"يولد المبدع مبدعاً". هذه أول عبارة ستتبادر إلي ذهنك بعد أن تنتهي من رواية (نوميديا)، الرواية الأولي للكاتب المغربي طارق بكاري، الصادرة عن دار الآداب عام 2015، والتي استطاعت الوصول للقائمة القصيرة للبوكر هذه العام. يتقاسم بطولة هذا العمل ثلاثة: المكان، الذاكرة، اللغة. إختار المؤلف (إغرم)، القرية الأمازيغية النائية، التي لفظت مراد ولم تهتم لشأنه، عاملته كغريب، هو الذي أمضي طفولته فيها، وحينما قرر العودة إليها بعد سنوات طوال، كان يعلم أنه يقترف خطأ فادحاً، بما أن هذه العودة ستحرك الذكريات الراكدة، فتنبعث من جديد بكل عنفوان، لنأتي بذلك إلي البطل الثاني: الذاكرة، فالرواية برُمَّتها قائمة علي ذاكرة من وجع لا تتماثل للشفاء، تلك الذاكرة ونزيفها المستمر هي ما أجهزت علي مراد الذي يقول في الرواية: "الإنسان يولد حين يقوي علي التذكر، ويموت حين يبالغ في ذلك"، لنأتي ثالثاً إلي اللغة التي أمسك الروائي بناصيتها علي أبدع ما يكون، لكن كان تكرار عبارات بعينها وذكريات لا تلبث أن تُذكَر حتي تُذكَر ثانية كان الفخ الذي وقع فيه الروائيون أن يلتفت إلي أن الاختزال أحياناً كثيرة يكون قيمة مضافة للعملية الإبداعية. الرواية تناقش أفكارا عدة: 1- عبثية القدر و"لا جداوئية الحياة"كما يأتي علي لسان مراد وجوليا. 2- قضية الانتماء، فالبطل يجد نفسه غريباً، لا منتمياً لأي شيء، لا لقريته (إغرم) التي نفضته عنها وتنكرت له ولم تعد تذكره. "أحياناً لا تسكن المكان إلا بالقدر الذي تختاره هي"، ولا للمدينة التي انتقل إليها واستحال فيها إلي كلب ضال، لا منتمي للأمازيغية، لغته التي يتحاشي الحديث بها، ولا لليساري الذي كانه يوماً، لم يفكر مثلاً في العيش في فرنسا، حيث إنتماؤه الثقافي، والهروب من المغرب كلها وبدء حياة جديدة، وآثر استكمال حياته، أو معني أصح إنهائها في القرية التي وجدوه فيها ذات يوم، وهنا أزمة أخري للهوية، بمعني أنه وبدون أن يشعر،شكلت الخلفيات الثقافية والاجتماعية والدينية ثقلاً وضغوطات حملته علي الرجوع للأصل، وإن كان مؤلماً أو طارداً. 3- نظرة الغرب الدونية للشرق. يأتي علي لسان جوليا: "كجميع أطفال أوروبا كانت تشحذ ذهني تلك الحكايات الكثيرة التي تصر علي كون الغرب سرة الكون، وأنه لا يوجد خارجها سوي وحوش بشرية تعيش علي الكسل والظلم والجنس". 4- غواية الكتابة والشره الإبداعي الذي يحيل صاحبه إلي قاتل حقيقي. "المبدعون هكذا دائماً نرجسيون وساديون إلي ابعد الحدود، يجتاحون باسم الفن كل شيء، إنه شرعيتهم الوحيدة التي تبرر للبعض منهم جرائم وحشية". 5- ظاهرة العنف الديني. حيث تأتي كلمة الظلام علي لسانه كلما تحدث عنها للتدليل علي ما نعيش فيه بسبب الذين يصفهم مراد بقوله: "جاءوا بكفرهم، ليزيدونا تناقضات، هم سليلو الكره والظلام". الرواية تضج بأصوات أكثر من راوٍ، فغالبيتها بصوت مراد سواء في حالتي الوعي أو الهذيان، وبداخل صوت مراد نجد صوت خولة الآتي من مذكراتها، وثالث بصوت جوليا الخارج من الرواية التي تكتبها، وهناك فقرة وحيدة للراوي العليم، أجد أن جدواها غير مفهوم. اختيار الروائي للعنوان كان موفقاً بما أنه عامل جذب لا يستهان به، وهو - كما جاء علي لسان مراد - اسم ملكة أمازيغية قديمة، وهذه الشخصية الأقرب للخيال منها إلي الواقع، تفتح المجال لتأويلات عدة: فهي من الممكن أن تكون تجسيدا للمرأة بجمالها وفتنتها، الداعية تارة، واللافظة تارة أخري، وهي الأمل الذي ما إن يتجدد فلا يلبث أن يذوي، وفي مستوي أعمق - وأراه الأقرب - هي الحياة بكل مباهجها وبريقها الذي يشدنا إليها، ثم أفولها ونحن بعد لم نرتو منها. مراد يستخدم جسده، ومن ثم الجنس كأداة ربط بالحياة، إسرافه فيه لم يكن سوي محاولات للتشبث بها، فقد عشق خولة، وأحب جوليا، وجُنَّ بنوميديا، أيضاً ارتبط بشكل عاطفي ما بحياة ونضال، لكنهنّ لم يكنّ سوي وسائل تساعده علي استمرار شهيقه وزفيره، فهو لم يكذب حين قال: "لم أكن يوماً عاشقاً حقيقياً". أيضاً الحب عنده حالة ملتبسة جداً، بما أنه في مستوي آخر، تأتي الأنثي في حياته كبديل للأم التي حُرِم منها. وفي سياق متصل، تصف جوليا روايتها