إشادة برلمانية وحزبية بكلمة السيسي في ذكرى تحرير سيناء.. حددت ثوابت مصر تجاه القضية الفلسطينية.. ويؤكدون : رفض مخطط التهجير ..والقوات المسلحة جاهزة لحماية الأمن القومى    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    على مدار 3 أيام، ثبات سعر اليوان الصيني في البنك المركزي    أسعار اللحوم اليوم 26-4-2024 بعد انخفاضها بمحال الجزارة    الذهب يتجه عالمياً لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    لمناقشة إصلاح العدالة الجنائية، هاريس تستضيف كيم كارداشيان في البيت الأبيض    طيران الاحتلال يشن غارات على حزب الله في كفرشوبا    الطلاب المؤيدون ل غزة يواصلون اعتصامهم في جامعة كولومبيا الأمريكية|شاهد    فرنسا تهدد بعقوبات ضد المستوطنين المذنبين بارتكاب عنف في الضفة الغربية    عودة نيدفيد.. مصراوي يكشف تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة مازيمبي الكونغولي    «شرف ليا ولكن».. رمضان صبحي يكشف موقفه من الانضمام للأهلي أو الزمالك في الصيف (فيديو)    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26- 4- 2024 والقنوات الناقلة    حالة الطقس المتوقعة غدًا السبت 27 أبريل 2024 | إنفوجراف    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    صحة القليوبية تنظم قافلة طبية بقرية الجبل الأصفر بالخانكة    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    166.7 مليار جنيه فاتورة السلع والخدمات في العام المالي الجديد    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى كييف    "تايمز أوف إسرائيل": تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن 40 رهينة    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    أبرزهم رانيا يوسف وحمزة العيلي وياسمينا العبد.. نجوم الفن في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير (صور)    مبادرة مقاطعة الأسماك: التجار حاولوا لي ذراع المواطنين فقرر الأهالي المقاطعة    القومي للأجور: جميع شركات القطاع الخاص ملزمة بتطبيق الحد الأدنى    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    أنغام تبدع في غنائها "أكتبلك تعهد" باحتفالية عيد تحرير سيناء بالعاصمة الإدارية (فيديو)    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    خالد جلال يكشف تشكيل الأهلي المثالي أمام مازيمبي    الإنترنت المظلم، قصة ال"دارك ويب" في جريمة طفل شبرا وسر رصد ملايين الجنيهات لقتله    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الجمعة 26/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    "مواجهات مصرية".. ملوك اللعبة يسيطرون على نهائي بطولة الجونة للاسكواش رجال وسيدات    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    الشروق تكشف قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    هل تتغير مواعيد تناول الأدوية مع تطبيق التوقيت الصيفي؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شنغهاي .. مدينة فوق البحر
نشر في أخبار السيارات يوم 12 - 01 - 2019

‎يعني اسم شنغهاي »فوق البحر»‬ أو »‬مدينة فوق البحر». يبدو عنوانًا لقصة غرائبية أكثر منه اسمًا لمدينة تُعد الآن من أهم المراكز الاقتصادية في العالم. التفكير في معني الاسم يجلب إلي الذهن صورة مدينة طافية علي الماء، تشبه المدن الطائرة في لوحات التشكيلي البولندي جاسيك يركا، أو علي الأقل صورة مدينة ساحلية يصطخب الموج علي سواحلها، غير أن بحر شنغهاي أقرب إلي المجاز منه للواقع. لم أرَ البحر في شنغهاي وقيل لي أنه يبعد مسافة ساعتين عنها.
‎كانت تلك مراوغة أولي تليق بالمدينة وتضفي مزيدًا من الفنية علي اسمها. في شنغهاي للمجاز موقع مركزي وللفن كذلك. فتلك المدينة لا تكتفي بمركزيتها التجارية والاقتصادية وتنافس بقوة علي الصعيد الثقافي أيضًا. المتاحف عديدة ومتنوعة بحيث تشمل كل شيء تقريبًا حتي تأريخ الحالة الاجتماعية ونمط الحياة في الصين خلال القرن العشرين، والمهرجانات الثقافية والمعارض الفنية ذات طابع كوزموبوليتاني عالمي في الغالب، دون أن يعني هذا عدم الاهتمام بالثقافة الصينية المحلية.
‎قضيت شهري سبتمبر وأكتوبر 2018 في شنغهاي في إقامة أدبية ينظمها اتحاد كتاب شنغهاي ويشارك فيها أدباء من مختلف أنحاء العالم. كنا 13 كاتبًا من تسع دول: أستراليا، الهند، نيوزيلندا، المجر، اليونان، السويد، ألمانيا، مصر وأوكرانيا. شاركنا في عدد من الفعاليات مع كتاب صينيين، وحاول كل منا التعرف علي المدينة بطريقته وإنجاز مشروع كتابي أثناء وجوده هناك.
‎عدتُ من شنغهاي، لكنها لم تغادرني. علي عادة المدن الثرية، ظلت معي متحديةً إياي أن أصل إلي سرها ومعناها. في الصفحات التالية محاولة أولي لحكي قصتي مع »‬لؤلؤة الشرق» كما يحلو لأهلها أن يطلقوا عليها.
‎القاهرة - شنغهاي:في معني المسافة!
‎السفر، بشكل ما، قطيعة مع ما سبق، وتعاقد مع المستقبل. في كل رحيل بذرة تخلٍ -ولو مؤقتًا- عن مكانك القديم وأحبابك وموقعك في عالم تألفه. في كل رحيل تسلم نفسك للأمل، والأمل مخادع بطبعه، ولن يرضيه إلّا استسلامك التام لسطوته.
‎فيمَ كنت آمل وأنا ألقي مرساتي في مياه شنغهاي؟! ربما كنت أبحث عن سكينة مفقودة، فرصة لاكتساب خبرات جديدة والاقتراب من ثقافة لطالما أحببتها من بعيد، عبر القراءة عنها، دون معايشتها فعلًا.
‎تمنيتُ طبعًا أن تتاح لي إمكانية الكتابة بذهنٍ صافٍ بعيدًا عن متطلبات الحياة اليومية والعائلة والعمل في مدينتي الأم، غير أنني كنت سأرضي، من هذه المدينة الثرية، بفتات الكتابة، شرط أن تسمح لي باقتراب فعلي منها، وأن تفتح لي قلبها وتعرفني علي بعضٍ من أسرارها.
‎أعرف أن هناك مدنًا تقهر المخيلة، تستنزفها وتحوِِّلها إلي خرقة، ومدنًا أخري تثريها وتشحذها لدرجة تحيلها إلي سيفٍ مسنون. وبطبيعة الحال، ثمة مدن عالقة في المسافة بين النوعين السابقين. في حالة شنغهاي، كنتُ مجهزة لتقبل أي احتمال ممكن.
‎ذهبت إلي هناك مثقلة برواسب مدن أخري، تركت آثارها بداخلي، ووشم بعضها ذاكرتي. مدن عديدة تتوزع شرقًا وغربًا رافقتني، غير أنني كنتُ مسكونة بالقاهرة وميونيخ علي وجه التحديد.
‎القاهرة لأنها مدينتي ومستقري المختار منذ ما يقرب من ربع قرن، وميونخ لأنها أول مدينة أجنبية زرتها، ولأن المدينتين معًا كانتا محور النص الذي كتبته للمشاركة به في منحة »‬برنامج شنغهاي للكتابة»، التي يتيح عبرها »‬اتحاد كتاب شنغهاي» الفرصة لكتاب من مختلف أنحاء العالم الإقامة في المدينة لمدة شهرين والمشاركة في فعاليات وأنشطة ينظمها الاتحاد خلال هذه الفترة.
‎كانت »‬التيمة» المختارة لمنحة هذا العام هي »‬أصوات المدينة وصخبها»، وكان مطلوبًا من الكتاب المُختارين للمشاركة في البرنامج كتابة نص بالإنجليزية انطلاقًا من هذه »‬التيمة». في نصي كتبتُ عن كيف تعرفت بدقة علي أصوات القاهرة في مرآة صمت ميونيخ. كتبتُ عن ميونيخ مُغلفة بهلاوس وخيالات؛ مدينة بلون الزمرد ومذاق الخوخ الأخضر ورائحة القرفة، وعن قاهرة تبتلع الأصوات وتعيد إنتاجها بإيقاعات ونبرات جديدة، قاهرة تستحيل في أحلامي إلي فضاء حجري بلا بشر أو نباتات أو طيور.
‎دون دراية مني، كنت أحدد -عبر هذا النص- زاوية رؤيتي للمدينة الصينية، ومنهج تعاملي المستقبلي معها. بالتوازي مع كتابة نصي عن القاهرة في مرآة ميونيخ، كنت أفكر في شنغهاي وأحلم بها. لطالما مثلت في خيالي كفضاء ينتمي إلي الفن والأدب والمخيلة أكثر من انتمائه للواقع. في ذهني رحتُ أستعيد أفلامًا وروايات دارت في المدينة أو أشارت إليها. هل كنت أرغب في التعرف علي المدينة الواقعية بناسها وأشجارها وأحجارها وشوارعها بالفعل، أم تمنيتُ -دون قصد- شنغهاي مُخترَعة، تدين للمخيلة أكثر مما تدين للواقع؟!
‎استئناس المكان
‎كيف لي أن أروِّض مكانًا جديدًا علي؟! أنيَّ لي استئناسه؟!
‎لطالما عشت بألفة عاداتي وطقوسي. لا جذور لي حتي في مكان ولادتي. يروقني النظر إلي نفسي كعابرة سبيل، كغريبة علي كل الأماكن. بيتي هو عاداتي التي أكوِِّنها في أي مكان جديد أنتقل إليه، هو طقوسي التي أحمل بعضها معي من مكان لآخر، وأشكِِّل بعضها الآخر علي هواي بالتناغم مع مقري الجديد.
‎غربتي لا علاقة لها بالمكان أليفًا كان أو غير ذلك. بدت غرفتي باردة مثل صفحة بيضاء تحدق فيّ متحديةً إياي أن أجرؤ علي صياغتها كما يحلو لي أو أن أحاول إدماجها في لعبة طقوس من أي نوع. خُيِّل إلي أنها تقدِِّم نفسها كغرفة فندق؛ عابرة في حياة عابرين. راقني هذا.
‎من غرفتي في الدور العشرين يمكنني رؤية المدينة كأنما تقبع في قبضة يدي بأبراجها وجسورها وأضوائها، الستائر مفتوحة معظم الوقت كي تكفل لي متعة النظر نحو آفاق لا أعرفها ولا تعرفني.
‎الجلوس طويلًا، بجوار النافذة، لمراقبة الخارج أصبح -مع الوقت- طقسًا، أحرص عليه. يومًا بعد آخر، صرتُ أحفظ هيئة البنايات المواجهة لي، والجسر الذي لا تتوقف سيارات سريعة عن عبوره، ومع هذا لم أضجر قط، ربما لأن سرعة الحركة تعادل ثبات الشكل. كنت أمام مشهد متغير علي الدوام رغم ثباته الظاهري، ومن خلاله لمستُ كيف يمكن أن يمدنا مشهد صاخب سريع بشعور هائل بالسكينة.
‎إذا اقتربت أكثر من النافذة سوف أري الشوارع بالأسفل والأدوار الأولي من الأبراج التي تتراءي لي أدوارها العليا من أي مكان بالغرفة.
‎ظل هذا المنظر الذي أطل عليه من غرفتي أكثر الأشياء ألفة بالنسبة لي، وكان أول ما اشتقت إليه، من معالم المدينة مع برج اللؤلؤة ومنتزه جينغ آن، بعد عودتي إلي القاهرة.
