- تمام يا فندم... »تعيين» سيادتك جاهز - لا... ( أنا صايم ) - مش فاهم.. إزاي يا فندم؟!. - في إيه يا عسكري.. أنا صايم وهانفطر كلنا سوا ضباط وعساكر.. قبل هذا الحوار بعدة أيام كانت قواتنا المسلحة المصرية قد نجحت في العبور إلي شرق القناة.. ومن بينهم وحدة »النقيب احتياط جميل بنايوتي» المتقدمة في خطوط القتال بسلاح المدرعات التابع للجيش الثالث الميداني التي أبلت بلاءً حسنا للغاية بشهادة قادة الجيش الثالث خاصة في لحظات الحصار الذي فرضته القوات الإسرائيلية خلال تسلسل الأحداث وكانت الوحدة واحدة من النقاط الحصينة.. خلال وقت هذا الحصار جلس »النقيب احتياط جميل بنايوتي» يراجع حجم السلاح الذي معه وحجم »التعيين» أي الغذاء المتوفر لإعاشة الضباط والجنود في الوحدة فاكتشف أن ما هو متوفر لا يكفي للإعاشة أكثر من ( 4 أيام ).. فأخذ يبحث عن حل لهذه المشكلة واضعا في اعتباره أن الإمداد قد يتأخر وقد لا يصل بفعل الحصار.. إلي أن توصل إلي قرار أن (يصوم) بشكل كامل.. علي الرغم إنه مش مجبر علي ده.. ليكون القدوة لبقية زملائه من الضباط والعساكر.. وفي نفس الوقت نجح في زيادة معدل الاستفادة من »التعيين» من 4 أيام الي 8 أيام.. وفعلا فضلوا علي وضعهم ده طيلة القتال في أيام الصيام ..الأجمل إن الحرب خلصت ورجع كل واحد لبلده ولحياته.. و(النقيب جميل بنايوتي) ..كمل في الخدمة لحد ما خلص خدمته كضابط مجند وبعد كده انتقل للعمل المدني كمحاسب في جامعة عين شمس.. فضلت جواه روح المقاتل المنتصر في حرب أكتوبر.. وفضل علي العهد كل سنة بيصوم في رمضان.. عايز تعرف الحكاية بتفاصيل أكثر اخطف رجلك لحد ( حي شبرا ).. وهناك إسأل عن (النقيب جميل).. هاتلاقي أي حد تسأله بيقولك بشكل تلقائي..(تقصد عم جميل بتاع المأدبة) إللي في شارع يلبغا إللي بعد شيكولاني.. وبالفعل لن تتوه في الوصول إليه.. ولن تخطئ عينك في معرفته من غير أن يعرِّفك أحد عليه.. رجل وقور تجاوز السبعين عاماً، يتحرك بخفة رغم أنه يستند علي عكاز بين مجموعة من الرجال والشباب بل والأطفال يتحركون جميعا كما خلية النحل ليجهزوا مائدة الرحمن ما بين تجهيز الخضراوات وتقطيع اللحم وتجهيز الرز وإشعال الأفران ووضع الحلل عليها لطهي الطعام ومن ثم تعبئته أوتجهيزه في أطباق وخدمة رواد المائدة.. - هي حكاية المائدة إيه يا عم جميل ؟!.. يوووووووه... دي حكاية سنين طويلة من العمر ما تتعدش.. وعلي فكرة مش هاتشوفها إلا في »شبرا».. في لحظة عصاري ذات يوم من أيام رمضان منذ عدة سنوات..كان جالسا في بلكونة شقته حينما وجدت شابين وبعض أصحاب المحلات من الجيران ينادون عليه.. - يا عم جميل.. ممكن أن نضع »ترابزتين» في حديقة منزلك علشان إحنا قررنا نعمل مائدة إفطار بسيطة علي قدر إمكانياتا للغلابة وغير القادرين في الشوارع المحيطة بنا.. ولم نجد مكانا أفضل من حديقة منزلك كمكان يصلح لهذا الغرض.. - موافق ومن غير استئذان.. لكن أرض الحديقة ممتلئة بالماء وستعيق تنفيذ الفكرة إلا إذا قمنا بوضع بعض الرمل ليمتص الماء ولتجف سريعا.. - طب والحل يا عم جميل؟!.. - تعالوا