ظهرت قصيدة النثر بقوة في بداية ستينيات القرن الماضي مع مجموعة من الشعراء الذين أرادوا كسر القديم وإيجاد روح جديدة في الكتابة، نحو أنسي الحاج ومحمد الماغوط وتوفيق الصايغ وأدونيس بعد ذلك. وقصيدة النثر هي قالب نثري موجز ومكثف جداً تكاد تشترك مع القصة القصيرة في التكثيف، ليس لها قافية ولا وزن بل لها موسيقاها الخاصة الداخلية وإيقاع منفرد بها وإيحاءاتها ليس لها حدود، وبها غرائبية في الصورة وتحتاج إلى فهم عميق، وقصيدة النثر جاءت لتكتشف القيم الشعرية في النثر، وتختلف قصيدة النثر عن الشعر الحر في أنها تفتقر إلى التقطيع بينما يلتزم الشعر الحر الفراغات في نهايات المقاطع الشعرية، ثم تستمد قصيدة النثر قوتها من بنية الجمل.. كما أن قصيدة النثر تتسم بالتشظي والتشظي هنا من قبيل الفوضى المنظمة التي تفتت لتلتحم وتهدم لتبني. وكذا التفاعلية فهي تتماهى وتتفعل مع شكل من أشكال الفنون وهو القصة القصيرة.. وأيضاً الذاتية لأن الشاعر يتحدث عن نفسه وذاته وعن العالم من خلال ذاته. تتسم أيضاً قصيدة النثر بالإيقاع ذلك الإيقاع الخفي الذي ترصده الروح ويسمعها العقل ذلك الإيقاع المرتبط بالشعرية. ومن الطبيعي أن تتسم قصيدة النثر بالتعقيد لما نحن عليه الآن من تعقيد في حياتنا لأن القصيدة هي نتاج الحالة الثقافية والفلسفية التي نحياها الآن، وبما تنتجه العولمة، وتأتي المشاركة باعتبارها سمة أخرى من سمات قصيدة النثر أي مشاركة المتلقي للمبدع في انتاج آخر للقصيدة أو إكمال القصيدة وفق رؤيته لها، فالمتلقي أصبح مشاركاً للمبدع في إنتاج أبداعه وهي مزيَّة من مزايا قصيدة النثر والقصة القصرة وبعض الأنواع الأدبية. وديوان " حارس الوجع" الذي بين أيدينا للشاعر محمد منصور، هو قصيدة نثر وهو الأول له، عبَّر فيه عن تجربته الشعرية تجاه الوطن والحياة والواقع والناس والمحبوبة، وكأنَّه يرصد تلك الأحداث التي عاشها مع ذلك الواقع المعيش، مشرِّقاً ومغرِّباً فهو من صعيد مصر الأصيل وجاء شعره معبِّراً عن تلك الأصالة، وقبل أن نخوض في تحليل الديوان نحاول قراءة الغلاف وبعض العتبات المهمة، مثل الإهداء والمقدمة، ذلك أن هذا الغلاف للفنان التشكيلي المعروف الأستاذ محسن منصور وقد جاء معبِّراً عن الديوان الذي حمل عنوان "حارس الوجع" فهو لوحة زيتية جاءت بألوان متعددة لدرجات القتامة والألم من الأزرق القاتم إلى الفاتح مع وجود العنوان باللون القريب من لون الدم إشارةً إلى الألم الذي تناوله الشاعر في الديوان.. أي أن هناك إشارات بين العنوان والنصوص وبين الغلاف والنصوص الموجودة بالديوان ومن هنا فإننا نستطيع أن نقول إن غلاف الكتاب جاء نصّاً موازياً " le para text " أي أنه عبَّر عن العمل من خلال الرسمة وكما نعلم أن الغلاف مدارس ثلاث أولها أن يكون الغلاف ترجمة للعمل وثانيها أن يكون نصَّاً موازياً له، أما المدرسة الثالثة فهي مدرسة المباغتة، وهو ما نراه كثيراً لدى