تكلم ماكرون إلي الشعب الفرنسي يوم الإثنين الماضي، كانت نبرة صوته هادئة، خالية من أي انفعال أو غضب، بدا الرئيس الشاب الذي يواجه منذ قرابة ثلاثة أسابيع حتي الآن أقوي وأعنف حركة احتجاج مرت بفرنسا منذ خمسين عاما متواضعا، متفهما للضغوط التي يعاني منها المواطن الفرنسي. خطاب الإثنين الماضي أتي في سياق مناورات الرئيس الفرنسي المستمرة من أجل الخروج من النفق المظلم الذي بات يشكل خطرا كبيرا علي مستقبل فرنسا. عدة وعود قطعها الرئيس علي نفسه ارضاء لأصحاب السترات الصفراء، أهمها زيادة المرتبات مع بداية العام الذي يبدأ بعد أيام قليلة بواقع مائة يورو. وإلغاء الضريبة علي من يتقاضون أقل من ألفي يورو في الشهر، وإلغاء الضريبة علي ساعات العمل الإضافية. زيادة المائة يورو التي وعد بها ماكرون تتجاوز النسبة التي كانت وزيرة العمل بالحكومة الفرنسية قد أعلنتها قبل خطاب الرئيس حيث كان من المقرر أن تكون ستة وثلاثين يورو فقط. استجابة الفرنسيين للخطاب كانت مختلفة، فالبعض شعر ببعض الراحة لما أعلنه الرئيس من إصلاحات، والبعض الآخر خاصة من مشعلي الحرائق من اليمين المتطرف واليسار المتطرف لم يقنعهم الخطاب ولا الوعود. ورأي المحللون أن ماكرون نجح في تبرئة نفسه في هذا الخطاب، لكنه لم ينجح في حل الأزمة، فقد تحدث عن تراكمات عمرها أكثر من أربعين عاماً هي التي أدت إلي هذا الوضع الاقتصادي الصعب. كما دافع عن نفسه بخصوص الإعفاءات الضريبية التي يمنحها للمستثمرين والتي طالب السترات الصفراء بإلغائها حتي يتحمل الأغنياء العبء الأكبر في فواتير الإصلاح الاقتصادي المطلوب، فقال "إنني أحاول جذب المستثمرين حتي يأتوا بأموالهم إلي فرنسا بدلا من أن يحملوها إلي بلد آخر". لكنه أكد أنه سيجعل الضريبة متصاعدة علي العقارات الفاخرة التي يملكها الأثرياء. هل سينزل أصحاب السترات الصفراء ومن يندسون وسطهم من مشعلي الحرائق، وسارقي المحال التجارية، والمتاحف يوم السبت القادم؟ أغلب الظن أن الإجابة هي: نعم. سيكون السبت الخامس علي التوالي الذي يشهد تظاهرات وأعمال عنف وتخريب، وتعدياً علي الممتلكات العامة والخاصة. فلن تخمد نار الأزمة المشتعلة في فرنسا بعدما ارتفع سقف المطالب، في الوقت الذي لا تستطيع فيه حكومة ماكرون ولا أي حكومة أخري أن تفي بها أو حتي بربعها!. شيء غريب أن يتكرر سيناريو ما سمي ب»الربيع العربي» بنفس التفاصيل السبت عطلة نهاية الأسبوع هناك مقابل الجمعة عندنا! سقف المطالب الذي يلامس السماء ويخاصم أي منطق، النفخ في نار الأزمة كلما لاح في الأفق أي نوع من أنواع التهدئة، دخول أطراف كثيرة، تمولها وتدعمها دول أخري لتوسيع نطاق الأزمة من أجل إضعاف فرنسا ثاني قوة اقتصادية علي مستوي القارة الأوروبية. الخسائر بالمليارات حتي الآن، يكفي خسائر السياحة خاصة في موسم الإجازات الكريسماس ورأس السنة التي تشهد ذروة أعداد السائحين في فرنسا، ناهيك عن خسائر النهب والحرق والسرقات التي انتشرت وطالت أماكن عديدة في الشانزليزيه والشوارع الرئيسية بباريس. الوضع في فرنسا مقلق، ليس لدول أوروبا فحسب، هؤلاء الذين يخشون سريان موجة السترات الصفراء ووصولها إلي بلادهم، لكنه مقلق لنا نحن أيضا كدول عربية عانت وقاست الأمرين من مؤامرة الهدم والتخريب تحت اسم »المطالب المشروعة». سألتني قارئة بعد نشر مقالي الأسبوع الماضي: هل يؤثر ما يحدث في فرنسا علينا في مصر؟ قلت لها إن الأزمة الفرنسية والخسائر الرهيبة علي أثرها كانت لها نتائج وخيمة علي الاقتصاد العالمي، ومصر باعتبارها دولة صاحبة اقتصاديات ناشئة سوف تتأثر بالضرورة من جراء ما يحدث في فرنسا. العالم لم يصبح قرية صغيرة كما كنا نشبهه من قبل، لقد أصبح غرفة واسعة ذات سقف عالٍ يتردد صدي ما يحدث في أي ركن من أركانها، فترتج جدرانها جميعا. شيء محزن أن تئول الأمور إلي تلك النقطة الحرجة، لإنه كما قال ماكرون في خطاب الإثنين الماضي "المطالب مشروعة.. لكن العنف غير مبرر"!.