ورايا.. وذهبوا إلي أحد المباني قيد الإنشاء وهناك استأذنوا العمال وحملوا علي أكتافهم بمن فيهم عم جميل »شكائر من الرمل» وقاموا برشها في الأماكن المبلولة من أرض الحديقة ثم قاموا بفرش الطاولات وعدت الأيام الأولي علي خير.. وشجعهم الإقبال علي المائدة في التوسع في عدد الطاولات وكميات الطعام.. ومع هذا التوسع زاد إقبال المتطوعين والراغبين في مشاركتهم هذا العمل الخيري.. الكل يحاول أن يساعد ويقدم الخدمات علي حسب قدراته وإمكانياته..هناك من قدم الموائد الإضافية وهناك من قدم الأعمدة والفراشة.. حتي السيدات في البيوت تطوعت بعضهن لتنقية الأرز وتقطيع البصل والخضار والطهي إن تطلب ذلك الأمر منهن..حتي بائعة الخضار التي كانت تأتي كل صباح من الأرياف لتبيع لسكان الحي ما معها من خضار تطوعت لتعريف القائمين علي المائدة بالمناطق التي يمكن أن يتم منها جلب الخضار بأسعار أقل من أسعار السوق وبسعر الجملة.. ثم خصص عم جميل جزءا من منزله ليكون بمثابة المطبخ لإعداد الطعام وقدم البعض الآخر أدوات الطبخ والأفران اللازمة لذلك.. وكبرت الحكاية.. ولأن جواه سر تركيبة رجال أكتوبر وأخلاقهم..عارف إن في ناس تحسبهم أغنياء من التعفف.. وعلشان ما ينفعش إنك تكون سبب في كسرة روحه حتي قدامك.. جاب عشرات من عواميد الأكل.. الناس إللي بتساعد في المائدة تقوم بتجهيزها قبل الفطار بشوية لتوزيعها علي المحتاجين..أو من عرف أن ظروفهم صعبة ويتعففون من الجلوس علي الموائد..وعاما بعد آخر زاد عدد هذه العواميد وتوزع علي غير القادرين في بداية كل شهر رمضان.. وهكذا أصبحت »مائدة عم جميل» الجميلة... لا من فضلك ليست مائدتي .. هكذا يقطع »العم جميل» كلامي ويقول مسترسلا في الحديث : يجب أن يعلم الجميع أنها ليست »مائدة جميل بنايوتي» كما يردد البعض..فأنا فرد بين مجموعة كبيرة من أهالي شبرا بل وأهالي مصر.. هناك رجال في الظل لا يفضلون أن تذكر أسماؤهم ويقدمون كل الدعم للمائدة ومنهم أبطال ووطنيون حقيقيون بعضهم دافع عن الوطن وبعضهم مازال يؤدي رسالته.. أصحاب مناصب قيادية في أماكن عملهم..عمال وموظفون وأئمة جوامع وكلهم يخدمون بكل حب.. مسلمون ومسيحيون رجال من كبار السن كانوا مراهقين زي يسري وجمال خفاجي عندما بدأنا لأول مرة واليوم أبناؤهم وأحفادهم يشاركونهم العمل في خدمة هذه المائدة.. انت هنا بتشوف مصر وخير أهلها اللي عمره ما هاينتهي أبدا.. ثم يقوم من علي الكرسي مستندا علي يد »فرج» وهو شاب انتهي للتو من أداء فترة تجنيده في القوات المسلحة في سيناء وأحد المتطوعين في خدمة المائدة.. وعند أذان المغرب.. يقترب من الجميع الأستاذ حنا وهو يحمل »صينية بسبوسة» أعدتها زوجته لتوزيعها علي المتواجدين في المائدة.. لحظتها يقول لي (عم جميل): بلدنا حلوة أووووووووي.. (النقيب) أو (عمو).... (جميل) الاسم والمعني لسه كمان لحد دلوقتي بيجمع في رمضان من تبقي من أبطال وحدته ويتواصل معهم.. عرفتوا يعني إيه ( رجال أكتوبر ) أبطال العاشر من رمضان.. ويعني إيه (حكاية وطن) إسمه (مصر) مبارك شعبها دوروا علي كل (جميل) وسطيكم.. واتعلموا منه..