الألمان. وقد بدأ الشاعر ديوانه بإهداء وهذا الإهداء يعتبر بمثابة رد الجميل ولا بد وأن نعرف أن هناك فارقاً بين الإهداء المطبوع في العمل وهو الإهداء المعنوي وبين الإهداء الذي يقوم الكاتب بكتابته بعد الطباعة لإهداء نسخة منه إلى صديق أو قريب، فالإهداء المطبوع هنا على الكتاب جاء لشخصين أعتقد أنهما عزيزان على الشاعر الأول منهما الأستاذ سيد جمعة وهو أديب وكاتب وناقد له باعه في هذا المجال وكذلك أهداه إلى صديقه محمد أحمد إسماعيل وهو من قام بمراجعة وتدقيق الديوان.. ومن الطبيعي أن يكون إهداء العمل إلى مَنْ قدَّم معروفاً للشخص نفسه، وأن هذا الإهداء قد يكون للعام وقد يكون للخاص والعام يقصد به الوطن والبلاد أما الخاص فهو لخاصة الكاتب من الأهل أو الأحباب المقربين منه وإذا أهدى العمل إلى شخص يعتز به فهو يذكر السبب في ذلك كما أنه ذكر أن الإهداء "إلى كل من أضاء شمعة بددت ظلامه" أي غيرت حاله من اللاشيء إلى الشيء نفسه، وإلى كل شخص قد منحه محبة صادقة دون رياء أو نفاق. وقد أعقب الإهداء بمقدمتين غيريتين إحداها للأستاذ السيد جمعة الناقد والشاعر والثانية منها للفنان التشكيلي الأستاذ محسن منصور وفي هاتين المقدميتن دَفْعَةٌ كبيرة من هذين العَلَمين لكي ينهضا بالشاعر وكيف أن هاتين المقدمتين تعتبران من الأهمية بمكان فقد وضحتا خلاصة هذا الديون وقدمتا الشاعر إلى الجمهور، وكيف أن هذا الشاعر قد قرأ كثيراً كي يقدِّم لنا هذا العمل وأنه تلميذ مخلص للشاعر الراحل أمل دنقل، فضلاً عن احتضان صالون الفنان محسن منصور لهذا العمل وتبنيه رغبة منه ومن صاحبه أن يعلي من شأن الكلمة الجيدة والوقوف بجوار الشعراء الشباب، وكان الصالون محقاً في تبنيه لفكر الشاعر وطباعة هذا المؤلَّف فكل قصيدة تعطيناً ملمحاً جيداً ينم عن عشق الشاعر للكتابة والسعي نحو اختيار ألفاظ بعينها تنجذب إليها الذائقة الشعرية، وهذا هو دور الصالونات والملتقيات الأدبية لاكتشاف المواهب الشابة. وقد استمعنا إلى هذا الشاعر في صالون الفنان محسن منصور وكان مجيداً في إلقائه فضلاً عن اختيار كلماته المناسبة للحدث الذي يتناوله، لذلك ورغم بعض السقطات البسيطة في قصائده فإن الشاعر لديه حس أدبي راقٍ يتجلى في هذا الديوان والذي أعتبره الانطلاقة الأولى للالتحاق بصفوة شعراء قصيدة النثر. يطل علينا الشاعر بقصيدته الأولى والتي حملت عنوان "إنه القدر" وكأنه يقول ما يحدث لنا من تدبير القدر، والقدر هو ما يقدره الله لنا ويستدعي مع القدر ذلك القدر الآخر الذي اكتشف من خلاله الجاذبية الأرضية من خلال سقوط التفاحة، وعلى الرغم من هذا السقوط الذي علمنا كثيراً فإنه قد يعقبه نجاح، ففي السقوط علمنا تلك النظرية العظيمة "قانون الجاذبية" فليس معنى السقوط هو الهاوية والرضا بالأمر الواقع لأن في سقوط التفاحة كان فيها الخير الكثير للبشرية فليس معنى سقوط الإنسان في أمر ما هو نهايته بل قد يكون سبباً