‎عن متنزه جينغ آن كتبت يوم 11 سبتمبر:
‎في كل مدينة غريبة، تبدأ علاقتي الحقيقية بها، حين أجد بقعة فيها أعتبرها مكاني الخاص. نقطة اتصال بيني وبين فضائها الأوسع. هذا يومي الحادي عشر هنا. يخبرني التاريخ أنه رأس السنة المصرية القديمة وذكري تفجير برجي التجارة العالمي بنيويورك في 2001، وتخبرني أيامي القليلة هنا، أنه نقطة جديدة في استئناسي لشنغهاي.
‎فضلت قضاء اليوم بكامله في غرفتي للقراءة والكتابة دون أن أشعر بالذنب لكوني في مدينة جديدة هائلة وحيوية دون أن أستثمر كل دقيقة في اكتشافها والتسكع فيها. شنغهاي الخاصة بي معي في الداخل. صار لي أماكني المفضلة فيها، كما صار بإمكاني رسم خريطة ذهنية للحي الذي أقيم فيه.
‎بقعتي المفضلة حتي الآن هي حديقة جينغ آن، منتزه عام صغير ووارف في الوقت نفسه علي مقربة من معبد جينغ آن. من البناية حيث أقيم تلزمني بضع دقائق كي أجد نفسي هناك. أسير في ممرات الحديقة، أو أجلس علي مقعد مثبت بالأرض أتأمل البحيرة بزهور اللوتس والنيلوفر التي تزينها، وقبل أي شيء آخر أستمتع بمنظر من يمارسون التاي شي واليوجا أو يرقصون علي موسيقي وأغنيات يفتنني إيقاعاتها وغموضها.
‎أقول لمن معي، أشعر أنني في بيتي حين أصادف ممارسي التاي شي في المتنزهات العامة صباحًا، لأن زوجي يفتتح يومه بالتاي شي بحيث صار طقسًا منزليًا مألوفًا لي.
‎مسافر لا يميز شرقه عن غربه
‎في عصور سابقة، كان التحدي في الرحلة نفسها، في طول المسافة المقطوعة من نقطة البدء إلي نقطة المنتهي. أن ينتقل رحالة قديم من المغرب إلي الصين أو من إيطاليا إلي أعماق آسيا، كان إنجازًا في حد ذاته، ليس فقط لأن السفر كان شاقًا ومحفوفًا بمخاطر جمّة، بل أيضًا لأن الوصول إلي نقطة ما يعني المرور بكل ما سبقها في حالة السفر البري، أو التوقف بكل النقاط المهمة قبلها في حالة السفر البحري.
‎في تلك الحالات القديمة، كان الرحالة مدركًا لأهمية ما قام به كلما توغل بعيدًا، وإن سجل رحلاته في هيئة تقارير جافة ومقتضبة سيجد من يهلل لها ويفرح بها شرط أن تتضمن كمًا معقولًا من المدن الموغلة في البعد، وإذا حدث ولفَّق رحالة ما حكايات عجائبية عن هذه المدينة أو تلك لن يجد من يرده أو يكشف تلفيقه (أقصد من بين معاصريه)، فلم يكن هناك سبيل إلي البرهنة علي العكس، هذا بخلاف أن الآخر كان وما زال مثيرًا للفضول وفي أعماقنا نزوع غريزي لتغليفه بالغرابة ووسمه بالاختلاف إلي أن يثبت العكس.
‎في المقابل، كان الرحالة القديم ملمًا بالاتجاهات قادرًا علي قراءة خارطة النجوم وربما معرفة الوقت بمتابعة حركة الشمس. ركوبه البحر جعله خبيرًا به وبتقلباته، وتجواله في البر أتاح له دراية لا تُباري بالجغرافيا والطبيعة.
‎في حين أن معتادي السفر المعاصرين، لن أقول الرحالة، يمكننا أن نجد بينهم من سافر إلي عشرات البلدان دون أن يكون قادرًا علي تمييز الشرق عن الغرب أو الشمال عن الجنوب دون مساعدة البوصلة الإلكترونية علي هاتفه المحمول.
‎ثم ما الذي قد يضيفه إذا كتب بأسلوب تقريري عن هذه المدينة أو تلك؟! لا شيء تقريبًا. كل المعلومات متاحة علي الإنترنت. »‬جوجل إيرث» يضمن لنا الخطو الافتراضي في مدن لم نزرها قبلًا، السينما ويوتيوب وبرامج التليفزيون تحملنا إلي أبعد المدن عن مكان عيشنا. ثم الأهم، أن ثورة الاتصالات محت الكثير من الاختلافات وإن كانت لم تقض علي التحامل ولا الصور النمطية المقاربة حدود العنصرية.
‎كنت أفكر في الخرائط والاتجاهات الجغرافية فيما أسير في الحي الفرنسي بشنغهاي، برفقة الكاتبة النيوزيلندية فرانسيس إدموند خلال أيامنا الأولي بالمدينة. لم أكن أعرف الكثير عن فرانسيس في ذلك الوقت، ولا إن كانت قد سافرت كثيرًا أم لا، غير أن شيئًا ما في خبرتها بالشوارع وقدرتها علي الانتقال بسلاسة في المدينة ذكرني بالرحالة القدامي.
‎نكون سائرتين في شارع ما، ثم تتوقف فرانسيس، وتشير بيديها: الغرب في هذا الاتجاه، والشرق في ذاك، وهنا الشمال وهناك الجنوب. تتبع هذا بتفحص البوصلة الإلكترونية علي هاتفها الذكي، وتبتسم حين تتأكد من صحة ما ذهبت إليه. تقول إنها لا يمكنها الاطمئنان في غياب المعرفة بالاتجاهات الجغرافية، ترتاح فقط حين تعرف موقعها في العالم. الإحساس بالمكان مهم جدًا لديها. علي العكس منها، أسلم نفسي للأماكن دونما اهتمام بمعرفة الاتجاهات أو موقعي من العالم. مجرد التفكير في الأمر يرهقني. إذ ينتهي بي لتخيل شكل الكرة الأرضية كمجرد كرة هائمة في الفضاء؛ نقطة في بحر العدم.
‎تكفيني معرفة الشرق من الغرب وفقًا لحركة الشمس، وتأمل تشكيلات السحب في السماء. في المقابل أشعر بانعدام الاتزان إذا لم أعرف الوقت بدقة. لا أتكيف بسهولة مع غياب الساعات، أنظر إلي ساعتي كل خمس دقائق. لا يعني هذا أن علاقتي بالزمان أقوي من علاقتي بالمكان، علي العكس من هذا، عندي مشكلة في الإحساس بالزمن. في حالات كثيرة هو غير موجود بالنسبة لي، لا يمكنني لمسه ولو عبر آثاره علي الأماكن والوجوه. بما لهذا أحتاج إلي الإيمان به عبر متابعة سريانه الوهمي في صورة ثوانٍ ودقائق وساعات تشير إليها عقارب ساعتي.
‎يشعرني هذا أني أعاني من إعاقة ما، إعاقة يقلل من آثارها أن إحساسي بالأماكن حاد ومسنون، حتي لو لم اهتم بالاتجاهات الجغرافية. في شنغهاي، تضاعف إحساسي بالأماكن، وكاد الزمن يستحيل مكانًا سائلًا وفقًا لمقولة ابن عربي: »‬الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمد.»
‎كانت هذه المدينة هي العالم بالنسبة لي وتوقيتها هو زمني الخاص، وزاد من شعوري هذا أن استخدامي للإنترنت كان في أضيق نطاق ممكن، وبالتالي لم أكن أتابع ما يجري في العالم الخارجي علي نحو جيد. لم يكن في حياتي شيء سوي الكتابة والتجول في المدينة، والمشاركة في ندوات »‬برنامج شنغهاي للكتابة»، والنقاش مع الزملاء المشاركين معي في البرنامج.
‎شنغهاي: نظرة ميكروسكوبية
‎5 سبتمبر 2018:
‎معجزة عمرانية واقتصادية. لا مبالغة في وصف النهضة التي شهدتها شنغهاي وربما الصين بكاملها علي هذا النحو. هذا بالضبط ما شعرت به، مع انتهاء المحاضرة التي ألقاها الكاتب ما شانج لونج تحت عنوان »‬نظرة ميكروسكوبية لشنغهاي»، في مقر اتحاد الكتاب. كانت ندوة شائقة خفيفة الظل، ركز المحاضر فيها علي التفاصيل الصغيرة لتاريخ مدينته خلال القرن العشرين.
‎المسافة شاسعة، بل مهولة، بين شنغهاي القرن العشرين، التي استعرض الكاتب صورها أمامنا، وبين الميتروبوليس الكوزموبوليتانية بالغة التقدم والتنظيم التي نراها اليوم. في سنوات قليلة ارتقي الصينيون بعمران مدينتهم وتخطيطها وحدَّثوها بحيث باتت تتفوق من حيث العمران والتطور علي كثير من المدن والعواصم الأهم في العالم.
‎لم يذكر المحاضر شيئًا عن هذا. ركز فقط علي التفاصيل الخاصة لأهل شنغهاي وحكاياتهم البسيطة في الماضي، وكيف كانت أكثر من عائلة تتشارك حمامًا واحدًا، لدرجة أن عجوزًا في إحدي البنايات اقترح جدولًا بمواعيد استخدام كل عائلة للحمام خلال اليوم، وجعلهم يوقعون علي عقد يلزمهم باتباع هذا الجدول مع إضافة بند خاص باستثناء الحالات الطارئة.
‎استعرض أمامنا أيضًا صورًا ل»الباند» حيث اعتاد العشاق أن يلتقوا، ولكبائن التليفونات العامة. المسافة هائلة بين تقشف »‬الباند»، كما تظهره الصور القديمة، وبين أبهته الحالية. كانت شنغهاي مدينة فقيرة محرومة هي وأهلها من مظاهر الرفاهية، وها هي الآن مدينة حديثة بما لا يُقارن. وأكثر من يلفت النظر أن الناس هنا لا يتبرأون من معاناة الماضي هذه، بل يفخرون بها علي نحو واضح لأنها الدليل علي ضخامة القفزة التي حققوها نحو المستقبل.
‎حيث الجبال خداع بصر
‎في شنغهاي لا تصدق كل ما تراه. أعد النظر مرة أخري، دقق في التفاصيل. الجبل الذي سيظهر لك جانب منه وهو يحتضن بناية سكنية بمجرد خروجك من محطة مترو، ليس جبلًا بالفعل بل مجرد ديكور سوف يدفعك تذكره إلي الضحك من حماقة صوَّرت لك لأول وهلة أنك أمام بناية مشيدة في باطن جبل عملاق. تعريف آخر يمكن إضافته ببساطة لتعريفات الحماقة التي بدأت أجمعها خلال فترة وجودي في شنغهاي.
‎حين تكتشف الخدعة لن تفهم مطلقًا لماذا يتكبد أحدهم عناء تصميم ماكيت ضخم لجبل، سرعان ما ينتبه الآخرون إلي زيفه! ربما طمعًا فقط في لحظات الانبهار الأولي.
‎سوق الزواج في حديقة الشعب
‎الأحد 9 سبتمبر:
‎كانت تلك أول زيارة لي إلي ميدان الشعب، أهم ميادين شنغهاي. لم يكن الميدان نفسه هو ما رغبنا في رؤيته، بل »‬حديقة الشعب»، الواقعة فيه، لمشاهدة »‬سوق الزواج» الذي يُقام فيها خلال عطلة نهاية الأسبوع. كانت ممرات الحديقة تغص بمظلات مفتوحة ومتراصة جنبًا إلي جنب علي الأرض ومثبَّت فوق كل واحدة منها ورقة بمواصفات عريس أو عروس شابة. الألوان المختلفة للمظلات حولت المكان إلي ما يشبه المهرجان.
