محمد فايز يتفقد مدارس الصف ويشيد بجهود تطوير البيئة التعليمية    كيف تأثرت الرحلات في مطار القاهرة بالهجوم السيبراني على مطارات أوروبا؟ -(بيان رسمي)    تفاصيل زيارة وزير الري ل "مشروع تنمية جنوب الوادى"    الحكومة بغزة تنفي المزاعم الإسرائيلية بالهجوم على فرق الأمم المتحدة    البث العبرية: واشنطن تضغط لتقليص الفجوات بالمفاوضات بين إسرائيل وسوريا    ترامب يهدد فنزويلا: أعيدوا المجانين والمجرمين فورا وإلا ستدفعون الثمن    جدول ترتيب الدوري السعودي بعد فوز الاتحاد والنصر    زد 2009 يهزم سيراميكا بهدف نظيف في دوري الجمهورية    صلاح يحقق 5 أرقام قياسية خلال أول 7 مواجهات بموسم 2025/26    تسمم 5 أطفال أشقاء بعد تناولهم طعام منزلي فى سوهاج    أول تعليق من وزير السياحة والآثار على سرقة الإسورة الذهبية من المتحف المصري    بعد انفصالها عن أحمد مكي.. 20 صورة ل مي كمال الدين    "بسبب ظرف قهري".. أحمد السقا يتسلم تكريم هنيدي في ختام مهرجان الإسكندرية للمسرح    مستشار الرئيس للصحة: زيادة متوقعة في نزلات البرد مع بداية الدراسة    من فيينا إلى الإسكندرية.. "ملك السندوتشات" حكاية الخبز الأكثر شعبية فى مصر    مودريتش يقود ميلان أمام أودينيزي في الدوري الإيطالي    الأربعاء.. «بروفة» حفل افتتاح بطولة العالم لأندية كرة اليد بالعاصمة الإدارية الجديدة    كارول سماحة تفجر مفاجأة عن وفاة زوجها وليد مصطفى    «نور مكسور».. بداية مشوقة للحكاية الأخيرة من مسلسل «ما تراه ليس كما يبدو»    وزيرة التضامن تشهد احتفالية تخرج طالبات كلية رمسيس للبنات    سامسونج تطلق الدورة السابعة من برنامج «الابتكار» لتأهيل الشباب المصري رقمياً    أنغام تطرح أحدث أغانيها بعنوان سيبتلى قلبى بتوقيع تامر حسين وعزيز الشافعى    الحبكة المقدسة.. الدين في السينما الغربية    محمد سعد عن مسلسله الرمضاني: «استنوا عمل يرضي الجميع حتى العصافير» (فيديو)    اللواء إبراهيم هلال ل"الساعة 6": حل القضية الفلسطينية يحتاج قرارات مُلزمة    مواقيت الصلاة اليوم السبت 20سبتمبر2025 في المنيا    عالم أزهري يوضح سبب ذكر سيدنا إبراهيم في التشهد    اليابان: قوات أمريكية تواصل التدريب على نظام الصواريخ المضادة للسفن    سوريا.. قسد تستهدف بقذائف الهاون محيط قرية شرق حلب    على هامش فعاليات مؤتمر ومعرض هواوي كونكت 2025.. وزير الصحة يلتقي مسئولي «ميدبوت» للتعاون في تطوير التكنولوجيا الطبية والجراحة الروبوتية ( صور )    بمشاركة رامي ربيعة.. «هاتريك» لابا كودجو يقود العين لاكتساح خورفكان بالدوري الإماراتي    وزير فلسطيني سابق: إسرائيل لم تعد تتمتع بدعم حقيقي سوى من ترامب    تجديد حبس التيك توكر محمد عبدالعاطي محمد 45 يومًا    الأقصر تستعد لتنفيذ تجربة «صقر 162» لمجابهة الأزمات والكوارث    محمود محيي الدين: يجب أن يسير تطوير البنية التحتية التقليدية والرقمية جنبًا إلى جنب    غياب عربي عن القائمة.. تعرف على أكثر الدول طلبًا لتذاكر كأس العالم 2026    9 كليات بنسبة 100%.. تنسيق شهادة قطر مسار علمي 2025    لتحسين البنية التحتية.. محافظ القليوبية يتابع الانتهاء من أعمال رصف الطرق بمدن المحافظة    استجابة ل البوابة نيوز.. الفيوم تكثف رقابتها على المواقف لعدم التلاعب بتسعيرة الركوب    محافظ الأقصر يكرم عمال النظافة: "أنتم أبطال زيارة ملك إسبانيا" (صور)    الدوري الإنجليزي.. محمد قدوس يقود تشكيل توتنهام ضد برايتون    "بحضور لبيب والإدارة".. 