تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستعمرة الجذام

أعبر ضفة الطريق الذاهبة إلي القناطر الخيرية ومن ثم أقترب من الجزيرة الوسيطة التي تعلوها جبال صغيرة من القمامة الصلبة.. أقفز فوقها فأجد نفسي في منتصف الطريق الآخر الذاهب لشبرا الخيمة وتكاد سيارة تويوتا مسرعة ان تفرمني .. أتراجع وأتقبل سباب السائق المقذع علي مضض.. أحاول أن أزيل من قدمي آثار لمادة ما لزجة وعضوية وعفنه من بقايا القمامة التي تراجعت فوقفت في قلبها.. أعود لمسيرتي أنظر يمينا حيث تاتي السيارات المسرعة ويساراً حيث يمكن أن تفاجئني سيارة قادمة من الجهة المعاكسة .. أعبر بسلام بعد ان مسحت بقايا العفن من حذائي في رصيف الجزيرة.. يشير لي سائق الميكروباص الرمسيس القديم المتهالك بيده ورأسه معاً:
- مؤسسة يا ذوق
- مؤسسة يا أسطي
ادخل إلي الفرن الصاج الذي يسمونه سيارة ميكروباص وعيني علي ال” كنبة الآخرانية” في المقعد الأخير جوار النافذة.. لا أحب الجلوس بين الاجسام في المنتصف ولا أحد يحب.. ولا أحب جمع الأجرة وتجهيزها للسائق ولا أحد يحب أيضاً.. أحدهم يجلس في مقعد النافذة في أخر “ كنبة” ويسند بيده علي “مسند” الكنبة التي أمامه ويريح رأسه .. الحر صعب والناس نيام في عز الصباح من فرطه .. أدس نفسي في كنبة المنتصف في مقعد النافذة، ظهري للرجل النائم مباشرة.
دقيقة ويمل السواق من الوقوف أمام السيارة ومسحها والنداء مؤسسة ..مؤسسة ... لذلك يتوقف عن التوقف, ويقود السيارة وينادي في الجلوس الذين هم خمسة أحدهم في المقعد المجاور له .. واثنين في أول كنبة وأنا والرجل النائم في الخلف.. علي الأجرة... من الخلف يخبط الرجل النائم علي كتفي افتح كفي واستقبل منه جنيه ونصف “فكة”، اضمها لمثيلتها في يدي، ادفع بهم لمن أمامي بشكل عمودي تصل الأجرة للسائق الذي يجلس في خط مستقيم أمامي وأمام الرجل النائم خلفي.
من خلفي تنسحب ببطء يد الرجل وكلها جروح صغيرة دائرية .. يرعبني منظر القروح المنتشرة في الكف والذراع.. بشكل تلقائي أحاول النظر له لكني أتراجع حتي لا أحرجه .
في منتصف الطريق يقف السائق المتلهف إلي راكب جديد يكمل به سيارته من أجل سيدة تلف حول وجهها شال أزرق صغير .. تقترب فنكتشف أن وجهها محروق تماما ومشوه، قبل أن تضع يدها علي الباب الصاج يدير السيارة وينطلق هاربا منها .. يوقفني الحر الشديد عن التفكير في ما فعله، ولا أعرف ما الذي أسكت من حولي كذلك.. لكل أسبابه.
نصل للمؤسسة، يهبط كل من العربية إلي الساحة الواسعة التي غطتها الحكومة بمظلات من الصاج، في الاصل المؤسسة هي ميدان واسع به نادي المؤسسة العمالية، لذلك أسموا المحطة والميدان بالمؤسسة، لكنها أيضا تحتوي محطة مترو شبرالخيمة أول خط شبرا- المنيب، وكذلك محطة قطارات شبرا الخيمة، ولها ماضي صناعي عريق حيث إزدهرت بها صنا…..
الراجل ده عنده جذام
مين؟
الراجل اللي ساند وبيكح علي العربية الربع نقل هناك
جذام ازاي
ايديه بتتاكل حته.. حته .. وعينيه بتتااكل من الاطراف لحد ما بتوسع وتبقي عينين سمك
يدور الحوار جواري وأنا أسير وأكلمكم فالتفت …
وياليتني ما التفت…
الرجل الذي “عنده” جذام هو الرجل الذي كان يجلس خلفي ..هو الرجل الذي ناولني الفكة كفاً بكف .
