»ولدتني رحلة.. كانت مجرد رحلة علي متن القطار.. عُثر عليّ وعمري ثلاثة أيّام في صحيفة قديمة، كانت تلفّني كثيابٍ دافئة.. اختلقْت أبوين من صنع خيالي، وفي سنتي الخامسة وعلي مدار عام، اختلقتُ حكايتي، بأن أمي كانت مُهرة من فصيلة (أبالوزا) الأصيلة.. أنا مُهرة في الحقيقة، بينما كنت في أحلامي فتاة ستستيقظ يومًا، لتركض بعيدًا.. والآن أنا نجمة». اختارت الفنانة هذا الاقتباس من رواية »مياه للفيلة»، للكاتبة سارة جروين لتستهل بها معرضها »أتيت.. رأيت .. عشقت» الذي اختتم مؤخرا بجاليري الزمالك للفن .. تلك الرواية التي تحولت إلي فيلم روائي رومانسي حول جايكوب الذي يدرس الطب البيطري، وهو من أصل بولندي بعد أن توفي والديه ترك دراسته، قبل أن يلتحق بسيرك ويخوض مغامرة كبيرة. تتركنا الكلمات في صحبة الرحلة.. نتذكر كم نحن بحاجة لنركض بعيدا حتي لو في ساحة الخيال، ذلك الخيال الذي لا تتوقف الفنانة سعاد مردم بك عن مغازلته بشخوصها وحكاياتها التي تخطفنا إلي عالم يشبه ألف ليلة وليلة .. ولكنه حكي ملون قدمته في أكثر من معرض من بينها »يلا نحكي» و»الخيط السحري» و »أدم» وغيرها من التجارب التي تستمع فيها إلي صوتها قادما من وراء المسطح المطرز بشخوص لهم سمات وملامح مميزة أهمها تلك العيون المتسعة التي كثيرا ما تلمع لرهافة أحاسيسها.. كثير من شخوصها تذكرنا بالدمي تصلح لأن تقفز من المسطح كي تروي عن عالمها قبل أن تعود .. بعضهم يمكنه أن يحكي عن لعبة الحرب التي يمارسها الكبار كما فعلت في معرضها »لعب.. بلا ألعاب» .. بعضهم أيضا يمكنه أن يحكي عن الزمن أو عن الحب أو عن الترحال . وقد اختارت الفنانة عنوان معرضها الأخير »أتيت.. رأيت.. عشقت» في محاكاة لمقولة يوليوس قيصر »أتيتُ.. رأيتُ.. انتصرت»، تلك التي أطلقها الإمبراطور يوليوس قيصر في إحدي حروبه الشهيرة، والتي اعتبرت أقصر خطبة في التاريخ، بل وصارت بعدها جملة أدبية شهيرة تم توظيفها في مختلف الكتب والروايات، ولا تتوقف الفنانة إلي إحالتنا إلي الأدب، فقد استلهمت معرضها السابق »أدم» من نص للشاعر والأديب السوري الراحل محمد الماغوط بنفس العنوان، أما في معرضها »الخيط السحري» فتحكي قصة بديعة عن بيتر الذي يحصل علي هدية استثنائية تمكنه من تمرير الأيام كيفما يشاء، ليكتشف في النهاية أنه أضاع عمره في هروبه المستمر من أزمات ومشاعر سلبية لم يرغب في مواجهتها فإذا به يترك معها أيضا كل تلك اللحظات الجميلة. والفنانة سعاد معنية بالقراءة وبالحكي، إذ أنها تستلهم كثيرا من قراءتها، فأعمالها غالبا ما تحمل مضمون أو مفهوم تدور في إطاره، ففي معرضها الأخير تشغلها فكرة السفر بمفرداته من قطار وحقائب، تلك الحقائب المتراكمة التي تحمل عشرات الأشياء ربما هي خلاصة ما حصلنا عليه من الحياة، حيث تقول الفنانة : تلك الحقائب التي نحمل فيها ما نكتبه أو نحذفه طوال الرحلة، بما في ذلك المواقف والعادات الإنسانية والمخاوف، فهناك أشياء كثيرة يجب أن نتخلص منها .. أما القطار الضخم الذي احتل بطولة إحدي اللوحات فلا شك أن يلمس رحلة ما بداخل كل منها، إذ أن السفر بالقطار يحمل مذاقا خاصا. حيث تقول الفنانة » القطار هو الانتقال بجمال.. حيث تطالعين مشاهد متنوعة طوال الطريق.. وهناك وقت للتفكير، وتصلين لوجهتك وأنت تشعرين بالراحة.. لذا أنا أفضل القطار في السفر».. وتضيف الفنانة: إن الرحلة التي أعنيها من المعرض إنما هي ترمز لفكرة الانتقال ربما فكري أو واقعي ، فلابد أن تكون هناك حركة إلي الأفضل. وربما كان واحد من السمات الأساسية في أعمالها بخلاف شخوصها المتميزة هو ولعها بالكائنات التي أحيانا ما تحتل المسطح بالكامل مثل لوحة الثور الأحمر ، والعصفور الذي تطعمه الفتاة، والحصان، وتظهر الفتاة التي تمطي الحصان والثور أو التي تطعم العصفور بحجم ضئيل.. إلا أنها مع ذلك في موقف قوة.. فهناك حالة محبة واضحة للكائنات.. وتري الفنانة أن الفنان ابن بيئته عليه أن يكثر من التأمل فيما حوله. وبقدر الامتاع في الحكاية فإن الامتاع البصري لا يقل أبدا في حضرة أعمال مردم بك.. إذ تشبه مسطحاتها ساحات الجدران العتيقة، وهي في الغالب توظف طبقات من ألوان الزيت والإكريلك والوسائط المتعددة، وتملأ الفنانة عالمها الحالم بالأقمشة والزخارف التي تزين ملابس.. كما تميل الفنانة إلي استخدام الألوان الترابية لا سيما لون الأوكر، وهي كذلك توظف درجات من الأحمر القاني أو الأزرق أو الذهبي البراق مما يضفي مزيدا من الغموض والسحر والجمال علي لوحاتها. جدير بالذكر أن الفنانة سعاد مردم بك، من مواليد مدينة دمشق، وقد أقامت لعدة سنوات في بيروت ثم استقرت في القاهرة، وأقامت العديد من المعارض داخل مصر وخارجها ،وحققت تواجدا مميزا علي الساحة التشكيلية.