‎في هذا السوق التقليدي، يجلس الآباء بجانب هذه المظلات يعرضون مواصفات ابنهم أو ابنتهم راغبين في الحصول علي شريك حياة مناسب لهم. طريقة عملية وتقليدية لزواج قائم علي العقل في الغالب.
‎آباء آخرون يمرون ويقرأون المكتوب باهتمام ومعهم صور لأبنائهم علي أمل أن يجدوا لهم شريكًا ملائمًا. عرفنا لاحقًا أن المواصفات المدونة في الأوراق أشبه بما يُكتب للتقدم لوظيفة ما، إذ تحتوي علي المؤهل والوظيفة، والمهارات العملية التي يجيدها الابن أو الابنة.
‎لا أعرف نسبة الأبناء الذين يتزوجون عبر هذه الطريقة، لكن كثرة عدد الآباء المشاركين في »‬سوق الزواج» بحديقة الشعب توحي بأنها طريقة فعالة.
‎سوف نفترق
‎الأربعاء 12 سبتمبر 2018:
‎من محطة مترو معبد جينغ آن، انطلقت مع الكاتبة الأوكرانية تيتيانا تروسكايا إلي محطة تشونج شان بارك، هذه المحطة جميلة جداً، أشبه بمول تجاري بمحلات عالمية ومطاعم جيدة ومقاهٍ وفرع كبير لكارفور. محطات المترو هنا كلها أشبه بمولات فخمة تحت الأرض، لكن تشونج شان بارك من أكبر المحطات التي رأيتها حتي الآن وأكثرها حيوية وجمالًا.
‎قررنا الخروج من المحطة لاكتشاف المنطقة المحيطة. كان المطر يهطل خفيفًا منذ الصباح. سرنا لبعض الوقت في الشوارع نتحادث ونلتقط الصور ونقارن بين هذا الحي والحي الذي نسكن فيه، وحين اشتدت وطأة المطر، التجأنا إلي أول مقهي صادفنا، واسمه )y »‬offee.
‎المقهي حميم وبسيط ومريح نفسيًا، ربما لأن له طابعه الخاص ولا يشبه المقاهي العالمية المستنسخة من بعضها بعضًا. طلبنا »‬كافيه لاتيه»، وجلسنا نشربه ونثرثر فيما نراقب المطر والمارة عبر الزجاج.
‎في بداية دخولنا المكان غابت تيتيانا عني للحظة، فمررت بلحظة غريبة، من تلك اللحظات التي يتعمق فيها الشعور بمكان نتعرف عليه لأول مرة، ومع هذا نشعر بأننا كأنما نعرفه طوال عمرنا. سيطرت علي فكرة أني، في الغالب، لن أري هذا المقهي مرة أخري، وأنه سيواصل حياته -بعد مغادرتي- من دوني. ربما استأنس بي كما استأنست به، وربما لا، لكننا في كل الأحوال سوف نفترق. لوهلة بدت لي هذه الفكرة محزنة ومثيرة للأسي بدرجة يصعب احتمالها.
‎في المساء، تحدثت مع ابنتي -عبر ويتشات- عن هدوء الحياة بدون مواقع السوشيال ميديا، ومعجزة عيشي لمدة 12 يومًا بدون »‬جوجل» أو أي محرك بحث آخر. بحسها العملي المُنجِز، أرسلت لي رابط محرك بحث »‬بايدو» الصيني. ومع أنني كنت قد عزمت علي محاولة الاستمرار طوال شهري الإقامة دون الاعتماد علي محركات البحث الإلكترونية إلا أنني لم أقدر علي مقاومة إغراء الرغبة في اكتشاف هذا المحرك، ومعرفة كيفية الوصول إلي أهم معالم المدينة من خلاله.
***
‎في الأيام الأولي، شكَّل حجب الكثير من مواقع الإنترنت، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي محور حديث الزملاء من الكتاب. كانوا يندهشون حين أخبرهم أنني لن ألجأ لأي من برامج كسر الحجب، لأنني متشوقة لتجربة العيش بلا فيسبوك أو تويتر وبالأخص بلا جوجل أو أي محرك بحث آخر.
‎كلما رآني الروائي اليوناني ديمتريس سوتاكيس، في البداية، كان يسألني: هل لديك إنترنت في غرفتك؟
‎أجيبه: نعم، بالطبع.
‎مندهشًا يسأل مجددًا: هل يعمل جيدًا؟!
‎حينها فقط أنتبه إلي أنه يسأل عن الفيسبوك تحديدًا، وليس عن خدمة الإنترنت. فأرد بأنني هنا لا أحتاج سوي إلي بريدي الإلكتروني لإرسال مواد للنشر في الجريدة التي أعمل بها، ولا أنوي استخدام فيسبوك أو تويتر أو إنستجرام أو حتي جوجل. يبدو محبطًا من إيضاحي هذا، لكنه يهز رأسه متفهمًا.
‎بعد مرور أسبوعين علي وصولنا إلي شنغهاي، وفيما نتناول العشاء في المطعم الإيجوري المواجه لفندقنا، كنت أتكلم مع فرانسيس عن عادات الكتابة هنا في الصين، وأخبرتها أنني أكتب بمعدل ممتاز لبعدي عن أي عوامل تشتيت، وأنني أرغب في استعادة نفسي قبل هوس الإنترنت والاعتماد الكامل علي محركات البحث والتقنية التي تساهم في ضمور الذاكرة وقدرات الذهن.
‎علقت فرنسيس بأن من الأفضل -حين تكون في بلد ما- أن تعيش مثل أهله، وتري الحياة بعيونهم. كانت تقصد أن الصينيين أيضًا لا يعتمدون علي جوجل وليس لديهم فيسبوك أو تويتر.
‎لكنني لاحظت أن ولع الصينيين بالتقنية والتكنولوجيا واعتمادهم عليها وعلي الإنترنت هائل بدرجة لم تصادفني في أي مكان آخر سافرت إليه. ثم أنهم لديهم بدائل خاصة بهم لكل شيء.
‎بدلًا من »‬واتساب» لديهم »‬ويتشات»، وهو في رأيي أفضل كثيرًا من الأول وإمكاناته أكبر. مكالمات الفيديو الخاصة به مثلًا جيدة جدًا وأفضل من »‬سكايب» وغيره، والمكالمات الصوتية واضحة، هذا غير إمكانات أخري عديدة تجعله أقرب إلي شبكة تواصل اجتماعي شاملة، تتيح لمستخدميها البقاء علي اتصال مع من يرغبون في أي مكان بالعالم.
‎في الصين أيضًا بدائل جيدة ليوتيوب، ومحركات بحث أهمها »‬بايدو»، وإن كان يتسم بالجودة في نسخته الصينية، أما النسخة الإنجليزية فمعقولة، لكن النسخة العربية منه بدائية جدًا.
‎يتضح تعلق الصينيين بالتقنية في كل مكان خاصة في عربات المترو، حيث العيون معلقة دومًا بالهواتف الذكية، لتصفح الإنترنت، أو الدردشة مع الآخرين أو أي شيء آخر.
‎مدينة موازية
‎لشنغهاي وجوه عديدة، من الصعب تلمسها، خاصة إذا لم تعش فيها لفترة طويلة، لكن إلي جانب هذه الوجوه التي تجعلها عدة مدن في مدينة واحدة، ثمة بالفعل مدينة أخري موازية، بإمكانها سحبك إلي دهاليزها وتشتيت انتباهك، وأقصد بها محطات المترو التي تمثل عالمًا قائمًا بذاته في شنغهاي. فالمحطات كبيرة وتقترب من كونها مراكز تجارية حافلة بالمطاعم ومحال الملابس والإكسسوارات. تخطو فيها، فتنسي أنك تحت الأرض.
‎بطبيعتي أكره مترو الأنفاق، ونادرًا ما استخدمه في أي مدينة أزورها، لكنه في شنغهاي مثَّل الوسيلة المُثلي للانتقال من أدني المدينة إلي أقصاها.
‎شبكة مترو شنغهاي بالغة التنظيم والجودة والنظافة بطريقة قد لا تصادفها في أي مكان آخر. ربما يكون هذا التنظيم هو ما يمنعنا من ملاحظة الكثافة السكانية الرهيبة، ففي أيام العمل لا توحي محطات المترو أننا نتحرك في مدينة يسكنها 24 مليون نسمة، عربات المترو في باريس مثلًا كانت مزدحمة بما لا يقارن حين زرت باريس. كنت حرفيًا أختنق في طريقي من مكان لآخر بالمترو.
‎هنا، فقط في عطلة نهاية الأسبوع يمكن لمس زحام شنغهاي، فعلي عكس الشائع في القاهرة من ميل الناس إلي الكمون في البيت طلبًا للراحة والهدوء يوم العطلة، ينطلق سكان شنغهاي للخروج إلي الحدائق العامة والأسواق والمتنزهات يوم الأحد. أسواق عديدة تُقام في الأماكن المفتوحة في هذا اليوم، والمتنزهات الكثيرة تغص بالزائرين والمتنزهين.
‎عالم من الدانتيل
‎حين أخبرت صديقًا ذا معرفة عميقة بالصين وثقافتها أني في شنغهاي، كان رده الفوري أن شنغهاي ليست صينية بما يكفي، وأنني كي أتعرف علي الصين حقًا عليّ زيارة المدن الصغيرة والمناطق الريفية في قلب الصين. لم أتجادل معه، ولم أقل له إن شنغهاي بكل ما تحمله من سحر قديم في مخيلتي، هي مبتغاي الأول في هذه الرحلة، وقد تأتي رحلات أخري أتعرف فيها علي وجوه الصين الصينية بما يكفي، أو الصين الحقيقية وفقًا لتعبيره. جملته تكررت أكثر من مرة خلال وجودي هناك، أحيانًا من صينيين وأحيانًا من أشخاص من جنسيات أخري. دفعني هذا إلي التفكير إن كانت هناك نسبة محددة أو وصفة بعينها تجعل مدينة ما صينية أكثر من سواها. وما مواصفات تلك الصين المفترضة في المخيلة؟! هل ينطوي الأمر علي صور نمطية ما؟ أم مجرد ملاحظة حول الطابع الكوزموبوليتاني للؤلؤة الشرق؟
‎هذا الرأي كان من إيجابياته أنه دفعني للحذر من أي تعميم. ما ينطبق علي شنغهاي قد لا ينطبق علي ما عداها من مدن وأقاليم البلد الأخري.
‎أنظر إلي النساء المتأنقات في الشوارع وألاحظ الاعتناء البالغ بملابسهن وتصفيفات الشعر والأكسسوار، فلا أحاول الخروج من هذه الملاحظة بأي قاعدة تخص حتي نساء المدينة نفسها. أقيم في مركزها وأتحرك معظم الوقت في أحيائها الأرقي والأغني. أري واجهتها فقط، ولا أصادف المكافحات من عاملات وموظفات بسيطات إلا حين أزور سوقًا شعبيًا للملابس أو الهدايا وتذكارات السفر.
‎لكن ثمة ملاحظة لافتة بحيث لا يمكن تغافلها، وهي ولع نساء المدينة علي اختلاف طبقاتهن الاجتماعية بالدانتيل. يمكن مصادفة فساتين الدانتيل الأنيقة في كل مكان، واللافت أن ارتداءها لا ينحصر في فترتي المساء والسهرة، إنما تنتشر صباحًا بالكثافة نفسها. يخطر لي أن هذا أشبه برد علي التقشف خلال فترة الثورة الثقافية. إعلان أو تمرد من نوع ما علي حقبة وُسمت بالمعاناة.