24 صور ترصد افتتاح حديقة نادي الزمالك الجديدة    «الكازار» تعتزم إطلاق مشروعات جديدة بمجال الطاقة المتجددة في مصر    بلدية غزة: 25 ألف كوب يوميا كمية المياه المتوفرة حاليا    تحت شعار «عهد علينا حب الوطن».. بدء العام الدراسي الجديد بالمعاهد الأزهرية    موعد صلاة العصر.. ودعاء عند ختم الصلاة    بالصور.. تكريم 15 حافظًا للقرآن الكريم بالبعيرات في الأقصر    سؤال برلماني لوزير التعليم بشأن تطبيق نظام البكالوريا.. ويؤكد: أولادنا ليسوا فئران تجارب    فيديو قديم يُثير الجدل بالشرقية.. الأمن يكشف كذب ادعاء مشاجرة بين سيدتين    أكاديمية الشرطة تنظم دورة لإعداد المدربين في فحص الوثائق    المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل تستهدف 12 مليون مواطن    خطة شاملة لتعزيز الصحة المدرسية مع انطلاق العام الدراسي الجديد    مصرع تاجري مخدرات في حملة أمنية بقنا    كسوف الشمس 2025 في السماء.. تفاصيل موعد البداية والنهاية ووقت الذروة (الساعة)    «الداخلية»: ضبط 3 متهمين بالنصب على صاحب محل بانتحال صفة بالقاهرة    القومي للمرأة ينظم لقاء حول "دور المرأة في حفظ السلام وتعزيز ثقافة التسامح"    مدير مدرسة بكفر الشيخ يوزع أقلام رصاص وعصائر على تلاميذ الصف الأول الابتدائي    دعاء كسوف الشمس اليوم مكتوب كامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المختارات القصصية لخوسيه ميرينو: الذاكرة كشبح انتقامى
نشر في أخبار السيارات يوم 04 - 05 - 2019

تجسّد القصص القصيرة للكاتب الإسبانى خوسيه ماريا ميرينو، والتى صدرت مختارات لها بترجمة عبير محمد عبد الحافظ، عن مشروع «كلمة»‬ أبو ظبى؛ تجسّد اللحظة غير المتوقعة التى تكشف خلالها الذاكرة عن الدافع التدميرى للحياة بوصفها حاضنًا للموت.. خيال الماضى الذى يمارس ما يشبه الانتقام أو المحو للعالم الذى تراكم الفناء داخله.
«‬بينما كانت منهمكة فى إشعال نيران المدفأة، بعد أن حملت إناء الحطب إلى الصالة سمعها تتأفف. جلس فى مقعده الوثير مجددًا، وأخذ يتأمل الجهد الذى تقوم به السيدة العجوز ببرود ونظرة علمية فاحصة، واكتشف حركاتها التى تزداد صعوبة يومًا بعد يوم، فتبدو وكأنها تزحف، شىء خاص بها. ألسنة اللهب التى امتدت بين الحطب حولت التعاسة التى يشعر بها إلى إحساس إيجابى مستوحى من ذكريات الشتاء فى طفولته، أوقات الإجازات فى الفترات التى كان يتساقط فيها الثلج، ثمار البندق والجوز التى تشوى على نار المدفأة».
فى قصة «‬الميلاد فى الغرفة العلوية» تحدث هذه اللحظة بتأثير من حضور مفاجئ للشتاء أو «‬الدعابة الساخرة التى ألقى بها بعد انقضاء الربيع والصيف»..تنتج هذه المباغتة الشتائية استدعاءً للذكريات، الأمر الذى يذكرنا بالرغبة التى يفجرها الشتاء فى تدوين الذكريات كما كتب عنها خوان مياس فى رواية «‬العالم».. لكن هذا الاسترجاع للماضى الطفولى سيكون فى جوهره تأملًا للموت.. الموت المفاجئ للأب والذى وضع نهاية للهواية القديمة التى كان يمتلكها شاب ماهر فى صنع نماذج السفن الحربية القديمة.. الشاب الذى سيبدأالآن بنفس الأدوات التى كان يستعملها فى تشييد تلك النماذج وكاستجابة عفوية لما تمثله الذاكرة فى تلك اللحظة سيبدأ فى صنع مجسّم للقريةكزينة للميلاد.

