»فجأة يجب أن تترك منزلك في غضون دقائق أو بضعة أيام، يجب فورا أن تغادر حياتك التي اعتدت عليها، ذكرياتك، أشياءك، ماضيك، طفولتك، أصدقاءك، أو أهلك، وأن تذهب بعيدا إلي مكان لا تعرف عنه شيئا، وفي نفس الوقت أنت مجبر أن تعيش فيه، ومجبر علي التأقلم سريعا، وأن تنسي كل شيء، فهذا هو الحل والمصير الذي إذا لم تواجهه ربما ستموت أو سيكون لك مصير أخر، ولكن المصير الأخر سيكون في نظرك قاسياً لأن حياتك قد تبدلت تماما، ومن الصعب أن تعود كما كانت، وأنت الآن في حاله حرب مع ذاتك هل تستكمل حياتك التي دمرت في وطنك المدمر أم تلجأ إلي مكان أخر؟! وقد تقف حائرا لا تدري ماذا تفعل ولكن الوقت ضيق فلا مجال للحيرة، ويجب عليك اتخاذ القرار، وقرارك سيكون في أغلب الأحيان هو اللجوء ونسيان كل شيء كان جميلا». كان هذا جزءاً مما عبر عنه أحمد الجندي في كتابه (حالات مبهمة) الصادر عن دار (كيل التركية). أحمد الجندي كاتب سوري من مواليد محافظة الحسكة، تحديدا من مدينة عامودا، عضو في جمعية إغاثة اللاجئين السوريين في أزمير، شارك في العديد من الفعاليات والمهرجانات الشعرية في العديد من المدن التركية. له مسرحية بعنوان (وطن علي أعتاب الغرباء)، ترجمت إلي التركية ، ومثلت علي خشبة المسرح في أزمير، ولاقت اهتماما واسعا من الإعلام التركي في 2017. قدم الكاتب عددا من أوجه الاغتراب في عدة حالات، تتنوع مابين الريبة والغثيان والضجر والشوق وغيرها من الحالات التي عرضها الكاتب بأسلوب فلسفي محدد وصادق لأبعد الحدود. في »حالة إلهام» والتي شعرتُ أنها أضعف الحالات من حيث الفكرة، عرض الكاتب فكرة المواطنين الذين يتعرضون للهجمات في منازلهم بسوريا، وشعورهم وكيف يرون المسلحين الذين يهاجمونهم، وكيف تبدو عيونهم فيقول:- »كانوا يشبهوننا يا أبي بشر مثلنا. إلا أن عيونهم كانت متوهجة، وكأن تعويذة أذهبت عقولهم. كانت سيماءهم قبيحة مليئة بالشر ونحن كنا خائفين». أما في »حالة غثيان» ذكر الكاتب إلي أي مدي يثير السفاحون الغثيان، وفي »حالة أمل» عرض فكرة تعوّد الإنسان أثناء اللجوء علي الأشياء التي تعذبه. حالة »ألفة تلي الاغتراب» من أجمل الحالات التي عرضها الكاتب، حيث أظهر لنا كيف أن اللاجئ حين يموت يظل يفكر أين سيدفن؟ ومع من؟ وهل سيكون هناك جوازات سفر مثلما يوجد في الحياة في ظل الغربة والوحشة؟!! من أمتع الحالات أيضا كانت »حالة مبهمة» وهي حالة غير مفهومة، وكأنه يشرح ضياع الإنسان ووحدته عن طريق كلمات بسيطة فيقول:- »مرآة لا عيون لها، ليل حائر، أصابع تمسك بأوتار لحن نشاز، تبث في الفراغ أصداء معزوفة مازوشية، والنار تنهش في جسد اللوحة التي استوحتها من وحدتها، في ذاك الفراغ تبرق فكرة أن تحرق لوحتها». وفي »أزمير» يقدم الكاتب فكرة محاولة التأقلم في بلد لا يعرف حتي معني اسمها ولا لغتها فيقول : »وكأن الليل ما خلق لي، أنا المسافر كل ليلة ، شاردٌ عن نفسي، أبحثُ عما يهدئ قلقي، أيُ مسافرٍ أنا كل ليلة، أيُ قلقٍ يؤرقني، كلَ ليلةْ أنظر إلي بحر مدينةٍ لا أعرف عنها شيئًا سوي اسمها حتي معني اسمها لا أعرفهُ، أغيبُ في