‎لولا معرفتي بهيمنة الحرير تاريخيًا في الصين كما في اليابان، لظننت أن للدانتيل المرتبة الأولي هنا. كنت قد تخيلت بالفعل أنه نال هذه المرتبة حاليًا، إلي أن زرت أحد أسواق الأقمشة لأول مرة، وهو »‬مول» ضخم به محال لبيع الأقمشة وحياكتها. كل ما علي الزائر فعله أن يختار القماشة المرغوبة ويختار تصميمًا بعينه ويطلب من البائعة/ الخيَّاطة أن تحيك له نسخة منه.
‎هناك عرفت مصدر الدانتيل المنتشر في كل مكان بألوان لا تحصي، غير أنني أيضًا لمست أن مرتبة الحرير لم تهتز ومعه الكشمير. البائعات يجدن من الإنجليزية ما يتيح لهن التواصل مع الزبائن بالكاد، والأقمشة في عُرفهن إما حرير أو كشمير. إذ أن المفردتين تستخدمان للإشارة إلي أي نوع آخر من القماش.
‎أكل اللوتس في المدينة المائية
‎الأحد 23 سبتمبر:
‎تحركنا في الحادية عشرة صباحًا قاصدين تشو جيا جياو، مدينة مائية علي حدود شنغهاي، تأسست قبل أكثر من 1700 عام. كان الروائي المجري جيرجاي بيتر فاي هو من اقترح علينا زيارتها، وتحمست مع تيتيانا وفرانسيس وديمتريس وكاترينا وبنجت لمصاحبته هو وإيفا إلي هناك. منذ أن ذكر جيرجاي أن المسافة بين مقر سكننا وبين المدينة المائية 17 محطة مترو، قررت أن أسميها في سري »‬إيثاكا»، لأنها كانت أبعد بقعة أتوجه إليها من مركز المدينة حتي تلك اللحظة، ولأن اسمها الصيني صعب عليّ نطقه في البداية. لم أكن أعلم لحظتها أن أشياءً أخري سوف تربط بين تشو جيا جياو وبين إيثاكا اليونانية في ذاكرتي.
‎فكما في قصيدة قسطنطين كفافيس الشهيرة منحتني تشوجيا جياو الرحلة الرائعة، ووصلتُ إليها وقد اغتنيت بكل ما قابلني في طريقي إليها.
‎المدينة، التي اختارتها منظمة اليونسكو كموقع تراث عالمي، والمنطقة المحيطة بها، تُشعران من يخطو فيهما كأنما عاد في رحلة إلي الماضي، كل شيء هادئ وقديم ولا علاقة له بصخب شنغهاي وحيويتها، وإن كان يتسم بجمال فريد نابع من السكينة وصمت الطبيعة. أشجار الصفصاف هي السائدة في الطريق من محطة المترو إلي المدينة ومعها أزهار الزنبق البري بلونها البرتقالي البراق. في الطريق دخلنا سوقًا شعبيًا يباع فيه كل شيء تقريبًا من أسماك ولحوم وخضراوات وغير ذلك. الفواكه والخضراوات هنا أكثر طزاجة وتنوعًا منها في »‬كارفور» وغيره من محال السوبر ماركت في قلب شنغهاي.
‎المدينة الأثرية نفسها ساحرة رغم قدم مبانيها التقليدية أو بالأحري بسببه. قنوات مائية تربط بينها جسور عديدة، أشجار ونباتات متنوعة كنت أتعرف علي بعضها للمرة الأولي رغم خبرتي المعقولة بعالم النباتات.
‎الطرقات مبلَّطة بالأحجار والمراكب القديمة تقطع الجداول والقنوات المائية وهي محملة بركاب منشغلين بتصوير أو تأمل ما حولهم. ثمة مطاعم ومحلات تبيع ملابس صينية تقليدية وتذكارات وحلي ولوحات مرصوصة علي جانبي الشارع الرئيسي الموصل إلي عمق المدينة.
‎اخترنا مطعمًا يطل علي إحدي القنوات المائية لنتناول الغداء فيه. عبر نافذة الغرفة المستقلة التي ضمت مائدتنا، انشغلت بتأمل البيوت القديمة البادية لي علي الضفة الأخري، متسائلة عن الحيوات المحتملة لسكانها إن كان ثمة سكان في هذا الموقع الأثري الذي أشعرني أن البشر مجرد ضيوف طارئين عليه. من وقت لآخر كنت أراقب مصورًا يقف تحت شجرة ضخمة ويلتقط الصور لزوار، معظمهم صينيين، يرتدون أزياء تقليدية مؤجرة. زبائنه رجال بثياب إمبراطورية يمثلون سيماء السلطة والترفع، وفتيات متأنقات أناقة تعود لقرون مضت ويحملن مظلة، أو يتظاهرن بقراءة مخطوط قديم. يختلف الزبائن وتتكرر الأزياء والإيماءات والوقفات من دون أن يُظهر المصور علامة ملل واحدة.
‎لم أشعر بالذنب لمتابعتي لهم، لم اعتبر هذا تطفلًا أو تلصصًا. شيء ما في المشهد بكامله يوحي بأنه يتوسل بحثًا عن متابعين محتملين، شيء ما فيه همس لي أنه عرض أدائي، فكل شيء في المدينة المائية يحيل زائرها إلي مفهوم الفرجة، والمصور وزبائنه لم يمثلوا استثناءً. بدوا جميعًا أشبه بممثلين يؤدون أدوارًا: دور إمبراطور قديم، أو فتاة تنتمي إلي عصر مضي تقرأ رسالة من حبيب بعيد.
‎في ذاك المطعم المطل علي قناة مائية يعبرها جندول في إثر الآخر، قررت أنا الأخري الاشتراك في لعبة التظاهر تلك، أو لعبة التمثيل إن شئتم. اخترت عيش دور امرأة مغامرة فيما يتعلق بالطعام، أنا الحذرة جدًا تجاه المذاقات الجديدة عليّ والأطعمة غير المألوفة لي، والمصابة بفوبيا من الثعابين أيًا كان نوعها لدرجة الرعب من مجرد سماع اسمها أو قراءته مكتوبًا، اخترت طبقًا من ثعابين البحر مع الأرز المطهو علي البخار.
‎ظللت سعيدة بنفسي لبرهة، سعادة لم يقلل منها أن اسم ثعبان البحر بالإنجليزية لا علاقة له بالثعابين، كنت أترجمه في رأسي علي أي حال. حين وصل الطعام، وجدت أمامي شرائح من نبات اللوتس مطهوة في شراب مسكَّر مذاقه قريب من عسل النحل، وهو مذاق لا أستسيغه عادةً في الطعام المطهو. كانت التسمية مجازية لا أكثر.
‎شعوري بالارتياح كان مؤقتًا، فقد اضطررت لتناول طعام لا يروقني، ومع هذا تسليت بسخرية القدر العابرة تلك، فيما آكل شرائح اللوتس. لم تكمن السخرية فقط في التلاعب بمحاولتي لقهر مخاوفي من الثعابين أو للتخلص من حذري تجاه ما لم أجربه قبلًا من طعام، بل امتدت لتشمل العلاقة التي أوجدتها قسرًا بين هذه المدينة الأثرية وبين إيثاكا.
‎»‬لا إيثاكا في الجوار، إيثاكا وفكرتها سوف تُمحي من ذاكرتك! أنتِ الآن في جزيرة آكلي اللوتس، بل وصرتِ منهم بالفعل. أكلتِ اللوتس وتخدَّر عقلك، وسوف تتلاشي فكرة العودة إلي الوطن من ذهنك.»
‎تلك كانت الرسالة الضمنية التي وصلتني، كما قد تخطر تنويعات عليها لأي قارئ للأوديسة، إذ سيتذكر آكلي اللوتس الذين صادفهم أوديسيوس وبحارته في طريق عودتهم إلي إيثاكا، وكيف يدفع اللوتس آكليه للاسترخاء والخدر بدرجة تنسيهم الرغبة في العودة إلي الوطن.
‎لستُ واثقة إن كان اللوتس المذكور في الأوديسة هو نفسه اللوتس المقدس في مصر القديمة واليابان والهند والصين وربما في ثقافات أخري أم لا! أثناء أكله، كنت أتشاغل عنه بالتفكير في أي سر تحمله تلك النبتة/ الزهرة كي تقدسها هذه الحضارات إلي تلك الدرجة!
‎لم آكل اللوتس بعدها، كنت أمر بأقراصه معروضة للبيع عند بائعي الخضار ومحال السوبر ماركت، فأقول ربما تذوقي له هو ما جعل من شنغهاي بيتًا بديلًا لي، وأبعد عني شبح الغربة والحنين المَرَضي إلي الوطن. ربما لو كررت أكله واعتدت عليه لن أرغب في العودة من حيث أتيت.
‎فضلت البقاء في الجانب الآمن مكتفية بتأمل زهور اللوتس والنيلوفر في بحيرة متنزه جينغ آن أو بحيرة حديقة الشعب.
‎في متنزه جينغ آن تحديدًا كانت جلستي المفضلة أسفل شجرة دلب ملاصقة للبحيرة. من هذه البقعة كنت أطيل النظر للوتس مندهشة من أنني لم أشاهد هذه الزهرة قط في مصر رغم مركزيتها في الحضارة المصرية القديمة. لم تكن لغتنا القديمة فقط ما فقدناه، مع اللغة فقدنا الصلة بأشياء كثيرة أساسية في ماضينا.
‎المرأة التي التهمت رموز اللغة الصينية
‎الاثنين 24 سبتمبر:
‎منذ أول يوم لي في شنغهاي تثير أصوات اللغة الصينية مخيلتي، لكنني لم أعلم درجة اهتمامي بها سوي حين خايلتني في الأحلام. حدث الأمر عبر رموزها المكتوبة لا أصواتها. في حلمي كنت أدقق في الحروف الصينية، وإذا بها تستحيل إلي قطع دجاج مطهية، بدأتُ في التهامها بتلذذ، وأنا أفكر في أنني أجيد اللغة الصينية الآن، فيخطر لي في الحال أن في وسعي البقاء في الصين أو علي الأقل العودة إليها متي أردت.
‎ضحكت عندما تذكرت تفاصيل الحلم خلال النهار، بدا لي خارجًا من فيلم رسوم متحركة للأطفال. فكرت في كتابة قصة للأطفال بعنوان: »‬المرأة التي التهمت رموز اللغة الصينية». كل شيء تقريبًا يعيدني للكتابة ويدفعني للتفكير فيها.
‎مع الوقت، أدركت أن حلمي هذا لم يكن اعتباطيًا، بل مرآة ناصعة عكست أهم ما أثر فيّ في شنغهاي: الطعام الصيني المنوع والذي يصعب عليّ أحيانًا التكهن بمكوناته واللغة الصينية الجذابة بأصواتها وأشكال حروفها، لكن المستغلقة تمامًا علي فهمي.
‎فريد الدين العطَّار في جامعة فودان
‎الثلاثاء 25 سبتمبر:
‎كانت الندوة التي عُقِدت لنا بجامعة فودان، فرصة لرؤية أعرق جامعات الصين، والتحاور مع طلابها وأساتذتها ممثلين في الروائية وانغ آن إي، رئيس اتحاد كتاب شنغهاي، ونائب رئيس اتحاد كتاب الصين والأستاذة بهذه الجامعة، والروائي وانغ هونج تو أستاذ الأدب الصيني بجامعة فودان هو الآخر.
‎وصلنا إلي مقر الجامعة قبل الندوة بوقت كافٍ كي نتجول في طرقات الجامعة وممراتها الأشبه بحدائق غناء. أهم ما يميز شنغهاي كلها هو هذا الاهتمام الكبير بالمساحات الخضراء. الأشجار والنباتات في كل مكان، والمتنزهات العامة بأعداد لا تُحصي. الغرض من الأشجار هنا ليس مجرد الزينة، بل أيضًا الظل، لهذا يختارون أشجارًا ضخمة كالدلب والماجنوليا والصفصاف وغيرها. أشجار تجعل الفضاء المديني أكثر إنسانية وحميمية، وتخفف من حدة الطابع ما بعد الحداثي لناطحات السحاب والأبراج العملاقة.
