادى والعشرين. الجيل الذى يسبق ميا بجيل أو أكثر، كما لو أن التطور الملحوظ فى هذا العصر والذهاب إلى المشفى يعد جرما، فالكشف عن سترة أى امرأة لبنى جنسها ربما هو مفهوم جاهلى بعض الشيء أو تحفظ زائد لدرجة قد تكون وخيمة أو جاهلة، تسرد الحارثى مشاهد من الحياة العمانية من فقر وعادات وتقاليد شعبية، حول سيدات القمر الثلاث وهن: ميا وخولة وأسماء، اللاتى تتشابك خيوطهن سويا فى سردية فائقة الإبداع تقدمها لنا أستاذة الأدب العربى بجامعة السلطان قابوس الدكتورة جوخة الحارثى، ويجدر بنا أن نشر أن رواية سيدات القمر صدرت عن دار الآداب ببيروت عام 2010، وحصلت مؤخرا ترجمة الرواية إلى اللغة الإنجليزية على جائزة «مان بوكر انترناشيونال» المخصصة للروايات المترجمة. تتزوج ميا من عبدالله، وتلد بنتا تسميها لندن، لعل هذا الربط بين لندن تلك البلاد التى أتى منها المحبوب بعد دراسة انتهت إلى الفشل، و ربما يكون هو ربط لنحو جديد يطرأ على المجتمع العمانى وخلف هذه الولادة ينكشف لنا ستار العادت والتقاليد حول أم ميا، حين تقول: «اسمع يا ولدى يا عبدالله، هذه حرمتك تبركت ببنت، والبنت بركة تساعد أمها وتربى أخواتها، نريد للنفساء أربعين دجاجة حية وزجاجة عسل من عسل الجبل الأصلى، وزجاجة سمن بقر بلدى، ولما تكمل لندن أسبوعا احلق شعرها وتصدق بوزنه فضة واذبح عنها شاة ووزع اللحم على الفقراء». تغوص بنا الروائية فى القص حيث ترى هذا التحول الذى طرأ فجأة على المجتمع العمانى سريعا حيث تخرجت لندن فى كلية الطب من جامعة السلطان، وتأتى لأبيها طالبة منه سيارة «بى إم دبليو» والأم التى تركت ماكينة الخياطة ماركة الفراشة فى مخزن البيت الجديد حيث كانت تشكل فى وجدانها بالماضى القريب. وما بين مقدمة وخاتمة تقع الفصول العشر للكتاب، تقدم للقارئ سؤالا مهما لتفكيك هذه الثقافة المصرية عبر السينما المصرية التى طرأت فى أواخر التسعينيات ودخلت كل بيت، وعلى الرغم من خطر الشاشة حقا فإن الانترنت أصبح أخطر. تلك الفصول التى تتناول العبودية فى بلدة من وحى خيال الكاتبة «العوافى»؛ حيث العديد من التقاليد القديمة لا تزال موجودة بل ربما تكون أساسية فى القرن الحادى والعشرين. وبراعة جوخة الحارثى تأتى فى تناول الإسقاط البارع جنبا إلى جنب، أثناء رحلة فرانكفورت يغفو عبدالله ويراوده كابوس متكرر حول حادثة الطفولة التى يستعرضها عقله اللا وعى أثناء نومه فى هيئة كابوس، فتبين لنا الكاتبة فيما بعد سبب هذا الكابوس وشعورة بأنه غير عادل من قبل والده الصارم الذى تنوعت تجارته ووصلت إلى تجارة الرقيق، فيظهر لنا هذا الحوار مدى هذه البراعة: «صاح أبى وشفتاه السوداوان ترتجفان: «اربط العبد سنجر حتى لا يعود يسرق خيش البصل مرة أخرى». وحين أسكت يلوح لى بعصاه: «يا ولد ما تسمع؟ أقول لك أدبه كى لا يعود للسرقة». « يا ولد.. ربطت العبد سنجر السارق فى العمود الشرقي؟» أمسكت بيده أقبلها فأزاحنى: يا أبى الحكومة حررت العبيد وسنجر.. الحكومة يا أبى، زمجر كأنما سمعنى أخيرا: ما لها الحكومة؟ سنجر عبدى أنا وليس عبدها حتى تحرره، أنا اشتريت أمه ظريفة بعشرين قرشا فضيا، وأطعمتها فى الوقت الذى كان فيه شوال الأرز بمائة قرش فضى.. نعم مائة قرش.. قرش ينطح قرش.. آه يا ظروف.. حلوة يا ظروف.. ناعمة يا ظروف.. لكن كبرت.. بطرت فزوجتها حبيب وولدت هذا السارق.. ما لها الحكومة؟ عبدى أنا.. كيف يسافر ولا يستأذن منى؟ كيف يا ولد؟». ومعروف أنه تم إلغاء تجارة الرقيق والعبودية رسميا فى عمان عام 1960، ولعل انسجام الحكى فى أحوال المجتمع والدولة متمثلا فى نفوس الشخصيات المترامية فى أطراف الرواية وبين خلجاتها تبوح بقصة ما فى ركن من التاريخ حيث الماضى والحاضر بالنسبة لزمن الرواية، والمستقبل الذى نستقرأه بين ثنايا النص، كل تلك الشخصيات تلتحم لتشكل وعيا حول هوية المجتمع العمانى القديم. رغم أن صاحبة الروائية جوخة الحارثى لم تعش فى أزمنة الرواية فكان اللجوء إلى الأرشيف البريطانى مصدرا مهما ويعد التراث الفلكلور العمانى مادة لجأت لها كذلك لتكون الرواية متماسكة بقوة، فالرواية تدور فى مجتمع محلى فكان لابد أن تتوطد الصلة بينها ووبين المصادر لتنسج ملامح الأخوة الثلاث وتربط علاقتهم العاطفية والاجتماعية، حول المجتمع العمانى القديم لتظهر لنا حالة جغرافية حول المكان والحالة الاقتصادية والثقافية التى تتمثل فى تجارة التمور وصيد اللؤلؤ، وحول الفقر والعادات والتقاليد والاجتماعية القديمة، هذه الرحلة المليئة بالجهد والمشقة وخيبات أمل والتقاليد الشعبية المورثة من جيل تلو جيل، والعبودية وحالة الرق فى هذا العصر فى بلده متخيلة يخاف أهلها الجن ولا يذهبون إلى مستشفيات الولادة، والتأريخ المكثف بداخل النص حول الثقافية والهوية العمانية، وتفاصيل دقيقة وكثيرة حول بيئية المجتمع سواء البدوية أو البيئة المنغلقة على كل ما هو جديد ومفيد ونافع. قدمتها لنا أستاذة الأدب العربى بأسلوب بلاغى راقٍ رغم تقاطعات السرد بمرور الوقت عبر السنين بأسلوب غير خطى باندماج الحاضر فى الماضى عبر تقاطعات سردية بأسلوب سردى وبلاغى راقٍ وبديع.