في نجاحه وكما يقال لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة، وقد تعثر الشاعر في حياته بأشياء قد تكون في حب عاثر ذاق ويلاته بعد أن هجرته تلك المحبوبة، وقد يكون تعثراً في الحياة من ألم أصابه نظير الفقد أو الوجد أو شخص عزيز عليه لم يتوقع منه ما حدث له. أمور كثيرة تحويها قصيدته "إنه القدر" فجميعناً يسير في حياته وهو مدرك أن عليه أن يأخذ حذره مما لا يعرفه أو من ذلك البعيد الذي قد يطوله وقد يسبب له آلاماً عديده: إنه القدر نمضي في الطريق بلا حذر كأننا نعرف ما المنتظر فتعصف بنا الريح كأوراق الشجر ولا خيار لنا إنه القدر وتناول الحديث عن القدر وما يفعله بالإنسان يجعله يرضى بما يلقاه، ذلك القدر الذي جعله يصدِّر الديوان بخمس جمل ينثر من خلالها ما تبقى منه على ذلك المكان والحقل المحتضر، وتبقى شاعرية النصِّ في أن ذلك الذي نثره سينبت وروداً فيها تسامح ونبل أخلاق فيها عبق الرائحة الجميلة التي تسافر عبر فضاءات مختلفة فربما ترشد تلك الفراشة الجميلة التائهة، ويحملها على العودة إلى ذلك القلب النابض بحبها وعشقها. وعن القدر وما يحمله لنا فقد يتمنى الإنسان أشياء، ولكنه لم يستطع تحقيقها، كما ذكر شاعرنا "ولا خيار لنا إنه القدر" ليتناص في هذا القول مع قول أمير الشعراء أحمد شوقي، والفرق هنا أن الشاعر جعل هناك وسيلة لعدم الاستسلام وهو الإسراع من أجل الفعل نفسه ومن أجل التحدي: وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا وما استعصى على قوم منال.. إذا الإقدام كان لهم ركابا وفي قصيدة " تلك الرواية" نراه يحكي قصة حياة فيها من الألم الكثير، إنها رواية الحياة وما بها من ضجر، تلك الرواية أو الحكاية التي تحكي عن ذاك الرجل يضحي من أجل الآخرين فعامه بألف عام ينير الطريق للسالكين وقلبه من الحب ينفطر من أجلهم، لذلك فإن هناك صعوبةً في الحكي عن ذاك الرجل الذي جفت بسببه حبر الرواية بالضبط مثلما، تجمدت الدماء في عروقه بسبب ما عاناه في حياته من آلام وأحزان ، فالحكاية عميقة وبعيدة لذلك يسأل عمن يستطيع أن ينبش كنوزها المخبأة، عن تلك الروح الساكنة بداخله ليتعرف حقيقة تلك الممياء أي ممياء قلبه الولهان، فما زالت هناك راقدة تلك الممياء لذلك القلب الحيران: تلك الرواية التي أقرأها كأنها تتحدث عني تحكي عن رجل عاش عاماً بألف عام ويموت دون أن يموت قلبه معلق كمصباح ينير الطريق للمارة وروحه كغيمة تزور كلَّ مساءٍ روحَها ونرى الشاعر في قصائده العاطفية يتحسس خطى أمل دنقل في قصائده، ففي قصيدته التي عنونها ب"نجمة تغازل القمر" نرى النجمة والقمر إشارتين إلى الذكر والأنثى، وأن الشوق الذي يتملك الأنثى لا يطفئه إلا السحاب والمطر، لا يطفئه إلا الحب والعشق والغرام، فبهما تكتمل الحياة، فتلك النجمة المسكينة جلست من أول ليلها تناجي القمر وتغازله متسائلة ما السر في سحرك أيها البهي الأقمر ذاك الجمال الذي به تحلو الحياة ويكتمل السهر؟ فيبتسم في خيلاء واستدعاء النص القرآني فتبسم ضاحكاً لنسأل ما الفارق بين التبسم والضحك؟ فالتبسم هو بداية الضحك دون أن تظهر النواجذ أي الضروس الخلفية، والضحك هو انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان، أما وقت تبسم القمر ضاحكاً فقد حصل على الاكتمال فحين يشعر المرء بتبادل العشق والحب تكتمل بداخله الفرحة فأصبح القمر بدراً لتسأله النجمة أو الأنثى الحيرى هل من وصالك، فالعشق ألهب ما بداخلي ليتأكد أنها في حالة خطر ولا بد من الاكتمال وإطفاء ذلك الاشتعال بالقرب والوصال. ويوصل المحبوبة إلى درجة المالك لقلبه وحده فهو المليك بعد أن تجرد من كل غاية ووهب لها ممالكه ويفرش القلب بالورود عساه يفوز بنظرة تعطيه الحياة ليعرج بجناحي النظرة إلى مكانتها العلياء يرنو إليها ويحاول أن يقترب منها فحين يقترب منها يكون في الوقت نفسه قريباً من نفسه، لأنها هي نفسه التي يحادثها.. ويبدو أن القمر الذي قتل عند أمل دنقل ما زال حياً عن أحفاده من الشعراء وما زال نقياً يصارع الأهوال في العشق والغرام يقول الشاعر: في الهوى تجردتُ من كل غايةٍ ووهبت له كل ممالكي فكان وحده المليك وفرشت قلبي بالورود كي يليق به فعساه يرميني بنظرة تمنحني جناحين من نور أعرج بهما في السماء فأكون بالقرب منك.. وبالقرب مني. بكاؤه في "كالسماء" يتناص مع بكاء أمل دنقل في "براءة".. البكاء لدى الشاعر يقترب من البكاء لدى أمل دنقل فمحبوبة شاعرنا "كالسماء" حين تبكي مطراً فيموت مع كل قطرة حيث لم يستطع الحديث أو الإفصاح عن مكنون حبه فالصمت قاتل كما أن الليل موحش ومظلم وفي الوقت نفسه به سر عجيب أن ضحكتها تغيب مع ذاك الليل وأصبح الليل موحشاً مع ذاك الغياب، ومع عدم القدرة على اللقاء فحين لا تختبئ نفسها في نفسه فإنه الليل بسواده وظلامه، وبكاء الشاعر في عودته إلى نفسه فلم يجد نفسه التي هي في الوقت نفسِه نفسُها التي أصبحت تؤرقه، فدرجة الشاعرية تقترب من إدراكه بأن الليل يجثم إذا ما ابتعدت عنه سواء أكانت نفسه التي بين جنبيه أو نفس المحبوبة التي هي لديه كالسماء حين تبكي مطراً أي حين تجود السماء فهي المحبوبة في عطائها وفي سخائها، وإذا ما لاحظنا المعجم في قصيدة " كالسماء " وجدناه مليء بالألم والأوجاع فكلماتها تتوزع بين البكاء والموت والقتل والليل الموحش، فلم يعد يقدر على فعل شيء سوى الدعاء بأن يمنحها الله قلباً يمتلئ بالسكينة كي تنشر عبقها في الأرجاء ويسعد هو كبقية الناس بذلك العبق والمحيا الوضيء لتلك الأنثى أو البلد أو الوطن الذي يبحث عنه، وهذا البكاء وذاك استعطاف يذكرانا ببكاء أمل دنقل مع محبوبته، لأنه شعر بأن هناك ما يبكيني بسبب تلك العينين. يقول أمل دنقل في قصيدة "براءة": أحس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي أحس خطيئة الماضي تعرت بين كفيك وأهرب نحو عينيك فيا ذات العيون الخضر دعي عينيك مغمضتين