‎الندوة نفسها كانت شائقة، بدأنا بأن قدم كل منا نفسه وعوالمه الأدبية باختصار مع ترجمة ما نقول إلي الصينية، ثم توالت أسئلة الطلاب، وكانت منوعة تعكس رغبتهم في التعرف علينا وأخذ رأينا فيما يتعلق ببعض فنيات الكتابة، خاصة أن بعض الطلاب يرغبون في احتراف الكتابة و يبحثون عن النصح والإرشاد.
‎عن نفسي سألني طالب عن سبب اهتمامي بالثقافة الصينية، لأنني أشرت -خلال تقديمي لكتابتي- إلي ولعي بالثقافة الصينية القديمة وفلسفة الطاو علي وجه التحديد. بدا مندهشًا من أن تهتم كاتبة تنتمي إلي ثقافة أخري، يراها بعيدة عن ثقافته، بالطاوية. أخبرته أن هذا الاهتمام ليس مستغربًا فالولع العربي والإسلامي بالصين قديم وليس حديثًا، وأشرت إلي صورة الصين في المخيلة العربية والإسلامية منذ القدم، بداية من قول النبي محمد صلي الله عليه وسلم: »‬اطلبوا العلم ولو في الصين»، إلي اختيار الشاعر والصوفي الفارسي فريد الدين العطار الصين لتكون المكان الذي ظهر فيه السيمرغ للعين البشرية لأول مرة، في رائعته »‬منطق الطير». فلطالما كانت الصين أرضًا للحكمة والمعرفة من ناحية، وللغموض والسحر والمجهول من ناحية أخري.
***
‎لم يكن فريد الدين وحده، هو من أغواه غموض الصين وسحرها، إذ لطالما شغلت رحالة ومفكرين وكتابًا من العالمين العربي والإسلامي علي مر العصور. الجاحظ مثلًا رأي أن »‬ميزة سكان الصين الصناعة، فهم أصحاب السبكِ، والصياغةِ، والإفْراغِ، والإذَابةِ، والأصباغِ العجِيبة، وأصحاب الخَرطِ، والنَّحتِ، والتصاوير، والنسج».
‎وتبني التوحيدي رؤية مشابهة، حين كتب أن الحكمة نزلت »‬علي رؤوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفرس، وأيدي الصين».
‎ولم يشذ ابن بطوطة عن هذا الرأي، فأهل الصين، بالنسبة له، »‬أعظم الأمم إحكاماً للصناعات، وأشدهم إتقاناً فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه، من الروم ولا من سواهم. فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً».
‎ويكفي أن نقرأ: »‬وبلاد الصين بلاد واسعة، فمن أراد الصين في البحر قطع سبعة أبحر، كل بحر منها له لون وريح وسمك ونسيم ليس هو في البحر الذي يليه.»، في »‬تاريخ اليعقوبي» لأحمد بن إسحاق اليعقوبي، لنعرف أن الصين عنده مكللة بالسحر، حتي وهو يتحدث عما يراه كحقائق جغرافية بحتة.
‎أضواء شنغهاي وعتمتها
‎الأربعاء 26 سبتمبر:
‎أقضي اليوم بكامله في غرفتي مع رواية لجون ديديون. يوم كامل بالداخل. الساعة الآن السادسة مساءً، الليل لم يحل بعد، لكن الأبراج المترائية لي من زجاج غرفتي في الدور العشرين، أضاءت أنوارها بالفعل، كأنما تستبق الظلام بضوء إضافي.
‎شنغهاي مدينة مغرمة بالأضواء. البنايات وناطحات السحاب تلعلع مزهوة بالضوء حتي الصباح تقريباً. علي كثرة المدن التي زرتها سابقًا، لم أرَ أضواءً ليلية مبالغاً فيها كما هو الحال في شنغهاي.
‎تبدو لي المدينة في الليل، مهرجانًا للّضوء والنور، فأتساءل عن كم العتمة الخفية التي ترغب في التعتيم عليها بكل هذه الأضواء الباهرة، المتناسقة كأنما أشرف علي تآلفها فنان ما.
‎أري أنوارها، فأفكر في عتمتها. أنظر إلي أبراجها وناطحات سحابها، فتحضرني صورتها الفقيرة في ثمانينيات القرن العشرين كما اطلعت عليها في صور وأفلام قصيرة. الناس هنا مغرمون بالتحديث، فخورون بما أنجزوه خلال عقود قليلة، سعداء بقدرتهم علي تحويل مدينتهم إلي متروبوليس مستقبلية بالغة الحداثة، فيما أبحث أنا عن شنغهاي الماضي، عن جسدها المغطي بالندوب وأنفاسها المحبوسة هلعاً خلال الاحتلال الياباني لها، أو ترقباً ووجلاً مع الانطلاقة الأولي للثورة الثقافية.
‎تجذبني شنغهاي صوب مستقبل المدن في المجمل، فيما أقبض علي يدها، أستوقفها قليلاً كي تبوح لي بما خلفه الماضي من عتمة في روحها، عتمة تجعلها في حاجة دائمة إلي كل هذه الأضواء!
‎كُن ماءً يا صديقي، كُن ماءً!
‎السبت 29 سبتمبر:
‎في الثالثة بعد الظهر، ذهبت مع فرانسيس في جولة بميدان الشعب، أحد أهم ميادين شنغهاي، إن لم يكن أهمها علي الإطلاق.
‎لا يبعد عن محطة معبد جينغ آن حيث نسكن سوي بمحطتي مترو. لم نقصد »‬حديقة الشعب» هذه المرة، بل قررنا التسكع في الميدان والشوارع القريبة منه. الأعلام الصينية تزين الشوارع استعدادًا لاحتفالات العيد القومي لجمهورية الصين الشعبية، الزهور والنباتات في كل مكان كذلك. ثمة وفرة من أشجار الماجنوليا كالعادة. تلفت فرانسيس نظري إلي شجرتي المفضلة، لأنني كنت قد تحدثت عنها في ندوة الامس قائلة إن رائحة شنغهاي وشذاها في مخيلتي هي رائحة الماجنوليا. تشير فرانسيس إلي شجرة أخري، وتخبرني أنها شجرة جنكو؛ أقدم أشجار العالم، وموطنها الأصلي الصين واليابان.
‎أتأمل الشجرة، التي لم أكن أعرف عنها شيئًا من قبل، ونتحدث عن أشجار نيوزيلندا (موطن فرانسيس)، حيث توجد بها أنواع لا تنمو في أي مكان آخر بالعالم.
‎نلتقط صورًا لمسرح شنغهاي الكبير، ثم نواصل سيرنا صوب متحف شنغهاي، وهناك ننغمس لمدة لا بأس بها في التنقل بين أقسام المتحف المختلفة.
‎وقفتُ مبهورة أمام منحوتات الجشمت بالغة الدقة والإتقان، ولوحات الكاليجرافي الصينية؛ رموز اللغة الصينية أقرب إلي رسوم وأشكال فنية جميلة منها إلي حروف. غير أنني قضيت الوقت الأكبر من زيارتي للمتحف أمام لوحات الفن التشكيلي الصيني القديم، الذي لم أكن أعرف الكثير عنه قبلًا.
‎لاحظت السمات المشتركة بينه وبين الفن التشكيلي الياباني، الذي أعشقه، كما لم تغب عني الاختلافات. فرق هائل بين الفن التشكيلي الغربي والفن التشكيلي التقليدي في كل من اليابان والصين. أنتقل من لوحة إلي أخري، وأتأمل كل منها كما لو أنني في محراب. ما هذا التناسق والانسيابية والوداعة! إحساس بالسكينة تنقله اللوحات إلي مُشاهدها. ثمة اقتصاد في التفاصيل وميل إلي التجريد والبساطة البليغة. »‬الألوان والظلال مجرد تشتيت. الزخارف والصخب أشياء فائضة عن حاجة الفن».
‎هذا ما تخيلت أنه درس الفن الصيني التقليدي ورسالته.
‎تلفت فرانسيس نظري إلي غياب أي حواف حادة عن الرسومات، وإلي هدوء الألوان ونعومتها وانسجامها، فأقول لها:
‎»‬كُن ماءً، يا صديقي. كُن ماءً»!
‎تفهم مقصدي، وتؤمن علي كلامي بأنني محقة، فالفن هنا ترجمة بليغة للطاوية بمبادئها وفلسفتها ونظرتها إلي الطبيعة، فجملة بروس لي الشهيرة مستلهمة من فلسفة الماء في الطاوية.
‎نخرج من باب مغاير للذي دخلنا منه، ونتأمل زينة الشوارع، وتشكيلات الزهور والأشجار المصممة خصيصًا من أجل احتفالات العيد القومي. نعود سيرًا إلي محطة مترو »‬ميدان الشعب».
‎العيش في محيط لغة لا نعرفها.
‎»‬لو كان لي أن أتخيل روبنسون (كروزو) جديدًا، لما وضعته في جزيرة خالية، ولكن في مدينة يقطنها اثنا عشر مليوناً من السكان، وهو لا يعرف سبيلًا لا إلي فك الكلام ولا الكتابة: سيكون هذا، كما أعتقد، هو الشكل الحديث للأسطورة.»
‎هكذا كتب رولان بارت في كتابه »‬هسيس اللغة»، وعبر هذه الاستعارة كان بارت، بدرجة ما، رفيقًا لي في شنغهاي. كنت أتذكره كلما وجدت نفسي في سياق صيني بالكامل، بلا قدرة لدي علي فهم اللغة أو تأويل الأفعال من حولي. كم من مرة شعرت أنني روبنسون جديد وجد نفسه وحيدًا لا لأنه وحيد بالفعل في مدينة مهجورة، لكن لأن اللغة والدلالات مستغلقة، في معظمها، علي فهمه.
‎من حسن حظي أن شنغهاي مدينة كوزموبوليتانية، بكل ما تعنيه الكلمة، لذا من السهل أن تجد فيها أناسًا من كل العالم وأن تصادف دومًا من يجيد الإنجليزية، لكن الأمر لم يسلم من لحظات تعيدني إلي وضع روبنسون كروزو. وفي حالات كتلك يكون التخمين والتخيل والمجازفة السبل الوحيدة للتعامل.
‎خلال زيارتي الأسبوعية لسوبر ماركت »‬كارفور» مثلًا، كثيرًا ما كنت أعود إلي وضعية روبنسون المتروك علي جزيرة عدم الفهم وصعوبة التواصل. أقف أمام أرفف المنتجات والمعلبات لأكتشف أن معظمها لا يعترف منتجوه بلغات أخري غير الصينية. لا مشكلة في الماركات العالمية، أو المنتجات المعروفة من شكلها، لكن في المقابل كان هناك عدد لا بأس به من منتجات لا يمكن التنبؤ بمحتوياتها أو تخمين كنهها.
‎رحل بارت قبل ثورة الإنترنت، وأكاد أجزم أنه لو حدث وعاصرها واعتمد علي محركات البحث (جوجل مثلًا) ثم حُرِم منها فجأة -أيًا كانت الأسباب- لَأضاف لتعريفه السابق لروبنسون كروزو المعاصر أنه إنسان وجد نفسه فجأة محرومًا من ثورة الاتصالات.