«‬مشهد المكان غير المأهول دفعه إلى التفكير فى ضرورة أن يسكنه أناس، وبدأ بهمة وحماس فى خلقهم: المحافظ، وهو فى نفس الوقت مالك أحد المتاجر، حارس الحدود، والمعلمة، وساعى البريد على دراجته البخارية، والقس، والنساء والرجال، حيوانات وطيور جارحة. بدأ الجيران يخرجون من بين أصابعه بسرعة غريبة. الدجاج والحكام والنعاج وجريجوريا. وهو نفسه مرتديًا كوفية الشتاء».
يمكننا هنا أن نعقد مقارنة بين النموذجين: سفينة حربية قديمة، وقرية صغيرة بكل ما تتضمنه من بيوت وشوارع وبشر.. بين مغامرة الخيال التى أنهاها الموت المباغت للأب، ورتابة الواقع التى احتلها الموت منذ تلك اللحظة البعيدة.. هنا يتم تدوين الذكريات بتحريض المفاجأة الشتائية ليس فقط بشكل ملموس، وإنما كماضٍ آخر أيضًا.. كأن الخيال القديم الذى قتله احتضار الأب سيعود كشبح، وفى التوقيت ذاته «‬لحظة الشتاء حيث تُصنع المجسمات الاحتفالية بأعياد الميلاد» ليحاول أن يثأر من الموت الكامن فى الحياة.. كأن الشتاء قد تواطأ حين مر فى غير موعده، متسللا من الزمن نفسه كى يدفع صانع نموذج القرية إلى الانتقام.
«‬راقب بذعر شديد الحياة التى أخذت تدب فى قلب النموذج، عند الجبل، وفى البيوت، ومياه النهر، وأشجار الحور، بدا كل شىء ينبض بحياة غير قابلة للشك. وتحول خوفه إلى هلع. تقهقر إلى الخلف حتى وصل إلى باب الحجرة، وضغط على زر الكهرباء، دون أن يجرؤ على النظر فى الظلام الحالك، وأحكم إغلاق الحجرة بالمفتاح».
لماذا شعر بالهلع حينما بدأ جميع الأشخاص والكائنات فى التحرّك داخل المجسّم؟ لماذا أرجع الأمر إلى الهلوسة حين اكتسبت حياة النموذج الإيقاع اليومى المعتاد للقرية؟ هل لم يكن مدركًا لما تسعى الذاكرة للقيام به، أم أنها حيلة دفاعية «‬إلهية» ضد التدمير اللاحق؟.

سيتعاقب قتل البشر والحيوانات داخل القرية كإبادة جماعية، ومن البديهى حين نعرف أن الطريقة الفظيعة التى ذُبح بها الضحايا بعيدة عن أى تفسير؛ أن نفكر فى السكاكين التى استخدمها صانع نموذج القرية فى خلقها.. هكذا تكون إعادة الميلاد بواسطة محو الحياة.. الميلاد الحقيقى الذى يثبّت الفناء كأصل للعالم.. يكون خالق المجسّم هو الموت كحقيقة تعرف ما تنوى ارتكابه، فلا يصبح موت الأب مباغتًا، وبالتالى يمكن التقدّم على موت الآخرين المحتوم بخطوة.. هذه الخطوة هى المجاز الضرورى للثأر فلا يكون مجرد تدمير للحياة، وإنما تشريح للفناء.. هى الجوهر الافتراضى للانتقام من الموت، حيث يمكنك أن تحفر داخل جثث أهل القرية، وهم ما زالوا عالقين فى حركتهم المعتادة.. لكنها ليست هلوسة بقدر ما هى النسخة العارية من الواقع، أو نموذجه البدائى المحطّم من الأساس.