فوق السرِّ لأصبح حراً وشاعرنا متأثر بقول ابن عربي حين يتحدث عن نفسه التي بين جنبيه وبينه هو أو بينه وبين الحضرة إيهاماً منه ومن صوفيته أنه يعشق ذلك الشيء يقول: إذا ما التقينا للوداع حسبتنا.. لدى الضم والتعنيق حرفاً مشددا فنحن وإن كنا مثنَّى شخوصنا.. فما تنظر الأبصار إلا موحَّدا ورغم ما به من ألم غياب المحبوبة عنه وعدم السؤال أو الرد، فإنه يبكي أيضاً في قصيدة حملت عنوان " الغياب " فالغياب نفسه فيه ألم ولوعة فعلى الرغم أنه يعلم أنها بعيدة عنه وتحاول الغياب والبعد إلا إنه يحاول في الوقت نفسه أن يخلق لها الأعذار ويعلل ذاك الغياب، لأنه يحيا تحت وطأة هذا الغياب وأصبح فريسة سهلة مزقتها تلك الأنياب فيستظل بظل أغنية حزينة يشعر معها بالغربة والأنين، لأنه أصبح سؤالاً بلا جواب، ويتمزق قلبه لأنه أصبح تائها في تلك المدينة بسب الغربة التي آلمته كثيراً والغياب الذي طال فقد تمزقت معه كل أشرعة السفينة التي من المفترض أن تقله إلى عالم العشق والهيام عالم فيه هدو وراحة واطمئنان ولكن هيهات هيهات، ما دام الوطن حاله هكذا فسيظل ممزق الأرجاء، لأن الوطن لم يعد وطنه والمكان لم يعد مكانه، بل إن هذه البلاد هي ليست لنا إنها بلادهم هم ونحن العبيد كما قالوا من قبل لذلك فقد مزقته الآهات والتنهيدات على صدر هذا الوطن العظيم، فأصبح غائباً لأنها هي الأخرى غائبة إنها وطنه العظيم " مصر " فمتى تعود مصر لنا متى تعود مصر لنا؟! هكذا يسأل الشاعر: كلَّ يوم تزداد غربتي في تلك المدينة في الغياب تمزقت كل أشرعة السفينة ويبقى السؤال عن أسباب الغياب؟ والإجابة ما زالت.. سجينة صراع الأنا يبدو أن الشاعر في صراعه من نفسه لا ينسى السبب في ذلك وهو الأنثى التي كانت وما زالت بداخله يحاول المقاومة، ولكن دون جدوى ظل الصراع الدفين بالداخل نراه يفتح نافذته ليطل منها على ذاته ونفسه فيرى في نفسه أشياء ليست أشياءه بل هي أشياؤها الباقية والمتناثرة هنا وهناك والتي آلمته كثيراً بسبب ذلك الفراق فأصبحت سواد ليل ينتشر بداخله، يظل ذاك الحب القديم بداخله ينغص عليه كينونته البشرية يوقظ كل ما فيه من مشاعر وأحاسيس، كلما داعب الكرى جفن عينه صحا وأفاق على رؤية ضبابية لحلم يحتضر حلم ذاك الوليد الذي شبَّ على طوقه دون أن يقترب ظل يهمس مع نفسه، لأنه لم يستطع البوح عن تلك الآلام ولم يحتمل.. إن تلك الآلام والآحلام التي كانت وما زالت تراوده عن تلك الفتاة التي سكنت فؤاده وجسمه بكل ما فيه لم يستطع الفكاك منها بل لم يستطع التخلص من أشيائها التي سكنت بداخله، إنه الصراع الداخلي الذي ينتابه بين الفينة والأخرى فلم يشف الغلة له إلا دموعه التي بها تنهمر الأوجاع وتتألم المدينة التي تسكنه تلك المدينة التي طالما ذكرها في أشعاره فالمحبوبة هي مدينته، والمحبوبة هي الوطن هي السكن هي المكان والزمان، إنها قصة حياته مع الماضي والحاضر إنها رواية بالفعل لم تكتمل رواية بها