‎امتلاك المدينة
‎الثلاثاء 2 أكتوبر، العاشرة صباحًا:
‎صباح مشمس، والشارع أقرب إلي الكرنفال بسبب عطلة العيد القومي. في المقهي المجاور لمتنزه جينغ آن، أجلس للكتابة، بينما تصلني موسيقي تعزفها فرقة موسيقية من خمسة عازفين يقفون علي الرصيف القريب من المقهي وأمامهم مكبرات صوت تحمل عزفهم إلي آفاق أبعد. حولهم يتجمع المارة مبتهجين. علي يساري، مدخل المنتزه، المزنر من الجانبين بأشجار دلب ضخمة تتلاقي أغصانها وتشتبك في الأعلي لتشكل مظلة تكاد تحجب أشعة الشمس، التي يتسلل بعضها رغم تشابك الأغصان موزعًا الضوء علي الراقصين والراقصات في الممر المؤدي إلي عمق المتنزه.
‎أشعر أنني أمتلك المدينة. تمنحنا الكتابة هذا الإحساس. توهمنا أن العالم بأكمله في قبضة يدنا، يمكننا تفكيكه وإعادة تركيبه من جديد. بوسعنا تحليله وفهمه والخروج بمعني ما من ركام أحداثه.
‎الزحام أكثر من المعتاد بسبب العطلة، علي الرغم منه ومن اختلاط موسيقي الفرقة الموسيقية بالأغاني القادمة من جهة الراقصين في مدخل المتنزه، وعلي الرغم من ضجيج رواد المقهي وأحاديثهم المختلطة، أشعر بسكينة مهيمنة علي المكان.
‎هذه أول مرة تقريبًا أتجول فيها وحدي في شنغهاي، مع أن التوهان بمفردي في المدن الأجنبية من أحب هواياتي. هنا، رفاق الكتابة يكفلون لي رفقة دائمة. اليوم أستعيد متعة مواجهة مدينة غريبة وحدي، رغم أن شنغهاي لم تعد غريبة، بل ربما لم تكن غريبة منذ لحظتي الأولي فيها.
‎أفكر في أن تاريخها العريق يحميها من الآثار المحتملة لحداثتها المفرطة (ما بعد حداثتها ؟). روح قديمة تنبعث فيها وتشملها وتبث الألفة في نفوس من يرغبون حقًا في التعرف عليها.
‎يخطو عصفور في الممر بين طاولات المقهي، يبحث علي الأرض عن فُتات ما. أراه رسولًا يرغب في إخباري برسالة ما؛ بسر من أسرار المدينة. تهجم عليه قطة بيضاء تظهر فجأة، فيطير مبتعدًا.
‎أقول لنفسي: هناك، بين كائنات المدينة، من يراني غير مؤتمنة علي حفظ أسرارها بعد.
‎الكتابة بالماء
‎الأربعاء 3 أكتوبر:
‎وحدي في متنزه جينغ آن مجددًا. لا أنظر إليه اليوم كحديقة عامة، بل باعتباره ساحة مفتوحة للفنون الأدائية. ثنائيات ترقص في المدخل الطويل علي وقع الموسيقي كالمعتاد، ورجال ونساء يمارسون التاي شي أو اليوجا في أرجاء المتنزه. أتجول في الممرات، وأخطو في طريق صاعد علي أطراف المتنزه من ناحية معبد جينغ آن، من خلف السور ومن بين الأشجار أري القمة الذهبية للمعبد. أواصل خطوي. أجلس علي مقعد قريب من جدول مائي ضيق ومظلل بتكعيبة تشبه تكعيبة العنب. أدقق في تفاصيل النباتات حولي، وأخرج الكاميرا لألتقط عدة صور. في الصباح كتبت لساعتين أو أكثر في الرواية الجديدة. أغادر المقعد، وأتجه إلي مدخل الحديقة، وهناك أراه. شخص مسن مستغرق في الكتابة بالماء علي الأرضية المبلَّطة. جلست علي مقربة منه أتابع ما يكتب دون قدرة علي فهم فحواه. الكاليجرافي الخاص بالحروف الصينية لا يقل جمالًا عن فن الخط العربي. كنت مستمتعة بأشكال الرموز المعقدة بالنسبة لي. بدت لي أقرب لرسومات فنية بالغة الدقة والجمال، غير أن ما استوقفني هو أن الفنان المنهمك في عمله بقربي كان يغمس فرشاته في الماء، ثم يكتب رموزًا تكوِّن كلمات غامضة، لكنها سرعان ما ستتلاشي ما إن يجف الماء.
‎في »‬أخيلة الظل» كنت قد كتبت عمن فضَّل أن يدون كتاباته علي الهواء واعتبرته يفعل هذا تمجيدًا للفناء والعدم. وحيث جلستُ في مدخل متنزه جينغ آن، كان أمامي من يفعل الشيء نفسه، كأنما خرج من روايتي، لكنه اختار الكتابة بماء سرعان ما سيتبخر بدلًا من التدوين علي الهواء!
‎كانت بعض الرموز تجف قبل أن ينتهي من تدوين عمله بكامله. تصل إليه موسيقي وأصوات الراقصين في الجوار، فلا يرفع رأسه للنظر نحوهم. تمر فتاتان مسرعتان، وتدوسان بلا اكتراث علي »‬عمله الفني»، فأنظر صوبهما بلوم وضيق، يلاحظ نظرتي فيبتسم لي بتواطؤ وامتنان، بعد أن لاحظ اهتمامي بما يفعل. من قال إن اللغة المنطوقة هي الوسيلة الأفضل للتواصل؟!
‎ساعتان من السير في اتجاه الباند
‎الخميس 4 أكتوبر:
‎بداية من أول أكتوبر قررت المشي في المدينة يوميًا لأطول وقت ممكن. اتخذت قرارًا باللجوء لمترو الأنفاق في المشاوير البعيدة فقط. كان وسيلة مواصلات فعالة جدًا خلال الشهر الفائت. عبره انتقلت من شرق المدينة إلي غربها، ومن شمالها إلي جنوبها في غمضة عين. تعرفت علي ميادين كثيرة فيها، وحفظت خطوط المترو واتجاهاتها، لكن غاب عني تكوين خريطة ذهنية شاملة للمدينة كلها. بدت لي الأماكن والميادين كجزر منعزلة، كنقاط لا رابط بينها فوق الأرض.
‎حين زرت »‬سوق المسلمين» لأول مرة مع جيرجاي وإيفا وأنكوش وتيتيانا، بدا لي بعيدًا. لكن بينما أسير، مع تيتيانا، في شارع شانجده القريب من مقر إقامتنا، اكتشفنا أن السوق الذي يقام أسبوعياً، يقع قرب نهاية الشارع. وهكذا اعتدنا السير إليه كل جمعة لتناول أطعمته الشهية من أسياخ لحم الضأن المشوي، و»الدامبلينج» المحشوة بالخضراوات أو اللحم.
‎هناك كنت أنظر إلي الأحجار الكريمة المعروضة للبيع، خاصة الجشمت والفيروز، فتحضرني آسيا المسلمة، وأتذكر فتح السند وخراسان وبلاد ما وراء النهر. أري التمر والفواكه المجففة، فتحضرني -من طفولتي- طقوس شهر رمضان.
‎أشارت تيتيانا إلي شراب التمر عند أحد الباعة، وسألتني: ما هذا العصير؟
‎شرحت لها أنه تمر منقوع في الماء، وأخبرتها أنه مرتبط لدينا في مصر بشهر رمضان. كنت أفكر قبلها بدقائق في أن التفاصيل المألوفة لي في هذا السوق الأسبوعي المفتوح، قد تكون أجنبية تمامًا في عيني رفيقتي. نحب معًا المكان، ونحرص علي الأكل فيه واقفتين أمام عربة الطعام هذه أو تلك، حتي المطر لا يثنينا عن عادتنا هذه، ومع هذا قد تختلف أسباب تعلقنا به. طبعًا الطعام اللذيذ، سبب مشترك. لكن فيما كان تآلف المكان من ماضيّ وذكرياتي عامل جذب بالنسبة لي، فقد تكون جدته وبعده عن الذاكرة المطبخية (إن كان هناك مصطلح فعلي بهذا الاسم) لتيتيانا سبب إعجابها به.
***
‎نتحرك في مدينة واحدة. نرمقها بعين الغريب المتخلِّصة من رتابة الاعتياد، والقادرة أكثر من عين المقيم علي الملاحظة والتقاط التفاصيل والتناقضات، لكن هل نري الأشياء نفسها؟! أو بالأحري، هل يثير هذا الشيء أو ذاك المشاعر نفسها بداخلنا ويحمل لنا الإحالات نفسها؟ بالطبع لا.
‎حين رأينا أشجار الصفصاف في طريقنا من محطة المترو إلي مدينة تشو جيا جياو المائية قبل عشرة أيام. كنا ننظر إلي الشجرة نفسها، وفي الحال استعدت منظر الصفصاف بفروعه المائلة لتلامس مياه النيل في القري المصرية، وانتبهت علي تيتيانا وهي تخبرني أن الصفصاف من الرموز النباتية لأوكرانيا، إذ يرمز للعائلة والأسلاف، كما يرمز أيضًا للأسي وأحزان النساء.
‎في اليوم نفسه رأيت الزنبق البري لأول مرة، فكانت تلك لحظة سحرية بالنسبة لي، أما فرانسيس فكانت معتادة عليه.
‎أتذكر أيضًا أنه بعد زيارتي الأولي للباند مع تيتيانا، سألَنا ديمتريس إن كان المكان مزدحمًا هناك؟ وأجبناه في وقت واحد: أنا بالنفي وهي بالإيجاب!
‎فاستفسر ديمتريس ضاحكًا: أواثقتان أنكما كنتما في مكان واحد؟!
‎كنا معًا في مكان واحد بالتأكيد، لكن كل واحدة منا تحكم وفق مرجعيتها الخاصة. فعدد سكان مدينة خاركوف حيث تقيم وتعمل تيتيانا مليون ونصف المليون نسمة أو أزيد قليلًا، فيما القاهرة واحدة من أكثر مدن العالم ازدحاما.
‎وفق الإحصاءات الرسمية، تحتل شنغهاي المركز الثاني في قائمة أكثر المدن ازدحامًا بالسكان في العالم بعد مدينة تشونج كينج الصينية أيضًا، ومع هذا تبدو شنغهاي، بسبب التنظيم الفائق، أقل ازدحامًا من القاهرة. كل شيء يسير بسلاسة ويسر.
‎والآن بينما نسير أنا وتيتيانا في شارع بكين الراقي وشبه الخالي، رغم عطلة العيد القومي، كنت أعرف أننا في طريقنا للباند، فيما لا تعرف هي ذلك. تأكدت من الخريطة صباحًا أن السير في شارع بكين حتي نهايته سوف يحملنا إلي الباند، وقررت مفاجأة تيتيانا بهذا. بعد ساعتين من المشي وجدنا أنفسنا هناك علي ضفة نهر هوانجبو. التقطنا بعض الصور وغادرنا مسرعين لأن الزحام كان رهيبًا. يبدو أن الباند هو الوجهة المفضلة هنا أيام العطل. جبال وبحار من البشر في الطريق إليه في شارع إيست نانجينج والشوارع الموازية له. بدا شارع بكين -في تلك اللحظة- كأنما ينتمي لمدينة أخري.
‎من آنجي إلي دروب الذاكرة
‎الثلاثاء 9 أكتوبر:
‎نبدأ رحلة إلي إقليم آنجي تستمر حتي الخميس. موعد اللقاء في الثامنة والنصف صباحًا. الطريق كما علمنا يستغرق أكثر من ثلاث ساعات. في الطريق إلي آنجي تعرفنا علي الطبيعة الصينية الخلابة: الجبال والبحيرات والبساتين الممتدة علي الجانبين شكلت لوحات فنية من الصعب نسيانها.
‎مع الاقتراب من آنجي واجهتنا جبال البامبو وتلال الشاي علي مدد الشوف. أشار جيري؛ دليلنا خفيف الظل إلي التلال الخضراء وأخبرنا أنها مزروعة بالشاي، فالإقليم يُزرع فيه أنواع عديدة من الشاي ويشتهر تحديدًا بنوع يسمي الشاي الأبيض.