أتعمد التوقف بأي حجة ليلحق بي وبالفعل يتخطاني في خطوته المهمله البليدة بجلبابه الفلاحي الرمادي المتسخ من عند أطرافه السفليه، كم الجلباب مزاح من عند الساعد الأيمن، أستطيع أن أري التقرحات والجروح بشكل أوضح مما كنت في السيارة، فجأة أتذكر كيف منحني الرجل أجرته في يدي.. الرعب يتملكني فأنا لا أتذكر سيناريو بعينه .. هل لامست يدي يده؟ هل انتقلت عدوي الجذام من يده إلي يدي؟ هل صرت مجذوماً؟ لا بالعكس أنا أصلاً أتعمد أن أجعل كف يدي منبسطاً بقوة حتي تلقي فيهم أي فتاة أجرتها عندما أخذها من إحداهن، دون أن تتهمني بالتحرش، وبالتبعية صرت أفعل ذلك مع الجميع، أنا بسطت يدي بقوة, نعم .. يد الرجل لم تلمس يدي.. أنا لن أصاب بالجذام .. لن يبتر الطبيب أطرافاً من جسدي و… أنا لا أعرف علي وجه اليقين ماذا حدث .. فجأة قفزت إلي ذهني عشرات التصورات.. الرجل لم يكتف فقط بلمس يدي عند تسلم الأجرة، الرجل هو آخر من هبط من السيارة وأنا من سبقته مباشرة .. المعتاد أن يحتفظ كل هابط من الميكروباص بالباب مفتوحا لمن بعده حتي لا يغلق أثناء نزول الأخير، عند ذلك تمهل الرجل وأبدي صعوبة في النزول فساعدته واستند ليدي قبل أن يهبط.. هل حدث ذلك؟ هل حدث ذلك حقاً أم أن الأمر اختلط عليا من فرط التكرار، هل حدث ذلك مع رجل آخر عجوز بالأمس وأنا تحت ضغط الفزع أخلط الأحداث؟
أفيق من تلك الدوامة علي نظرات ضاحكة للركاب والتباعين وسائقي الميكروباصات الذين وقفوا ليشاهدوني وأنا أحسب كل تلك الحسابات المعقدة وأحدث نفسي بصوت عالي.. أهرب من نظراتهم إلي طريقي.. إلي سلم كوبري المشاة الذي سيصلني للمترو.. أصعد السلم ودفقة من الذكريات تهاجمني.
منذ خمسة أعوام اقترحت في ورشة عمل لكتابة الأفلام الوثائقية فكرة فيلم وثائقي عن مستعمرة الجذام بأبوزعبل، كانت الورشة تؤهل للعمل في الشركة التي نظمت الورشة، حاولت “ التجويد” وإثبات الجدارة فسافرت إلي أبوزعبل، قلت لأمي يومها أنا ذاهب إلي إمبابة لزيارة صديق في معهد القلب، سألتني :مريض، فقلت لها : طبيب، كان لابد من أن أكذب، من المستحيل أن تسمح لي تلك الموسوسة بالذهاب لأحد سادة الأمراض الجلدية بقدمي، وإن سمحت بالذهاب لن تسمح لي بدخول البيت مرة أخري.
قلت لأمي إني ذاهب .. ذاهب كأي مشوار آخر، لكني اكتشفت انه سفر حقيقي عبر مواصلات عدة، من مترو إلي تويوتا إلي بيجو وقبلهم السيد رمسيس الذي يحتويني بصاجه العتيق الصدء صيف شتاء، آخر سيارة وصلت قبل المستعمرة بكيلومتر ورفضت استكمال الرحلة، هبطت منها وركبت مع سيارة تريلا ضخمة اضطررت أن أصعد للسيارة عبر تسلق سلمها، لم أخبر السائق عن طريقي، قلت له : ناس صحابي مستنيني كمان كيلو علي الطريق، وعندما طالعته يافطة “ مستعمرة الجذام بأبوزعبل” وسمعني أطلب منه أن يتوقف قبل البوابة، نظر لي نظرة أدهم الشرقاوي للورد كرومر، وبصق من النافذة عن يساره.