الأنين صدع يقول في قصيدة " بداخلي ص 29": أفتح نافذتي أطلُّ منها أشاهدني أتعمق في الرؤية بداخلي أشياء ليست أشيائي! بداخلي قلب غيرُ قلبي بداخلي أنا بداخلي أنتِ بداخلي أنا وأنتِ بداخلي سواد ليل ينتشر قصيدة "المدينة" وقصيدة "كانت لي حياة" وقصيدة "صرخة" كلها قصائد ثورة يناير2011، تلك الأنَّاة المعذبة هنا وهناك خرجت بآهةٍ مدوِّية من حلق الشاعر ليثبت بالورقة والقلم كلمة "لا" نعم يثبت كلمة "لا" للظلم لا للطغيان تلك ال"لا" التي أطلقها مدوية أمل دنقل في قصيدته "قالت لي امرأة في المدينة" تلك القصيدة التي تتناص مع آهات شاعرنا فالمدينة هنا وهناك وما يعتصر قلبها هنا وهناك، إنها المدينة التي سرقت المدينة التي حُبست، يبكي شاعرنا على تلك المدينة التي مات من أجلها أنقى الشباب وأطهرها على الإطلاق وبعد أن خمدت نار ثورتهم سرقها اللصوص والانتهازيون، تلك المدينة التي تزينت في عرس حريتها ومتى أعطيت المدينة حريتها؟ ومن الذي أعطاها حريتها إنهم أهلها، شبابها ولكنها لم ترتد البياض في عرسها بل تبددت الثياب فأصبحت سوداء قاتمة قاتلة تئن من الظلم والحزن والألم فلا حرية ولا عدالة اجتماعية بل قتل وتشريد وعبودية وسفك للدماء وما زالت مدينتنا في أيدي الذئاب بعد أن مات الشباب يقول شاعرنا في قصيدة "المدينة": في عرس حريتها ارتدت الأسود ومن عينيها جرى الدمع نيلاً يروي أرضها الحزينة فأضواء أفراحها قد انطفأت في المدينة وسارت نجوم في السماء تلمع كل مساء وكلمات الرثاء تعجز عن وقف نزف الدماء وإخماد أصوات العويل والبكاء وما زالت المدينة رهينة في أيدي الذئاب التناص يبدو في الألم الذي عشناه مع الشاعر محمد منصور هو الألم نفسه الذي عشناه مع " أمل دنقل " في قصيدته " قالت امرأة في المدينة " التي سبق أن أشرنا إليها فقد تناص شاعرنا في طرح رؤيته حول الألم مع أمل دنقل في تلك الرؤية السوداوية الكفكافية ، فالموت واقف على أبواب المدينة في "حارس الوجع" ينعى الحياة التي تصرخ في الوجه باحثة عن النجاة، وهي شاعرية فائقة تجلت في إبداع هذا الشاعر المتمكن من أدواته ونره أكثر وضوحاً حين ينشد لنا قصيدته "كانت لي حياة"، معنى ذلك أنه أصبح من الذين رحلوا أم أنه يقصد أن الحياة السابقة كانت أفضل مما نعيشه الآن فسعادته لم تكتمل بالأمس القريب، كانت هناك حياة جميلة له ولكن ونظراً للفراق سواء فراق المحبوب أو الشهيد الصديق فلم تعد الحياة حياة والسعادة تحولت إلى شقاء، فعاد إلى الماضي يناجيه ليحيا مع ذكريات الصبا والأجواء السعيدة لأنه في هذه الأوقات لم يعد لقلبه ذلك الوطن الذي آلمه كثيراً فأصبح شهيداً ليحيا من جديد، وأصبح الناي أيضاً هو المعبر عن تلك اللحظات المميتة.. يقول أمل دنقل في تلك المعاني في محاوله لتبيان أن شاعرنا قد تناص بالفعل مع هذا الشاعر العملاق أمل دنقل: فاشهد لنا ياقلم أننا لم ننم أننا لم نقف بين "لا" و"نعم" ما أقل الحروف التي يتألف منها اسم ما ضاع من وطنٍ واسم من مات من أجله من أخٍ أو حبيب هل عرفنا كتابة أسمائنا بالمداد على كتب الدرس؟ هاقد عرفنا كتابة أسمائنا بالأظافر في غرف الحبسِ إن معظم قصائد ديوان "حارس الوجع" بها ألم على الوطن المسلوب والقلب المحروق يكفينا أن نقرأ عناوين تلك القصائد لندرك تلك المعاناة.. "إنه القدر"، "تلك الرواية"، "لأننا افترقنا"، "قولي"، يا سيدتي"، "الشوق"، "بداخلي"، "الغياب"، "في الهوى"، نجمة تغازل القمر "الحرمان"، "الجريمة"، "لن أعود"، "المدينة"، "صرخة".. كما أننا نتلمس روح أمل دنقل في كافة قصائد الديوان نتلمس عدم المصالحة مع الأعداء، وإذا كان أمل دنقل يقصد السادات في قصيدته "لا تصالح" فإن شاعرنا يقصد عدم التصالح مع الخونة والمرتزقة. لا تُصالح! ولو منحوك الذهبْ أتُرى حين أفقأ عينيك، ثم أثبِّتُ جوهرتين مكانهما .. هل تَرى..؟ هي أشياء لا تشترى.
حين أراد التشكليون الروس وضع قوانين للخطاب الأدبي، كانت الشعرية هي القانون والحس والذوق الجمالي الراقي بعد ذلك؛ حيث تطور مفهومها في السنوات الأخيرة عبر مراحل مختلفة، وتناولته الأقلام والألسن، بعد أن كان أرضاً بكراً لم يطأها أحدٌ، فتعددت وتفرعت؛ فهناك الشعرية اللسانية، التي يندرج تحتها ثنائيات دي سوسير وشعرية التماثل لياكوبسون، والشعرية البنيوية، والتي يندرج تحتها شعرية الانزياح deviation لجان كوهن، وشعرية الفجوة: مسافة التوتر للدكتور كمال أبوديب، والشعرية السردية التأويلية، وهي بيت القصيد فيما يتعلق بدراستنا. والشعرية في أبسط معانيها قد تطورت وفق تطور مراحل الأدب، وبوصفها فرعاً من فروع المعرفة في العصر الحديث؛ فهي الخلق والتوليد والابتكار والإنشاء ومعرفة بواطن المعاني والدلالات الكامنة في النصوص؛ لذلك فإن اللغة الشاعرة – على حد تعبير العقاد- بما لها من قوة بيانية ودلالية قد استطاعت بناء حضارة شامخة ظلت آثارها وأصداؤها تموران وتجولان في عقول مثقفيها " فاللغة هي التي تمهد الطريق للحضارة، أو على حد تعبير الأديب التشيكي فرانز كافكا : إن الكلمات هي التي تمهد الطريق للأفعال وتثير انفجارات الغد . وبين اللغة والعقل الإنساني عطاء متبادل، فعلى حين يبتكر العقل ما يثري اللغة ويطور دلالتها، توجد في الكلمات صيغ سحرية تترك بصماتها المؤثرة على العقل وطريقة تفكيره لما شحنت به تجارب سابقة على مر السنين .. ومن هنا نستطيع أن نقول إن الشعرية قانون يحكم من خلاله، ومن خلال القراءة التأويلية، على الإبداع؛ لمعرفة الأبعاد الخفية، والمعاني الثانية لهذا الإبداع، متسلحة( الشعرية) في الوقت نفسه بأنواع المعارف السابقة وما يستجد منها.. وحين كنا نقوم بتحليل هذا الديوان وجدنا أن قصائد الشاعر تحوي العديد من أنماط الشعرية في استخدامه للغموض أحياناً وتشكيل الصورة الداخلية للفعل الشعري، وكذا الفاعلية وحالة التشظي الموجودة في ديوان "حارس الوجع" للشاعر محمد منصور سليم.