‎كنت مأخوذة بمنظر التلال الخضراء متشوقة لرؤية مدرجاتها المزروعة بالشاي، المشروب رقم واحد في مصر. لسبب غير منطقي، لم أتخيل مزارع الشاي سوي علي هيئة أراضٍ مستوية، واكتشاف أنه مزروع هنا علي مدرجات التلال مثَّل مفاجأة دفعتني للتساؤل عن بعض التصورات الساذجة التي نتعامل معها كحقائق لا تقبل الشك.
‎أخبرنا جيري أيضًا عن ولع الصينيين بالأكل لدرجة أن التحية الأشهر عندهم هي: »‬هل أكلت بعد؟» وليس »‬كيف حالك؟». كنا ننظر عبر نافذة الحافلة معلنين عن إعجابنا بطائر ما أو نباتات علي جانبي الطريق السريع، فيعلق جيري ضاحكًا بأن الصينيين إن رأوا طائرًا أو أي شيء آخر، فأول ما يخطر ببالهم التساؤل عن كيفية طهيه!
‎قال إنهم يأكلون كل ما يطير ما عدا الطائرات، وكل ما يسبح ما عدا الغواصات، وكل ما فوق الأرض ما عدا الأحجار، وكل ما له أربعة أرجل ما عدا الطاولات، وكل ما يسير علي رجلين ما عدا الإنسان، والاستثناء الأخير ليس مضمونًا حتي. نضحك علي ما يقوله جيري، فيستطرد ببعض الفخر أن مواطنيه يحولون كل ما يصادفهم إلي أطعمة لا مثيل لها في العالم.
‎وفقًا لجيري، نقل ماركو بولو النودلز الصينية إلي إيطاليا، وحولها الإيطاليون إلي مكرونة سباجيتي، ونقل فطائر البصل الأخضر الصينية إلي بلده أيضًا وحولها مواطنوه إلي البيتزا.
‎أخبرنا جيري كذلك أنهم، في آنجي، يصنعون من البامبو كل وأي شيء، حتي أنهم يطهون منه أكلات شهية. ولأن طريقته الساخرة تدفع من أمامه إلي عدم معرفة أين ينتهي الهزل ليبدأ الجد، ظننته يمزح، لكن حين وصلنا فوجئت فعلًا بأطباق لذيذة معدة من البامبو، وخلال جولتنا في معرض منتجات البامبو رأيت ملابس وثيابًا داخلية وشراشف وأثاثًا وتحفًا مصنوعة من البامبو.
‎بعد معرض منتجات البامبو، زرنا حديقة حيوان مخصصة، في معظمها، لحيوان الباندا. كانت تلك أول مرة أري فيها الباندا رأي العين. في البداية قابلت أكثر من مجسم وتمثال له في ممرات الحديقة وطرقاتها، ثم رأيت الحيوان نفسه غارقًا في كسله. هذا باندا نائم فيما الزوار ينتظرون استيقاظه بصبر، وذاك باندا راقد يجتر طعامه بروية وهدوء قاتلين. لم يسبق أن كانت لي ذاكرة مشتركة مع هذا الكائن، عرفته فقط عبر الصور والأفلام، وعلاقتي الشخصية الوحيدة معه تمثلت في رسومات جرافيتي »‬الباندا الحزين» علي جدران قاهرة 2011.
‎في متنزه الباندا هذا، فكرت فجأة في المسافة التي تفصل بيني وبين بيتي في القاهرة. في كوني هنا أتعرف علي أشياء كثيرة لأول مرة، في مرحلة عمرية يكون من الصعب أن تصادف فيها أشياءً جديدة لو ظللت في مكانك القديم ذاته. كنت مشغولة بالسفر كتجربة اقتلاع عن مكانك الأول ومفردات عالمك الأليف وسحبك إلي أراضٍ أخري بمفردات وتفاصيل تخصها، لكن بعد دقائق واجهتُ السفر ليس كرحلة في المكان فقط، بل في الزمان أيضًا، أي أن يكون سفرًا علي دروب الذاكرة الشخصية، بحيث يردك كل شيء تراه إلي شيء آخر من ماضيك. بينما أسير في طرقات الحديقة نفسها، رأيت أسرابًا من الحمام الأبيض، تطير ثم تحط فوق قبة مبني صغير، قبل أن تطير مجددًا لتحط علي الأرض قرب جدول مائي. بدت مستمتعة بلعبة التأرجح بين الاستقرار والتحليق، فوجدت أنني بدوري قد طرت بذاكرتي عائدة إلي بيت طفولتي، حيث اعتادت أمي تربية الحمام، في أعشاش معدة له فوق السطح. كانت ترعاه وتهتم به، فيحلِّق هنا وهناك ويعود كل مساء لمكانه الأليف، وحين رحلت هج من أعشاشه، وصار حمامًا بريًا هجر بإرادته دفء البيوت. ربما أدرك أن المكان لم يعد هو نفسه مع أننا حاولنا مواصلة الاهتمام به.
‎كان هذا طائر ذاكرتي، أما الحمام في هذا المتنزه فبريّ من البدء حتي المنتهي. يلتقط الحب ويرفرف تحت سماء غائمة غير آبه بشيء أو بأحد.
‎جبال البامبو
‎الأربعاء 10 أكتوبر:
‎يوم لا ينسي. زرنا بحر البامبو العظيم في مقاطعة آنجي، حيث جبال خضراء مكسوة بغابات البامبو وطرقات مشقوقة في الجبال والسير بالحافلة في هذه الطرقات والنظر المدوخ إلي أسفل. تسلقنا غابة بامبو جبلية، متوقفين فوق الدرج الموصل إلي القمة للاستراحة من وقت لآخر.
‎جغرافيا لم أصادف ما يماثلها قبلًا، ولم أتخيل أنني قد أطأها يومًا. الصين محظوظة جدًا بطبيعتها: بحار، محيط، بحيرات، أنهار، جبال، وديان وسهول وصحاري. تبدو كقارة أكثر منها دولة. الطبيعة خلابة ومتنوعة.
‎بعد بحر البامبو العظيم، زرنا بحيرة »‬عين السماء» الصناعية، المحفورة فوق قمة مرتفعة جدًا. »‬جبل» آخر كان علينا تسلقه باستمتاع. المنظر خلاب، حيث الجبال والمنحدرات بالأسفل والبحيرة -في قمتها- تبدو كعين فيروزية لا تنتمي للأرض قدر انتمائها للسماء.
‎معظم الأماكن التي زرناها في آنجي مرتفعة جدًا، بعضها يقع علي ارتفاع ألف متر. السير بالحافلة علي الطرقات الجبلية الحلزونية والملتَّفة حول نفسها بدا لي مغامرة محفوفة بالمخاطر، خاصة حين كان نظري يتجه رغمًا عني صوب الهاوية الخضراء علي جانب الطريق. حاولت قدر الإمكان النظر للأسفل، ركزت علي الكون الأخضر المحيط بي من كل جهة، علي غابات البامبو الممتدة بلا نهاية أينما اتجه بصري. أحيانًا أركز فقط في امتداد الطريق، كما يتراءي لي عبر الزجاج الأمامي للحافلة، أو أنصت إلي الثرثرات والأصوات المتداخلة القادمة من ناحية الزملاء بالمقاعد الخلفية. أثرثر بدوري مع تيتيانا الجالسة بجواري، أو فقط أتأمل العربات القادمة من الجهة الأخري، فيعيدني هذا إلي مخاوفي الطفولية لأن الطرق الجبلية كانت أضيق من أن تسير عليها السيارات في الاتجاهين المتعاكسين دون حاجز يفصل كل اتجاه عن الآخر.
‎كانت الرحلة إلي آنجي هبة هواء منعشة جعلتني أري شنغهاي من منظور آخر، إذ كنت أندهش حين يصفها أحد أمامي بالصخب والضجيج، وأرد عليه بأنها هادئة مقارنة بالقاهرة. في شنغهاي، كان صوت جهاز التكييف في غرفتي رفيقي الصوتي الأول في المدينة، ومن بعيد يرافقه وشيش مكتوم لأصوات الشارع بالخارج. في الدور العشرين، تصلني أصوات الخارج متلاشية ومقطّرة. لم أتعرف علي ضجة شنغهاي سوي في آنجي الهادئة بما لا يقارن.
‎في صمت آنجي وسكينتها استعادت ذاكرتي أصوات شنغهاي، واعترفت بضجتها. مقاطعة آنجي جميلة بدرجة غير واقعية. ثمة جبال وتلال خضراء أينما وجهت بصرك، تشكيلات الجبال البعيدة والمتقاطعة تشكل لوحات فنية تذكرنا بأن الطبيعة أمهر الفنانين. الهواء منعش، وغابات البامبو تجعلك تندهش إذا أبصرت كائنًا بشريًا في الجوار أو تبدي لك بيت بعيد من مكانك بالأعلي. كل شيء في محيط غابات البامبو يدفعك للظن أنك في فردوس لا يجب أن يدنسه وجود البشر أو البنايات.
‎طوال الأيام الثلاثة التي قضيناها هناك، أحسست أنني أخطو في أرض سحرية. شعور غامر بالامتنان والسكينة غمرني خلال اليقظة، ومع هذا عانيت في أثناء نومي من أكثر كوابيسي بشاعة. كنت أصحو مرتعدة، أنظر حولي فأجدني في غرفتي في المنتجع الفخم. عبر زجاج النافذة، التي اعتدت ترك ستائرها مفتوحة، تواجهني تلال الشاي الخضراء والأشجار علي الجانب الآخر من الشارع. يفاجئني التناقض بين جمال المكان في اليقظة وجغرافيا أحلامي القاتمة والعنيفة. كنت أمزح، في شنغهاي، قائلة لرفاق برنامج الكتابة إنني لا بد عشت في هذه المدينة وأحببتها في حياة سابقة، فروحي تعرفها وتأمن لها. لو طبقت المزحة نفسها علي آنجي، فأحلامي (كوابيسي بالأحري) تسر لي -من طرف خفي- بأن روحي لا تتآلف مع روح آنجي.
‎نقطة في تل الشاي
‎الخميس 11 أكتوبر:
‎أصحو لأجلس في الشرفة حيث تتراءي لي تلال الشاي. لا أرغب في العودة إلي شنغهاي. أتناول إفطاري مع تيتيانا وفرانسيس، ونقرر قضاء الوقت القليل المتبقي قبل تحرك حافلتنا في المشي واستكشاف أحد تلال الشاي. خلال الإفطار نمزح مع بي هوا المسؤلة عن تنظيم البرنامج، قائلين إننا نريد البقاء في هذا المنتجع الفخم حتي انتهاء فترة إقامتنا في الصين. درنا حول المكان نستنشق هواء الصباح المنعش، ثم بدأنا رحلة صعود تل الشاي. من داخله، بالالتحام معه، لا يبدو التل مثل هرم أخضر كما اعتدت رؤيته خلال اليومين الماضيين، تتضح مدرجاته المزروعة بالشاي والأشجار والممرات المدرجة بينها والأشبه بسلالم مجهزة بصبر وعناية. تتداخل الأشجار كلما صعدنا لأعلي. نتوقف علي إحدي درجات الممر، وننظر للعالم بالأسفل. تتجلي لنا التلال الأخري ماثلة علي امتداد البصر، لتشكل خلفية بصرية تنتمي للفن أكثر من انتمائها للواقع.
‎تلحق بنا الروائية الأسترالية جوزفين ويلسون، نصل إلي »‬برجولة» مثبت أسفل مظلتها مقاعد خشبية لمن يرغب في بعض الراحة من متسلقي التل. نتحدث عن الكتابة وشنغهاي وما ينتظرنا في مدننا الأم من مهام.