المأخوذة عن قصة حياة مراد بأنها "حزينة جداً وجنسية نوعاً ما"، فالرواية بالفعل باذخة السواد، متخمة بالوجع، لكنك - وعلي الرغم من كل ذلك - لا تملك بإزائها سويالإنبهار، بما أنها تملك في رحمها بذور الحبكة البوليسية، وتعتمد عنصري التشويقوالمباغتة، وإن اكتظت بجنس لا يهدأ، فمن الظلم وصفها بالرواية الجنسية، فهي أكبر وأعمق من هذا الملمح (علي أهميته)، لما تطرحه من أفكار عدة سبق ان استعرضناها. فالجنس هنا وكما جاء علي لسان مراد: "إرادة الحياة الفعلية". الرواية كانت بمثابة الضوء الذي يكشف زيف وهشاشة: 1- الحياة علي كل ما تحمله من وحشية وغرائبية. 2- المدينة التي يكمُن تحت جلدها الناعم المُبهر روح القبيلة الهمجية. 3- يساريةالأمس التي تبيع كل شيء وتتزوج زواجاً سرياًبرمز للانتهازية والوصولية في السلطة. 4- المشاعر غير الثابتة والمتحولة بعنف وبشكل مستمر. 5- الضمير، المعني الذي افتقده غالبية من تعامل مع مراد. كل هذا العري الفاضح والفادح ما كان سوي تأكيد لفكرة العبثية. بطل الرواية "أوداد"، تعني بالأمازيغية الوعل، الرضيع الملقي علي قارعة الطريق في قرية (إغرم)، ظل في عيون الناس أينما حل "ولد الحرام"، تلك الجريمة التي ظل يعاقب عليها بغير ذنب، وَسَموه بحامل اللعنة لكل من يقترب منه، فتوجب عليه الرحيل من هذه القرية الظالم أهلها، وذهب مع أول يد امتدت له، فانتقل إلي المدينة حيث تغير اسمه إلي مراد، لكن ظل الوعل الذي بداخله يحنّ لجبال القرية، يشده إليها ويجذبه إلي علٍ. مراد لا يذكر اسم زوجة (امحند)، فكما ظلت هي حيادية تجاهه، لا تمنع ولا تمنح، أضحت هي الأخري حيادية بالنسبة إليه، لكنه يذكر جيداً اسم صفية زوجة رجل المدينة، لأنها هي من تركت في روحه وجسده ندوباً لم يفلح الزمن في طمسها. مصائر الشخوص السوداوية في رواية تنغلق علي اليأس، هي تجسيد كامل للواقع العربي الحالي شديد البؤس والإحباط. في مسرحية "زيارة السيدة العجوز" لدورينمات، تعود المرأة العجوز الثرية إلي قريتها التي طردتها، لتنتقم من كل من ظلمها، لكن هنا يعود مراد وقد أثري بالفعل، لكنها عودة للانتقام من الذات. استسلام مراد لمؤامرة جوليا وبن هاشم حتي بعد أن تكًشف له كل شيء، تدل علي سلبية الشخصية من البداية إلي النهاية، لكنها مقبولة في سياق استقدام الموت والتوق للخلاص. تفاصيل حياته في المدينة - باستثناء التعذيب الجسدي الذي تلقاه علي يد صفية - لا نعلم عنها شيئاً، وبالمثل تفاصيل ثرائه الكبير وعلاقاته الفوقيه تبقي مُجَهَلَّة بالنسبة للقاريء، وهذه نقطة ضعف لا يمكن إغفالها في الرواية، خاصة أن مراد ألمح في بدايتها أنه سوف يأتي عليها لاحقاً. تأثر الروائي بالقصص القرآني كان واضحاً، فحكاية الذبح والفداء في قصة إسماعيل تتكرر في الرواية،فنراها في الحكاية الفلكلورية المحلية لسيدي موسي، ثم نراها ثانية في حلم مراد.أيضاً حكاية الشجرة المحرمة، وإن كانت في القرآن شجرة التفاح، فهي هنا شجرة التين، والتي يُقدِم علي أكل ثمرة منها،وهنا يقول: "حبة التين فرصة للانتشاء بالخطيئة .. شكراً لنشوة الخطيئة التي أنزلتنا إلي الأرض، في الخطيئة نشوة لا يخطئها سوي مكفوفي القلوب. شكراً للخطيئة معلمة البشرية". هنا نجد أنه حينما قرر البدء بالتحرر من القيود، كانت النشوة الحقيقية .. وإن جاءت متأخرة. هناك مقابلة واضحة بين القوم الرُحَّل وبين مراد، فهم بسبب ترحالهم المستمر، ليس لديهم ذاكرة للأماكن، يعيشون سعداء رغم الفقر، أحرار من سجن الذاكرة، "بقع نارية فوق الجبل هي كل أثرهم في هذه الحياة التي تعاملهم بحياد تام، فلا هي تتدخل في رحلة شتائهم وصيفهم، ولا هم يطمعون في أكثر من ذلك"، لكن مراد المصاب ب"داء فقدان التحكم في الذاكرة"، يعيش ميتاً، ويموت من الحزن الصامت الذي ظل يهمس في القلب حتي حطمه. مأساة مراد بدأت بامرأة تقيأته (أمه)، وانتهت بامرأة خدعته باسم الحب (جوليا)، جرّعته سماً كان يحيله للهذيان والجنون مما عجّل بنهايته. وما بينهما كانت هناك شخصيات ساعدت علي تعميق مأساته. وتأتي مقولة لامارتين: "أي جرم اقترفناه كي نستحق أن نولد؟!" لتؤكد أن الحياة أكبر عقاب يُقتَرَف بحق الإنسان.