لُجة موجِ بحرِ المدينة، أتسكعُ في شوارعها التي لا أعرفُ أسماءها، أُغيِّب نفسي في أقبيتها علّني أصلُ إلي جوهرها، عبثٌ تأمُلي في هذهِ المدينة التي لم أعتد عليها، والتي أحاولُ أن أعتادَ عليها.» »حالة ما بعد الكمان»، و»ابنة الحانوتي » كانوا بالفعل - بالنسبة لي - حالات مبهمة، فالكاتب يذكر أشياء، وأشخاص، وأحداث، دون هدف واضح، وكأنه يعبر عن تشتت ذهن اللاجئ. »حالة ضجر» وصف فيها الكاتب الضجر بدقة وعمق وما يمكن أن يفعله بالإنسان، خصوصا في ظل الاغتراب، ووُفقَ في ذلك فيقول: »أنا الضجرُ. أنا الهباء. أنا المجون. أنا العشق. أنا الرخاء. أنا الجنون. أنا الليل كنتُ أنادِمهُ. والنجمُ كان لي عيون. أنا البعدُ، بين يأسي وأملي. أنا الحبور. أنا الأنين.. أنا المُترع بتناقضاتي. أنا الابن العاق. أنا الأب الضال. أنا الشريد. أنا الحنين، ما اختبرت شعوره. أنا الريحُ، هي من توجهني. أنا العاصفة. أنا السكون. ف أنا الهباءُ. أنا الفراغ. أنا اللا شيء، سوي لاجئ». ويستكمل : »ما يفعلهُ الضجرُ بي، جديرٌ بي أنا اللجوج المُذعنُ لقدري. لجوجٌ في الهباء، مُذعنٌ في الهباء. أنا الأمس هو اليأس المُتخم بالهراء، ضجري. أحملهُ، أجملهُ، أهيئ لهُ ما استطعت ليكون كما أريدُ له أن يكون أنساه حيناً، وأحياناً أتناساه يهزُني، يُرعشني، يُجلجلني حتي لا أنساه أهدهده ليلاً، فيتركني أهنأ بالنوم ساعات، ثم يباغتني في الصباح وكأنهُ أصبح ظلي. كأنهُ أصبح لي هواء. أستنشقهُ فأزفرهُ، ثُم أستنشقهُ ضجري. ذاك الكليلُ المليل ذاك السقيمُ العليل ضجري. حين أعنفهُ صارخًا ينفجرُ فيَّ ضاحكًا، كونيَّ غرٌ في الصراخ يأتمْنُني علي سرهِ يمنَعني عن البوحِ يُغرقني في النواح، هو لا يعرف حدًا، وفيه كل شيء مُباح ضجري. حين أكون وحيداً أتأملهُ، أُقيسُ حجمهُ أحيانا يَسعُ الكون وأحيانا لا يسعُ شربة ماء. فأنا المدينُ لهُ ببقائي وأنا الناقم عليه. صنعتُ أكوانًا لأبعده صنعتُ المستحيل لأبقيه. فلولاه لا وجودَ لي ولولاه لا وجود لي.» نجد في »حالة وطن» أن الكاتب يصف حال اللاجئ، وما آل إليه، فيقول: »بعيدًا عن غرفتي حيثُ أقفُ في طابورٍ طويل أنتظرُ دوري كي أصلَ إلي الكوة التي تُبادلنُي نقودي بأرغفةِ عجين لم ترقَ لتكون خبزاً. حالةٌ من الفوضي حولي، حالةٌ من الصخب الذي لم أعتد عليهِ في غرفتي، حالةٌ من الهلعِ وعدم التركيز تنتابُ القائمينَ علي تنظيم الدواب، الذين أنا بينهم، حيثُ نتناحرُ في أماكننا، وكأننا موجٌ أحمق، موجٌ ليس لهُ قوانين ومبادئ ترتطم بكل الجهات. أبتعدُ -بشرودي- عن فوضي الحالة لا أستطيع لأن البرد الذي يفتكُ بقدمي يسدُ طريقي. أهرولُ في مكاني مُحاوِلًا اللحاق بالدفء -الذي يبعدُ عني أميالا- في تلكَ الغُرفة التي أجمعُ فيها كُلَ ما يُحرق، أشلاءَ وطنٍ مُمزقٍ، بقايا خيبات المسحوقين، خياناتُ عملاءٍ، روثَ حيوانات، وأغصانَ أشجارٍ مُنتهكةٍ، لِأجعلها وَقودًا لنارِ مدفئتي». ويقول أيضا: »في فضاءٍ عابقٍ برائحة الروث ألملم بقايا نشوتي، أنكسُ أعلامي التي كانت بيضاء قبلَ أن يغطيها لونُ الطينْ هنا». يصف أيضا ما آل إليه