هبطت من السيارة ودخلت إلي من ينتظرني، تمرجي معرفة لأحد الأقارب, كل شيء كنت أفعله دون أمد يدي لاحظ التمرجي أني لم أسلم عليه واكتفيت بالسلام مشافهة، الحمام فكرت ألف مرة قبل أن أدخله لكن مثانتي طرقت باب عظام الحوض ألف وواحد مرة، فدخلت ومناديل بيضاء تتوج يدي، أتذكر كيف زرت الغرف القليلة التي سمحوا لي بزيارتها ككائن خفي لا ألمس باباً وأتعمد عدم النظر لأحد المصابين حتي لا يبادروا بأي محاولة للسلام بالكف، كيف ُصدمت عندما رأيت سيدة عجوز تجلس علي الأرض أمام سريرها، وتقلي بكفين بلا أصابع بطاطس “ صوابع” في “ طاسة” كثيفة السواد، فوق موقد صغير، أنبوبة قزم ملتصق بها مسند لأدوات القلي، وفوق سريرها رسمة ضخمة لسفينة مكتوب فوقها : حج مبرور وذنب مغفور يا حاجة زينب، الحج المبرور لا جزاء له سوي الجنة، عندما مررت بأحد الأماكن النادرة المزدحمة بساحة المستعمرة المليئة بالأشجار البديعة واكتشفت أنه “ فرن بلدي” وأن العاملين فيه من مصابي المستعمرة، وعندما سألت المسئول عن المرور معي: الا يقرف هؤلاء من الأكل من عيش يصنعه مصابو الجذام، فاجئني رده بأن زبائن الفرن هم أهل العزبة وهم أيضاً أقارب نزلاء المستعمرة الذين أتوا مع مصابيهم من كافة أرجاء مصر وأقاموا في العزبة ليكونوا جوار ذويهم، أتذكر أيضاً كيف أزال الطبيب بجهاز حديدي قطعة جلد ولحم ضخمة من إبهام مريض وهو يكلمني عن
ضرورة عدم القلق من ملامسة المرضي، لأن المريض الذي حصل علي لقاح معالج لا ينقل المرض، عندما تذكرت ذلك توقف القلق والهلع قليلاً.
في الطابور الطويل للحصول علي تذكرة المترو تذكرت الطابور الذي وقفت فيه بعد أن خرجت من المستعمرة بوعود كاذبة من المدير والمشرف الاجتماعي بالمساعدة في اتمام الفيلم في حالة ما إذا حضرت للتصوير، وقفت في انتظار سيارة نصف نقل تنقل عدد يتجاوز الخمسة عشرة كأننا عمال تراحيل في صندوق السيارة، كلهم بالجلابيب وأنا بزي الأفندية وبموبايل متطور شغلت نفسي بالنظر فيه بينما أنا واقف وسطهم، وحظي الطيب جعل أحدهم يرق لي فيترك لي فسحة جوارطرف السيارة المسور، أنظر للمراهق الذي يقف وجهه في وجهه ببلادة وتناحة فيرعبني حجم الحبوب الذي يملأ وجهه، حبوب ضخمة ممتلئة بالقيح لم تنجح رغم ذلك في تشوية وجهه الذي تكفلت به الشمس فصنعت منه رغيف عيش أسود متفحم، أغمض عيني وانظر لأرضيه السيارة.
كلنا وقوف جلدنا يلامس جلد بعض في تجربة لم أكن أصدق أني سأمر بها يوما، فجأة يعطس المراهق في وجهي، لثانية أتخيل أن ما يحدث هي نوبة شرود ألمت بي تحت هذه الشمس، لكن كل ما له صلة بما حدث وما له من مخلفات كان يملأ وجهي وصدري، عندما حاولت أن أستبين من وجه الفتي محاولة اعتذار لم أفهم شيء من تعبيرات وجهه الميت والميته، وعندما حاولت أن أستدعي اعتذار ممن حولنا من رفاق، لم ينطق أحدهم بشيء، لوهلة تذكرت رواية غسان كنفاني : “ رجال في الشمس”، عن مهاجرين غير شريعيين تكدسوا في خزان حديدي لسيارة نقل تقلهم في رحلة طويلة عبر الصحراء في عز النهار.