«‬فى فجر اليوم الخامس الذى وافق الجمعة، وكان يومًا معتمًا مثل المقلاة السوداء، قرعت الأجراس مجددًا وسط الأجواء الضبابية. وحطمت قوة مباغتة نافذة أحد المنازل، وسقط الزوجان العجوزان على الأرض غارقين فى دمائهما بين حطام خشب النافذة وقطع الخزف، ولطخت الدماء كل شىء، ووسمت الواقع بطابع دموى لا ينمحى. نظر إلى الإطار الذى اُنتزع عن الحائط بقوة فائقة، والطريقة التى تحطمت بها الطاولة العتيقة المصنوعة من خشب الصنوبر، وكأن قوة هائلة انبعثت منها، وهو ما جعله يستدعى صورة النماذج الصغيرة التى اعتاد أن يصنعها، وكانت تنهار وتتناثر إلى قطع صغيرة حين يدفعها دفعة خفيفة».
لم تعد هناك سوى قرية واحدة.. قرية المجسّم وقد أصبحت العالم الذى لا يوجد شىء خارجه.. ليس هذا تداخلًا بين الواقع والخيال، وإنما الوجود الذى يتجاوزهما، والأكثر هيمنة من الحياة التى تتضمن امتزاجهما.. الوجود الذى يتوارى داخل صانع النموذج حيث تختلط الجثث بالأشياء المحطمة والمتناثرة.. لكنه حينما يغطى المجسّم بالخرق البالية ثم يغلق باب الحجرة العلوية بالمفتاح قبل أن يلقيه فى البئر القديمة فإنه سيبدو كأنما يحاول إغماض عينيه عن نهايته المنطقية كواحد من أهل القرية لن ينجو من الانتقام الذى قرره بنفسه.. كأنه على النقيض يحاول الانفصال بشكل إلهى أيضًا عن العالم الذى خلقه «‬نموذج القرية"، وبالتالى ينتزع نفسه خارج مصيرها بعدما أيقن أن الثأر الذى أراده قد تحقق بالفعل.
«‬الوقت يمر، والحرب لم تنته. لم تكن تعرف على وجه التحديد الأسباب التى اندلعت من أجلها الحرب، يحدثهم الواعظ فى الكنيسة من المنبر عن العدو، وكيف أنه مثل الشيطان، يجب أن نخشاه لأنه ينشر العدوى مثل الوباء. فى نهاية الأمر كفت الحرب والعدو عن تقديم أخبار حقيقية، وبدا الأمر، وكأن المجهود الحربى أصبح هدفه الدفاع عن الوطن والتصدى لمجموعة من الوحوش، أتوا لغزو الوطن من بلاد بعيدة ومشؤومة مهما كلف الأمر. بلغ الأمر مداه، حتى أنه فى أحد الأيام وصلت إلى البلدة عربة حربية فيها مجموعة من معتقلى الحرب، وخرج جميع الجيران لرؤيتهم، فإذا بواحدة من السيدات تعرب عن دهشتها والمفاجأة المحبطة التى شعرت بها حين رأت أن الأعداء لا يبدون بالشكل الشيطانى نفسه الذى تحدث عنه القس».
سيؤدى غناء الزوجة فى قصة «‬الهارب من الجندية» دورًا مشابهًا لمجسّم القرية.. يعود زوجها المحارب الهارب من الخدمة العسكرية بعد أن جرحته شظية إحدى القنابل اليدوية، وأصبح عليه الآن أن يختبئ من جنود الحرس الوطنى الذين لو نجحوا فى القبض عليه سيكون مصيره الموت.. ذات صباح لن تجد الزوجة إلى جوارها المحارب الهارب، بل ستعثر عليه ميتًا أعلى الهضبة بين الصخور وقد فُتح جرحه مجددًا خلال محاولته الطويلة للهرب من الجنود.. يكتب ميرينو أن الزوجة بعد عودة زوجها وقبل موته كانت تغنى فى بعض الأحيان، وهى بين أهل القرية دون قصد منها، وكان أهل القرية فى صمتهم يستقبلون تصرفها بدهشة.. الغناء تحت وطأة الخوف والتكهنات المشؤومة.. تغنى الزوجة بالعفوية ذاتها التى شيّد صانع نماذج السفن الحربية مجسّم القرية بها.. الغناء الذى يسترجع ذاكرة الموت.. التاريخ الشخصى للزوجة وعلاقتها بزوجها وبأهل القرية.. الغناء الذى يحاول تعطيل مفاجأته المتوقعة.. تغنى الزوجة كأنها تريد أن تتقدّم على النهاية المنتظرة.. كأن ذلك هو طريقتها الخاصة فى الانتقام من الحرب.