وطنه فيقول: »في وطنٍ بات فيه طعمُ الحليب يغلفُ برائحة الحشيش. والألعاب التي كنا نلهو بها لمَّا كنا صغارا باتت أسلحةً ومتفجرات. هنا في هذا الوطن الذي بقيت البراءةُ الوحيدة فيه هي الموت، حيثُ هناك في العالم السفلي تتعرفُ علي الملائكة التي لم يُصَّدر إلي عالمها رائحة الحشيش، ولا الأسلحة، حيثُ الجمارك والحدود لا تسمح بدخول ما هو ممنوع. والرقابة فيه جدُ صارمة، وحدهُ هذا الوطن حدودهُ مكشوفةٌ للمارقين». ويستكمل، والأمل يحدوه رغم كل شيء: »في وطنٍ مُطلٍ علي خندقٍ رحب مليءٌ بالهزائم هزائم مرسومةٌ. بأيادي ضالعةً في رسَمِ أقدارٍ يائسة..... أصرخُ...... سحقًا يا وطن........ وطنٌ متخمٌ بنباحِ كلابٍ ما كانت مسعورة... نباح كلابٍ أصبحت مسعورة.... وطنٌ باتت أشلائهُ تُباعُ، علي أرصِفة مومسات رخيصة وفي أزقة تفوح منها رائحة العفونة........ مزقوك يا وطني............. وطني الذي كنتَ مطيةً للغاصبين والخونة..... وبتَ خاضِعًا للقوادين وسماسرة العهر، سأحفظُ ذكراك التي رسمتها في مخيلتي ككلِ وطنٍ يشرقُ فيه قوسُ قزح خالدًا في قلبي، ستبقي فيك أزهارٌ وألوان الربيع، زاهيا كما كنت أتصورك،َ حتي ولو كنتَ في أحلامي.» في حالة أخري بعنوان »حالة ذكري» يعرض الكاتب مدي رغبته في أن تعتاد نفسه كره الوطن، وأن تتناسي روحه ذكرياته الجميلة فيقول: »... (ربما يكون اسم ذاك المكان - عامودا) هيأتُ نفسي ذاتَ يوم للرحيل، عنيتُ أن يكون رحيلي جذريًا. ولم أفكر بشيءٍ سوي تجهيزات الرحيل، الرحيل و اللاعودة. شحنتُ ذاكرتي بكل الذكريات التي تنفرني من ذاك المكان. ورحلتْ، رحيلًا أبديًا، متجاهلًا هاتف حنيني. الآن وبعد مرورِ دهورٍ أحنُ إلي ذاك المكان. ذاك المكان المترع بذكرياتٍ متناقضة عن آلامي وعن أفراحي. ذاك المكان المُتفسخ من فرط الهتك المُمارس من قبل ساكنيه. ذاك المكان المُحطم والأصيل المُشبع بتناقضاتٍ غير متجانسة. شرِسٌ ووديع، خصبٌ وضحل، سطحيٌّ وعميق، عفويٌّ ومُعقد. ذلك الشبهُ مكان أو المُتشكل علي أنقاضِ مكانٍ غابرٍ أصيل. أحمّلُ نفسي بجراحِ ذكرياتٍ، كي تأبي نفسي، ذاك اللامكان». ويستكمل:- »أُعاقبُ نفسي، بذكري خيبةٍ قديمة. وأتركُ روحي، شريدةَ المكان» »حالة ريبة» هي حالة ملل شديد وتفكير، فاللاجئ يدور بين الغرف، ويحاول أن يقرأ، لكنه لا يستطيع فعل شئ سوي تناول سيجار. »حالة شوق» وهي حالة اشتياق إلي الوطن، فمهما كان الوطن البديل جميلًا وخلابًا فهو لا يساوي شيئا، مقارنة بوطن الإنسان الحقيقي، فيقول وهو يعقد مقارنه بينهما: »أنا الأرض، والأرضُ هنا، وهنا الأرضُ تميد، أنا الوطن، والوطنُ هنا، فهناك الوطنُ بعيد، هنا الماءُ أحملهُ بين أصابعي فيستحيلُ إلي سراب، والأملُ يغشوهُ الضباب، لا الماءُ ماءٌ هنا لا لعذوبتهِ إلا أن لساني حَنَ إلي ذاك الماءْ، لا الخبزُ خبزٌ هنا لا لذته فرئتي اشتاقت ذاك الهواء........ هنا خيمةٌ تحميني من المطر إلا أنها لا تقيني برد الشتاء، هنا شجر، هناك شجرْ، هنا ظل، هناك ظل، إلا أني اعتدتُ أن آخُذَ قيلولتي في ذاك الظل، هنا بحرٌ ،هناك بحر، إلا أني اشتقتُ الصيد في ذاك البحر؛ فالسمكُ هنا عنيد، وعيني حنتْ إلي تلك السماءْ، ليتهُ يكون، فحقًا مللتُ من التشرد حقا تعبتُ من الالتجاء». »حالة تأمل» ويذكر فيها الكاتب أن بإمكان براءة طفله الصغير أن تزيح قليلا حالة الضجر من إنسان فقد وطنه. »حالة ما» وهي حالة تشتت ما بين هروب اللاجئ من ذكرياته تحديدا أخطاءه وماضيه، وما بين واقعه الحالي فيقول: »أجلسُ هنا في غرفتي، مُتأمِلًا، مُتفكِرًا في كُل الأحداث، التي جرتْ، والتي تَدورُ مِن حولي. أحاولُ تفكيكَ تفاصيل الأحداث، دونَ جدوي، فأرجعُ إلي تركيبها، علَّني أتوصل إلي كيفية التعامُل معَ تلك الأحداث، معَ هذه الأحداث، لكن دون جدوي أيضا. فأعود إلي تأمُلي، باحِثًا عن نُقطَةٍ تّوصلُني لفهمِ ما يحدُث، وهنا يبدأ صراعي الأزلي، معَ اللا مُمكِن - بالنسبةِ لي». ويتذكر البطل وسط تلاطم أفكاره خطأه عندما تخلي عن حبيبته فيقول: »ألمحُ طيفًا، غريبًا، أليفًا، عالقًا بزاويةِ ذاكرتي السوداء، أحاولُ تفادي ذكري ذاك الطيف. مُهوّنًا علي نفسي مشقة تلاطم أفكاري - دون جدوي - يتكررُ ذاك الطيف مُلحًا مؤًّججاً سعير أفكاري. هذا الطيف المتعلق بماضٍ كنتُ فيهِ عابقًا بروائح الأنانية. تلك المرأة الخرافية بجمالها، الملائكية بروحها، أضعتها برعونتي، بحمقي. أصر علي تجاهل تلك الذكريات، فأخرجُ من غرفتي، محاولًا الانشغال بأمورٍ أخري». في »حالة سلام» يعبر الكاتب بطريقته عن الحكام الديكتاتوريين، الذين ملأوا العالم خرابا، وأشعلوا الحروب، فقدم الكاتب كل حاكم وهو يخاطب شعبه بكلام معسول، فيقول:- » لن أهدم أسوار طروادة، يقولها أجممنون. لن أرمل نسوة المدينة، ولن أيتم أطفالها، لن أحرق روما، يقولها نيرون، وإنما سأزيد من صروحها. لن أغزو العالم يقولها ألكساندر، وإنما سأزرعه أشجار سنديان. لن أدمر العالم، يقولها هتلر، وإنما سأملأه ألعاب أطفال. تنتهي المسرحية، ينزل أبطالها». ثم في النهاية يتغير المشهد تماما فيقول: »تبتعد الكاميرا لتأخذ مشهدا عاما، خشبة المسرح متهدمة، والجمهور جثث متفحمة. تبتعد الكاميرا أكثر، المدينة كلها محترقة. تبتعد أكثر ، القارة كلها محترقة. تبتعد أكثر، منظر من الفضاء، يتصاعد دخان خانق، من الكرة الأرضية. قد تكون فذلكة سينمائية، إلا أن مشهد تدهور الكرة الأرضية نحو الأسفل يبدو واضحا». يتحدث الكاتب بلسان الحاكم فيقول: »وأنا أبحثُ عن الخلود صنعتُ المال لأجل المال، خلقتُ الحروب لأجل الحروب، بعتُ روحي، لم أغنِ أغنية تُخلدني بعد موتي، لم أعزف لحنًا يبقي صداهُ بعد موتي، لم أزرع شجرة أغصانها تطالُ السماء، بل قطعتُ كل الأشجار لأجلِ حروبي. كلُ الأغاني كانت تمجدُ حروبي، كل الألحان كانت مارشات علي مقاس حذائي العسكري، متُ وكل أموالي ذهبت أدراج الريح كلُ أغانيَّ - نُسيتْ، لركاكتها، مارشاتي نُسيتْ إيقاعاتها». وذكر الكاتب أن الخلود لا يتم إلا بالسلام، فيقول:- »وأنت إذا أردتَ الخلود فغني للسلام، كي تسمو روحك في السماء». في الواقع هي ليست مجرد حالات مبهمة، بل هي حالات واضحة جدا، لمن عايشها، وهي قضية إنسانية لم يتم الحكم فيها حتي الآن.