أتخيل نفسي والطبيب يبتر من يدي كيفما شاء بحجة محاصرة المرض، أتخيل المرض وهو يقتل محجري عيني، ويحولها لعين سمكة مستديرة، كل مصابي الجذام يشبهون بعضهم البعض، وكل عيونهم عيون سمك، أطراف مبتورة وهزيمة تغطي الروح وتكشف خيانة الجسد.
أفكر في أقرب حمام لأغسل يدي فأتذكر حمام المترو، أقرأ كل يوم بينما أعبر بجواره يافطة ( دخول الحمام 1 جنيه)، حصلت علي تذكرة المترو.. عبرت البوابة الاليكترونية وتحركت للزاوية التي هي في الأصل مرحاض عمومي لخدمة الناس لكن موظفي المحطة الأكثر حيوية في خط المترو حولوه ل” سبوبة”.. دفعت الجنيه للموظف ذو الملابس الرسمية ودخلت للحمام/الركن، علي اليمين مبولتان، علي اليسار حوضان وبينهما كابينة، كل ذلك في محيط 3 مترفي 3متر، المبولتان مشغلوتان أحد الأحواض كان عليه مدير المحطة شخصياً وهو يتوضأ، الحوض الآخر وجدت عليه عاملة نظافة تغسل صحون ملأت الحوض وفاضت، وعندما توقفت بنظري طويلا أمام انهماكها في التنظيف، نظرت لي بملامج جامدة ورسمت علي وجهها عبوث أزلي وقالت لي :
معلهش هتستني شوية عشان دي صحون المحطة كلها، كل يوم واحدة بتشيل الليلة وكلهم غابوا النهارده وسابولي المواعين كلها، امبارح كنت انا والنهارده برضو أنا , ستات ولاد….
ضحك مدير المحطة ومن بالمبولتين ومن داخل الكابينة أتت الضحكات أيضاً، قارنت بعيني حمامات المستعمرة وحمام المترو، وتذكرت كم كانت الأولي سلسة وهادئة ونظيفة وشبه معقمه، وكيف كنت عنصرياً وغشيما معها.
يصيبني اليأس من كل شيء، هل ينظفني الماء الهابط من صنبور معدني من بكتريا فطرية دقيقة تنام في حضن ثنايا الجلد، مترو شبراالخيمة ينطلق من جنوب القليوبية إلي القاهرة من شمالها، ولأن النيل هو ما يفصل القاهرة عن القليوبية، فإن المترو يخترق النيل في نفق واسع، من فرط القرف أحلم بالمترو يغرق في النفق، أحلم بنفسي اغسل يدي في الماء بالماء، ماء في ماء في ماء، ولكن هل يذهب الماء الملوث الآخر بفضلات الدنيا والآخرة بالمرض، الحر خانق والوقوف في المترو تحت فتحات التكييف هي أملك الأخير، لكني أبداً لا أخون طقوسي، وطقسي الأثير في المترو أن أقف إلي جوار الكنب ذو المقعدين, المكتوب فوقه: (هذه المقاعد مخصصة لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة)، هوسي من وراء ذلك أن أريح حقيبة الظهر فوق الصندوق المعدني المخصص لطواريء الحريق وأن أقف، فقط أقف لا أجلس أبداً بل أنتظر الفرص كي أقرع صغار السن عندما لا يتركون المجال لكبار السن من أجل أن يرتاحوا.
