لم يخلع أبي عمامته من رأسه ولا قرويته من لسانه، ولا أثر فيه تعلم أولاده تلك اللغات الأجنبية، ولا تلك الرطانة التي تختلف بها ألسنتهم في حديثهم، تكثر في كلامهم مع بعضهم البعض وتندر حين يكون أحد أبويهم طرفاً فيه. تغيرت عمامته كثيرا فصارت أكثر بهاءً مما عهدناه منه في صبانا وأكثر قيمة، ذلك أنه صار يشتري ما يراه مناسباً لرجل علَّم أولاده أحسن ما يكون التعليم، وأدَّبهم أحسن ما يكون الأدب، فصار يتباهي بهم في مجلسه بالقرية النائمة تحت سفح الجبل. خلت ذقنه من ذلك الشعر الخشن المتداخل بياضه في سواده كغيمة محملة بنُذر مطر تغشي وجهه معظم أيام الأسبوع فلا تنقشع إلا صباح الجمعة استعداداً للصلاة ثم لا تلبث أن تزحف قليلاً قليلاً بعدها، وهكذا دواليك علي مدار الأيام والأسابيع، تغير وجهه فما عادت تغشاه تلك السحابة سوي يوم أو يومين وقد فارق سوادها بياضها فصارت غمامة صيف، بلا مطر، صُنعت من قطن ناصع البياض. أيضاً، فارقته بعض أسنانه فأسفر صدغاه المتهدلان عن فراغات ملأت فكيه، لا يردهما إلي حالهما السابق إلا إذا ألقي فكيه الاصطناعيين داخل فمه، بعد أن يخرجهما من كوب الماء وينظفهما بفرشاته أحسن ما يكون التنظيف، لحظتها يرد الصدغان الضامران المتهدلان إلي سابق عهدهما رداً جميلا فيصبغان وجهه بشيء من حُسن يُسلب كلما خلع فكيه الاصطناعيين. إلا الهدوء الذي لم نعهده فيه صغارا، كان أكثر ما شدني إلي أبي، ذلك أنه كان في شبابه سريع الغضب، يضيق خلقه ونفسه إذا كثر من حوله الجدال والصخب، أو جاءت درجات أحد أبنائه، وغالبا ما أكون هذا الابن، دون مستوي توقعاته، أو نسيت أمي طقساً من تلك التي اعتادها، بداية من كوب الشاي باللبن مع الإفطار وانتهاءً بفخارة الزبادي بعد العشاء، حينها، يُهدر صوته عالياً طاغياً فوق كل صوت كأنما يوم قيامة وإذا هو قائم ينفخ في الصور، حينها، تخفت الأصوات فلا تسمع إلا همسا، وتنحني الجباه ريثما تمر العاصفة، وتمضغ الأفواه الكلام فلا يغادر الشفاه، ريثما يهدأ الإعصار. يلوح بقبضته في الهواء، قبضة استمدت سُمرتها من طين أرضه، وصلابتها من صخر الجبل القائم عند أطراف القرية. راح كل هذا. ذهب. اختفي خلف سنوات العمر التي ابتلعها الزمن يوما إثر يوم. رأيت أمي الضعيفة الواهنة ترده رداً جميلاً فلا يُعقب، وتسأله الرأي فلا يغادره هدوؤه ولا تتعكر سكينته، ولا يكف إصبعاه، السبابة والوسطي، عن تحريك حبات مسبحته الخشبية، بينما ذراعه اليمني ممتدة مستندة علي ركبته طاويا ساقه اليسري أسفلها، ثم يتمتم (اللي تشوفيه)، فتعقب (الرأي رأيك)، ثم تمضي إلي ما عزمت هي عليه. الرأي رأيك، هذا ما تبقي من رد فعل أمي تجاه ما يصدر عن أبي، لكن الزمان تغير، كانت تقولها بصوت كله خشية وقلق وقت يثور ويهدر ويرعد، لكنه الآن يجلس علي الأرض، مُتكئاً بظهره إلي جدار الصالة مولياً ظهره لشعاع الشمس المنزلق من الشباك المطل علي أرضه، يغمس بعضاً من قراقيش جافة في كوب الشاي باللبن ثم يلوكها مفطراً راضياً حامداً شاكراً. أسدٌ عجوزٌ مسالم ألزمه الزمن الجلوس أمام عرشه والتطلع إلي زوجته تصرف أموره، تستشيره من باب الأدب، لكنه يعي تماماً أنها هي صاحبة الأمر والنهي وليس هو.