«‬قدم الدكتور بعد ذلك فرضية جديدة أدهشت سيلينا باييخو، وهى أن الكلمات إحدى الأدوات الأساسية لتواصل الجنس البشرى، حافظت على بقائها بفضل المجهود العنيف الذى تبذله الذاكرة، ويقوم به كل إنسان بشكل مستمر منذ معرفته الأولى بمبادئ اللغة الأساسية، وإذا حدث وتعثرت هذه الإرادة السرية، بفعل النسيان، فإن هذه القلعة اللغوية الضخمة سوف تنهار. دون أدنى شك بحسب ما قاله فإن هذا ما حدث له؛ لقد كف عن بذل أى مجهود فى داخله، لكى يتذكر ويصوغ أصوات الجمل، التى تنبع أصواتها من محيط الطبيعة مثل خرير المياه، وصوت الرعد، وحتى ضجيج المحركات. كتب الدكتور سوتو عبارات أخري: فى الكلمات المكتوبة توجد إشارة للأشياء .. الأشياء التى توجد بالفعل هى فقط التى لها أسماء.. الكلمات هى العالم».
لكننا حينما نتحدث عن محو الحياة فكأننا نشير إلى اللغة التى يكمن الموت داخلها.. فى قصة «‬كلمات العالم» يختفى الدكتور سوتو بعد أن أصبحت العبارات بالنسبة له مجرد أصوات غير مفهومة.. اللغة هى ادعاء الوجود، حيث يمارس الموت عمله، وبالضرورة فإن فقدانها يبدو كوظيفة للخيال الذى سبق أن جرّد أهل القرية من الحياة، أى حينما نزع عنهم تلك الأجساد التى تكوّنها الكلمات حتى يتمثل الفناء ناصعًا.. اللغة إذن كأنها القاتل الذى يزيّف أدلة إدانته، الأمر الذى يعيدنا إلى حديث الواعظ فى الكنيسة عن الحرب فى قصة «‬الهارب من الجندية» وعلاقته بغناء الزوجة قبل موت المحارب.. هنا يصبح الحيز الفارغ من الطبيعة الذى اختفى الدكتور سوتو داخله كأنه الأصل الغامض لما قبل الكلمات أى ما قبل الزمن.. كأنه العدم الذى يسبق الموت.

من الجدير بالانتباه بالنسبة لى أن قصة «‬كلمات الموتى» للكاتب الفرنسى فيليب كلوديل تمثل اندماجًا بصورة ما بين قصتى «‬الميلاد فى الغرفة العلوية» و"كلمات العالم» لخوسيه ماريا ميرينو:
«‬ربما ليس لأن حقيقة أو معرفة مخلّصة ستتسرب خلسة أو تنكشف على نحو مفاجئ من مناقشة تقليدية أو جدل مكرر؛ بل ربما لأن العماء التام لا يمكنه العيش والخلود إلا بواسطة الكلمات، وهو ما يعنى الفناء اللحظى السهل والبديهى للعميان بطبيعة الحال .. وحدها الغفلة تلك التى تبدو حاكمة للغة البشر فى المواقف المختلفة، وحامية لقرار التعتيم الأزلى على أى إمكانية أو فرصة للفهم أو للتبرير .. الغفلة التى لا يمكن السيطرة على خفائها الممتد لكل حيز ومقصد واحتمال للحروف المتداولة فى الحياة والموت .. ذلك الشىء أو تلك المسارات والسياقات المتبلدة والمتشابكة التى لا يسكنها سوى موتى».
فى قصة كلوديل التى تدور فى القرون الوسطى يموت الناس أثناء الثرثرة العادية، فاتحين أفواههم دون فزع.. كأن هؤلاء الموتى هم أهل القرية التى شيّد نموذجها صانع مجسّمات السفن الحربية القديمة، وكأنهم جميعًا الدكتور سوتو الذى اختفى حين لم تعد هناك كلمات.. القتل الجماعى الناجم عن تحوّل اللغة فى لحظة مفاجئة من قناع للحياة إلى وجه للموت.. من التظاهر بالوجود إلى بلوغ ذروة الفناء الكامن منذ الكلمة الأولى.
الكتاب: قصص قصيرة
المؤلف: خوسيه ماريا مورينو
المترجم: عبير محمد عبد الحافظ
الناشر: مشروع كلمة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.