‎تنبعث أشعة الشمس فجأة من خلف الغيوم، وتصلنا من بين أغصان الأشجار. أنظر لامتداد التل يمينًا ويسارًا، فيبدو كما لو كان بلا نهاية؛ غابة متصلة بأخري، ونبدو نحن أشبه بنقطة مهملة في بحره.
‎تقول فرانسيس إن النباتات والغابات في نيوزيلندا برية أكثر، فتبرق في ذهني مفردة »‬أحراش». أشعر أنها، لا مفردة أخري غيرها بأي لغة، تعني ما تصفه فرانسيس. حرفا الحاء والشين تحديدًا هما ما يوحيان لي بهذا، في وجودهما معًا علي هذا النحو خلاصة البرية والشراسة والجموح في نباتات لم أتعرف عليها بعد.
‎في طريق عودتنا إلي شنغهاي، تجلس جوزفين بجواري. تسألني عن جمال خاشقجي، ونتناقش في المنشور -حتي تلك اللحظة- عن قضية اغتياله. التدريس في الجامعة طبع جوزفين بطبعه. تحب مشاركة الآخرين ما تقرأه، لديها دومًا جديد تضيفه في أي شأن عام. تتابع كل ما يحدث في العالم باهتمام. يحدث كثيرًا أن أجد في بريدي، ما إن أصحو، رسالة أو اثنتين منها بروابط مقالات لفتت نظرها. صرت أرسل لها بدوري ما يستوقفني من مقالات أتوقع أن تكون في نطاق اهتمامها.
‎في طريق العودة الطويل، لم نتوقف عن الحديث. فرجتني علي صور عديدة لنباتات وزهور لا تنمو سوي في أستراليا (ونيوزيلندا؟). حين تلمح إعجابي بصورة نبات ما علي شاشة هاتفها المحمول، تخبرني باسمه وبعض المعلومات عنه. تبدو استراليا ومعها نيوزيلندا مثل عالم قائم بذاته، أرض جديدة تناديني لاكتشافها.
‎سردية شنغهاي
‎السبت 27 أكتوبر:
‎الإقامة في شنغهاي تقترب من نهايتها. أجلس في مقهي ويت & بايكر المجاور لمقر إقامتنا. أتناول فطوري وأشرب قهوتي. الجو خريفي بارد حتي داخل المقهي المغلق. عبر الزجاج يبدو الشارع مختلفًا عنه حين أخطو فيه خلال مشاويري اليومية.
‎من هذه المسافة المحسوبة يمكنني استبيان تفاصيله أكثر. تواجهني أشجار الدلب المائلة أوراقها للأصفر المشوب بالخضرة، بجوارها أشجار أخري أجهل أسماءها.
‎في الصباح الباكر رددت علي إيميل من صديقتي آنجيلا، التي أخبرتني أن زميلًا لها كان في شنغهاي لأيام مؤخرًا وحكي لها عن تنظيمها وهدوئها مقارنةً بالمدن المابعد حداثية الأخري الضاجة دومًا بالزحام والصخب.
‎بفراستها المعتادة وصفت آنجيلا شنغهاي بالمدينة المستقبلية، بناءً علي صور شاهدتها لها. تدهشني دائمًا بقدرتها علي وصف الأشياء والأماكن -حتي تلك التي لم ترها رأي العين- بمنتهي الدقة والاستبصار.
‎قلت لها إن قلة سكان موطنها (سويسرا) انعكس علي مدنها التي تُشعر الزائر بالسكينة والهدوء. زيورخ مثلًا أو بازل ليستا في حاجة لإثبات شيء لزائريها، تسترخي كل واحدة منهما علي ضفة ليمات أو الراين غير منشغلة بالرغبة في إبهار أحد أو سلبه أنفاسه.
‎لكن، هل تنشغل شنغهاي بإبهار الآخرين أو بتقديم نفسها كمدينة مستقبلية، إن جاز لي استعارة وصف آنجيلا لها؟
‎رأيي أنه يجب الفصل بين رغبات المدينة وطموحات مخططيها، إذ أن للأماكن رغباتها وأفكارها ولغتها التي تجيد الاختباء والتواري والتُقية. ثم عن أي شنغهاي أتحدث؟! عن وسط المدينة العصري حيث أقيم، أم الحي الفرنسي وتفاصيله المُذكِّرة بالوجود الأجنبي في مدينة النصف الأول من القرن العشرين؟ عن حي بودونج علي الضفة الأخري من نهر هوانجبو العاكس لنهضة شنغهاي والطامح لأن يصير أهم منطقة اقتصادية علي مستوي العالم، أم عن شنغهاي الضواحي والأطراف والأسواق الشعبية؟ عن »‬ميدان الشعب» بسطوة بناياته وهيمنتها ومركزيته في سردية المدينة أم عن »‬حديقة يو» الأثرية برهافة معمارها المتناغم مع الفضاء من حوله ونباتاتها الأشبه بنسمة منعشة في حر قائظ؟!
‎شنغهاي سردية بالغة التعقيد تتراكم طبقاتها وتتوزع علي عصور شتي، عصور لا تكمل بعضها بعضاً ويبني أحدها علي ما سبقه دائمًا، بل تتصارع أحيانًا فيما بينها ويحاول أحدها أن يهدم الآخر ويشيِّد نصه الخاص علي طلل سابقه أو حتي خرائبه. والآن، تبدو المدينة لي كما لو كانت تغافل سكانها وتتجاهل ركضهم صوب المستقبل، كي تلتقط أنفاسها، وتلقي نظره متمهلة علي عصورها الماضية وطبقاتها المتراكمة للتأكد من أنها تلتئم معًا علي نحو سليم، ولن تخلِّف ندوبًا لا تزول.
‎لا يتوقف ثراء شنغهاي وتركيبها عند الامتدادات الزمنية، إنما أيضًا يشمل الامتداد الأفقي الواسع. فالمدينة كبيرة جدًا، وهذا الوصف يتضاعف معناه إذا قاله من يقيم في مدينة ضخمة كالقاهرة.
‎جنَّة المذاقات
‎الطعام وجه بارز من وجوه شنغهاي. المذاق والنكهة والتوابل مختلفة في معظم الحالات عن كل ما ألفته في المطبخين الشرق الأوسطي والأوروبي. المطبخ الصيني متنوع بدرجة هائلة. الوجبات الرسمية التي دعينا إليها كانت كثيرة، وفي كل مرة تتعدد الأطباق والصنوف، ومع هذا يندر أن يتكرر طبق سبق أن قُدِّم في مرة سابقة. ثمة كرم بالغ في حفلات الغداء أو العشاء تلك. تشمل الأطعمة كل شيء تقريبًا بما في ذلك الكابوريا وفواكه البحر وثعابين البحر وحتي الضفادع جنبًا إلي جنب اللحوم والأسماك والدجاج والبط ومختلف أنواع الخضراوات (بعضها غير متوافر لدينا)، وكذلك التوفو؛ البديل النباتي للحوم. ومختلف أنواع الشاي، وعصائر الجوز والتوت وحتي عصير قصب السكر منتشر في الصين، حيث صادفته لأول مرة خلال زيارتنا لمدينة تشو جيا جياو المائية.
‎تنفتح شنغهاي علي معظم مطابخ العالم. ثمة مطاعم تمثل أغلب الثقافات. مطاعم فيتنامية وتايلاندية ويابانية وهندية وتركية ويونانية ومكسيكية ومغربية وإسبانية وإيطالية، الخ.
‎المطاعم المغربية والتركية تُُقدَّم في الإعلانات كأماكن إكزوتيكية مرتفعة الأسعار، والمطاعم اليونانية تُقدِّم الكباب باعتباره وجبة يونانية أصيلة.
‎لفت نظري أيضًا التباين الكبير بين مطابخ شرق آسيا رغم المشتركات الثقافية العديدة بين دولها. ثمة تشابهات منها شيوع النودلز ومركزية الأرز وغيرها، لكن الأطعمة الفيتنامية مثلًا مختلفة عن الأطعمة الصينية، وتلك مغايرة للمطبخ التايلاندي والهندي، والمطبخ الياباني أوسع من حصره في السوشي.
‎إلي جانب المطبخ الصيني، أحببت المطبخ الفيتنامي بابتكاره ولذة أطباقه وتنوعها. نادرًا ما فكرت وأنا في شنغهاي في تناول طعام ينتمي إلي المطبخ الأوروبي. عشت مع المذاقات الآسيوية، وتخليت عن كثير من عاداتي الغذائية. في السابق كنت أتجنب مشروبات الأعشاب ونادرًا ما كنت أشرب أي نوع شاي بخلاف الشاي الأسود. في شنغهاي أصبح الزنجبيل الطازج رفيقي الدائم، أضيف شرائح منه إلي الأطباق الخفيفة التي كنت أطبخها من وقت لآخر، وأجهز منه مشروبًا أتناوله أكثر من مرة يوميًا. وعلي عادة الصينيين كنت أشرب ماءً ساخنًا أو علي الأقل دافئًا بدلًا من الماء البارد.
‎مع الوقت، لمست بالتجربة المكانة الهامة للطعام في تشكيل الهوية. مع اقتراب إقامتي في الصين من نهايتها، كان شوقي للأكل المصري قد تضاعف. اكتشفت أنني يمكنني التأقلم بسهولة مع جغرافيا بعيدة ومناخ مختلف عمَّا ألفته، لكن الصعوبة الأساسية تتمثل في عدم التواؤم لفترة طويلة مع غياب أطباق المطبخ المصري عن عالمي. بدافع الحنين وحده، اشتريت من كارفور معلبًا يشبه الفول، لأُفَاجأ في النهاية بأنه بقوليات أخري، بينها فاصوليا ولوبيا، مغمورة في »‬صوص» يقترب مذاقه من العسل. بدا لي طعم البقوليات متنافرًا مع الطعم الحلو للصوص، فتخلصت من محتويات العلبة التي كنت قد أضفت إليها التوابل والليمون.
‎أين أنا؟!
‎بعد عودتي إلي القاهرة، ظللت لأسبوعين تقريبًا مسكونة بشنغهاي. لا أقصد هنا تذكرها والتفكير فيها، بل الإحساس بأنني ما زلت هناك شعوريًا علي الأقل. من قال إننا نغادر مكانًا ما لمجرد أننا انتقلنا منه جسديًا إلي مكان آخر؟! في تلك الفترة، كنت أضبط نفسي وأنا ألتفت يمينًا ويسارًا متوقعة أن أري مثلًا برج اللؤلؤة يلوح لي من بعيد، أو القمة الذهبية لمعبد جينغ آن، أو حتي صفوف من أشجار الدلب والماجنوليا. وحين أجد أن ما يواجهني بنايات القاهرة ومعالمها، أنتبه إلي أن المسافة بيني وبين شنغهاي لم تعد هائلة كما كانت قبل زيارتي لها. صارت شنغهاي مدينة أليفة، يمكن استحضارها وبعث روائحها ومذاقاتها وأجوائها في مخيلتي. لشنغهاي في ذاكرتي الآن لون أرجواني وعبير الماجنوليا المختلطة بمذاق الزنجبيل ورائحته.
‎لم تكن أشجار الماجنوليا في موسم إزهارها وأنا هناك، فقلت لنفسي يجب أن أعود ذات ربيع كي أري الشوارع متوهجة بزهور الماجنوليا ومعبَّقة بشذاها، وكي أختبر طقسًا مختلفًا عن الحر المشبع بالرطوبة والمبلل بالمطر في سبتمبر وبدايات البرد في أكتوبر. ربما حينها تبوح لي المدينة ببعض من أسرارها وهواجسها، ربما حينها سوف أُحسن الإصغاء إلي لغتها السرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.