الخبر الجيد أن العملية العسكرية التي كانت مزمعة في إدلب قد تم تأجيلها وتجنيب نحو ثلاثة ملايين مدني سوري مأساة إنسانية ربما كانت الأكثر ترويعاً في القرن الحادي والعشرين, ولكن الخبر السيء أن الاتفاق الروسي التركي حول تسوية الوضع في محافظة إدلب قد جاء غامضاً ويطرح تساؤلات أكثر مما يقدم إجابات! رسمياً, أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه اتفق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان علي إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين قوات الحكومة السورية والمعارضة, وقال بوتين بعد قمة جمعت الرئيسين في منتجع سوتشي إن المنطقة المزمع إنشاؤها في 15 أكتوبر المقبل, وتصل مساحتها من 15 إلي 25 كيلومترا, سوف تخضع لدوريات أمنية من جانب القوات الروسية والتركية. الاتفاق الروسي التركي يتضمن أيضاً سحب جميع الأسلحة الثقيلة من هذه المنطقة, فضلا عن ضرورة انسحاب تنظيمات الإرهاب, بما في ذلك جبهة النصرة, خارجها.. هذا الاتفاق ربما يستجيب لنداءات دولية متكررة بشأن ضرورة تجنب كارثة إنسانية إذا شن النظام السوري هجوماً عسكرياً شاملاً لاستعادة إدلب, حيث قال وزير الدفاع الروسي إنه لن تكون هناك عمليات عسكرية كبري لاستعادة المحافظة.. البيانات الرسمية لم تقدم كثيرا من التفاصيل حول فحوي الاتفاق الصفقة, الذي جري في سوتشي, وغياب إيران عن الاجتماع يثير تساؤلات عدة, كما أن انفراد روسيا بقبول العرض التركي يعني أن هناك رسالة واضحة من الكرملين للعالم بأن سوريا ملف روسي خالص, وأن إيران ليست شريكاً علي قدم المساواة مع روسيا في تقرير مصير سوريا.. اجتماع سوتشي جاء بعد فشل القمة الثلاثية التي عقدت قبل نحو عشرة أيام بين رؤساء إيرانوروسياوتركيا, في التوصل إلي تسوية مقبولة للأطراف الثلاثة, واستنتج المراقبون أن وجهة النظر التركية باءت بالفشل, وبعدها بأيام تم التوافق الروسي التركي, الذي جاء علي خلاف وجهة نظر إيران التي كانت تتمسك بالعملية العسكرية! بالتأكيد, هناك تفاهمات سرية مهمة تم التوصل إليها بين الرئيسين بوتين وأردوغان, فروسيا التي كانت تشاطر إيران وجهة نظرها تخلت بشكل مفاجئ عن فكرة العمل العسكري, ويبدو أن مقترحات أنقرة قد صادفت هوي روسي يرغب في تفادي »فخ»أطلسي يستهدف توجيه ضربات عسكرية ضد نظام الأسد بما يضع روسيا في موقف بالغ الحرج ربما يفرض عليها الانزلاق إلي مواجهة عسكرية مباشرة مع تحالف دولي تقوده الولاياتالمتحدة علي أرض سورية. الأيام والأسابيع الأخيرة شهدت الكثير من التحولات في المواقف, فتركيا صنفت »هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) ضمن التنظيمات الإرهابية, وهو ما قابلته الهيئة بالدعوة إلي محاربة تركيا العلمانية, رغم أن بين الطرفين تحالفا غير معلن منذ بداية الأزمة السورية! اصطدمت الدعوات التركية »لتجنب إراقة الدماء»في إدلب بتصميم الرئيس الروسي علي »تصفية الإرهاب نهائياً», فيما قال الرئيس روحاني إن »محاربة الإرهاب في إدلب جزء لا بدّ منه في المهمة المتمثلة بإعادة السلام والاستقرار إلي سوريا, إلا أن هذا يجب ألا يكون مؤلما للمدنيين وألا يؤدي إلي سياسة الأرض المحروقة». فهل جاء اتفاق سوتشي معبراً عن إرادة الأطراف الثلاثة للحفاظ علي تحالفهم في مواجهة أزمة هددت هذا التحالف ووضعته في اختبار صعب؟ الكل بانتظار مزيد من الفهم حول طبيعة المنطقة منزوعة السلاح التي جري الاتفاق عليها بين تركياوروسيا, وهل ستكون مخصصة للمدنيين السوريين أم ستكون منفذا لتنظيمات الإرهاب للخروج من المحافظة وتسليمها للجيش السوري؟ ثم ماذا بعد؟ وما هو مصير تنظيمات الإرهاب وكيف سيمكن تحقيق الهدف الروسي بالقضاء عليها تماماً؟! وهل تقبل هذه التنظيمات بسيناريو الانتقال من إدلب إلي المنطقة منزوعة السلاح بمعزل عن المدنيين الذين كانت تتخذ منهم دروعاً واقية في مواجهة أي هجمات عسكرية للجيش السوري وحلفائه؟ الأغلب أن الجوانب والنقاط الغامضة في الاتفاق هي نفسها موضع تفاهمات لا تزال غير معلنة وقد لا يتم الكشف عنها رسمياً, ولكن المؤكد أن هناك توافقا حول منح الخطة التركية مهلة زمنية محددة كي يمكن الحفاظ علي المكاسب الاستراتيجية الروسية في سوريا, وتفادي استدراج موسكو لمواجهة قد تفضي إلي دخول اطراف أخري كشركاء أساسيين في تحديد مصير سوريا, فضلاً عن تحقيق أهداف إيران التي تخشي هي الأخري استهدافها بعملية عسكرية أمريكية تحت ستار الرد علي هجمات الجيش السوري ضد المدنيين, وتجنيب تركيا ازمة لاجئين عارمة قد تقضي علي ما تبقي من فرص في انقاذ الاقتصاد التركي, وتقضي علي ماحققه الجيش التركي من مكاسب عبر التوغل في الأراضي السورية.. اللافت أن كل التقارير تحدثت عن نقاشات روسية إيرانية تركية تدور حول مصير إدلب طيلة الأيام والأسابيع الماضية, وصاحب القضية نفسه وهو النظام السوري غائب أو بالأحري مُغيب, ناهيك عن أبعاد ودلالات وتبعات وانعكاسات غياب أي طرف أو دور عربي عن تحديد مصير بلد عربي بحجم سوريا!! الأيام المقبلة قد تكون حبلي بالمفاجآت في سوريا, ولكنها ستكشف حتماً عن تفاصيل هذا الاتفاق وما تم فيه من تفاهمات بين الثلاثي الذي بات يتحكم في مصير سوريا وشعبها.