علي لحن رتيب من “ أزأزة” اللب وبصق قشره خلفي، أقف وأمسك باليد الدائرية العاجية الهابطة من الذراع المعدنية، اثنان منها يتأرجحان جانبي في هواء عربة المترو الخانق، أقف وفي قبالتي سيدة في منتصف الأربعينيات وإلي جوارها رجل فسيح الصلعه نحيف وطويل في نفس العمر تقريبا، في المقعد الذي يتسع لإثنين بدا هما الاثنان أبدن من اللازم عندما لم أجد مساحة تذكر تفرق بينهما.. من الواضح أنهما لم يأتيا معا لكنهما بدا كأغراب من نفس الفصيلة، أمامها اصطفت عدة حقائب بلاستيكية لمحلات ملابس وأحيانا لانجري، عليها صور شبه فاضحة، شممت من أحدها روائح طعام في علب وبرطمانات، الأحظ أنها شاردة طوال الوقت لا تتكلم، بل تتمتم بكلام غير مفهوم، كانت غزيرة العرق، وترتدي عباءة سوداء وطرحة بذات لونها، لكنها فجأة ترفع عينها إلي وتسألني :
يا استاذ إزاي اروح المعصرة؟
خليكي معانا لحد الشهدا وبعدين….
يقاطعني الرجل الذي يجاورها بسرعة ويسألها:
رايحة فين في المعصرة أنا نازل هناك انزلي معايا، متقلقيش.. ايه اللي رايحه له هناك.. دا انتي شكلك جاية من سفر.. هاه .. احكي..
انا رايحة لأهلي هناك .. أنا جاية من المنصورة بلد جوزي ..
أحاول التعبير بقسمات وجهي عن استيائي من سخافته، لكنه لا يلتفت إلي والسيدة تكمل بلا توقف كأنها كانت بحاجة لمن يدفعها للكلام, لم تكن تحدثنا .. كانت تزوم بعيون تلمع بالدموع عن زوجها المسن الذي تزوجها منذ خمس سنوات وهي في أوائل الاربعينيات وهو في اواخر عقده السابع، العانس تحولت لخادمة لزوجها ولأبناء وبنات زوجها الذين جردوها من كل شيء بمجرد زواج الابن الأصغر في شقة الأب، طردوها بعد ثلاثة أعوام من خدمتهم وأبنائهم بعد وفاة زوجها.
منهم لله ولاد جوزي .. حسبي الله ونعم الوكيل فيهم .. طردوني وشردوني .
قالتها وكررتها لدرجة أن شحاذي المترو الذين يستجدون الجنيه مقابل “ علبة المناديل” توقفوا عن نصبهم المتهدج الكاذب عن أمراضهم وأمراض أبنائهم، وكأن الاستجداء والبكاء طاقة في الهواء إذا استولي أحدهم عليها هرب الآخرين للبحث عن فائض في ساحة أخري.
أنظر إلي كفي يدي وكلي أمل أن تكون هواجسي ضلالات، أتخيل نفسي في المستعمرة بجلباب فلاحي، وأهلي يسكنون كوخ صفيح في عزبة المستعمرة، أتخيل نفسي في كل وضع مؤذي، أعذب نفسي بلا طائل، يخرجني من هلاوس الجحيم فخذ الرجل وهي تصطدم بساق المرأة وتحاول النيل منها، ذهولها وصدمتها يغيبانها، وندالة الأصلع تقتلني وجحيم الشكوك يسلخ فروة رأسي، والحر والزحام ونظرة لعين الجالس أمامي رأيت في عينيه المرض، لم تكن مريضة بل كانت هي المرض هي العدوي هي البكتريا القذمية التي تأكل الروح قبل الأطراف .
محطة الشهداء،،
قامت إلي قيامتها ومساحة التجرؤ دفعته ليقودها من ظهرها ويدفعها برفق.
يلا يا ست مبارك جت .. هنحول
يخرجان وسط الزحام، تقف السيدة في وسط دوامة البشر وهو خلفها، نظرتها كلها طمع وأنا كلي عجز، عيونها تنبئني بمستقبلي وصلعته تعكس أضواء المحطة المزدحمة، يغلق الباب بينما أهم بالنزول لمحاولة اللحاق بها من براثن الغول، يتحرك القطار الكهربائي، فتتحول صورتهم كأنها جزء من صورة تظهر في طرف عدسة مقعرة، فقط رجل يضع ذراعه فوق كتف سيدة مغيبة، الله وحده أعلم بمآلها ومآلي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.