إذا كان على الظلم، بليغ لم يتعرض للظلم وحده، ولكن كل فنانين مصر تعرضوا لنفس الظلم، إذا ذهبت إلى فرنسا مثلًا.. ستجد أسماء الفنانين على الشوارع والميادين الرئيسية، مثل الرؤساء وكبار السياسين، لأن هناك بلاد تقدر فكرة الثقافة، وبلاد أخرى لا تعنيها فكرة الثقافة، إذا كان بليغ وغيره من نجوم مصر (سيد درويش، عبد الحليم، أم كلثوم، عبد الوهاب) وغيرهم من القوى الناعمة تم تكريمهم شعبيًا من خلال حب الناس، أتمنى تكريمهم على المستوى الرسمي. بحكم اقترابك من بليغ.. هل كان مشغول بهذا الظلم؟ عمي ظلم أكثر من مرة، ربما لأنه لم يكن صديقًا للسلطة، وأحيانًا عندما يكون الفنان بعيد عن السلطة، يكون مغضوبا عليه، لكن إلتفاف الجمهور في كل أنحاء الوطن العربي.. حول أعماله، ومن أجيال مختلفة، يمنحه مساحة للهدوء النفسي والتصالح مع الذات وتجاهل أي ظلم تعرض له. لكني أعرف إنه كان قريبًا من الرئيس السادات؟ ورغم هذا هل تغني باسم (السادات)، وهنا لا ألقي باللوم على من تغنوا باسم الرئيس عبد الناصر عن قناعة وإقتناع، ولكن بليغ كان يفضل دائمًا الغناء للوطن، للشعب، للجنود، وأعتقد كلنا نعلم الخلاف الكبير بينه وبين صديقه المطرب الكبير عبد الحليم حافظ، بعد انتصار أكتوبر ورفض عمي مجاراة «حليم» في تقديم أغنية للرئيس السادات، وفي النهاية توصلا إلى «عاش اللي قال»، هو كان دائمًا مقتنع بالغناء لفكرة.. فكرة مصر. «حى شبرا» تكوين بليغ حمدي الثقافي والسياسي.. هو نتاج القراءة المبكرة أم العائلة الوفدية التي اطلقت على الابنة الكبرى «صفية» تيمنًا بالسيدة صفية زغلول.. والشقيق الأكبر المفكر د. مرسي سعد الدين .. حبًا في زعيم الأمة سعد زغلول؟ بليغ حمدي نشأ وتربى في حي (شبرا) وهذا الحي الذي شهد سنوات صباه وشبابه، يمكن أن نعتبره نموذج (للكوزموبوليتان)، حي يحتضن جميع الأديان، وطبقة متوسطة لكنها طبقة متعلمة، لكنها منفتحة، وتتمتع بأفكار ليبرالية، وهذا ينشر بين الناس التعددية، والمصرية الحقيقة، غير المغلفة، بأفكار مستوردة من الخارج، أو ترتدي جلباب خليجي، لا أحد يختلف على أهمية الهوية العربية والإسلامية، لكن الهوية المصرية، هي الأساس، التي يتفرع منه الشجرة، لهذا تكتشف إنه كان مهتما في ألحانه، بالألات المصرية، والتفعيلات المصرية، والإيقاعات المصرية، من الصعيد والدلتا، وكل أنحاء مصر، لأنه كان يعتبر مصر قارة، وعندما كان يتغنى بها كان يقول: «يابلادي»، لم يعتبرها في أي لحظة في عمره «بلد» ولكنها من منظوره بلاد. هل تملك تفسير خاص.. لما تعرض له بليغ حمدي من خيانة إعلامية؟ ما تعرض له بليغ حمدي، كان مخطط، هو جزء منه، لأن في فترة من الفترات، كان مهم جدًا، القضاء على قوة مصر الناعمة، بعد أن نجحوا في التخلص من أشياء كثيرة، ولكن بقت الثقافة والفنون يمثلا لهم عقدة كبيرة، خاصة أن مصر مازالت قادرة على تصدير فكرة، وحتى أكون أكثر صراحة في شرح فكرتي، إذا كانت الناس متشبعة ب أم كلثوم وحليم وبليغ، وبالمسارح ودور العرض المسرحي، وبالمطابع التي تصدر الكتب، كيف ينجح نشر التطرف بين الناس والأفكار المتطرفة، كان ضروريًا إغلاق المسارح ودور العرض ومطاردة النجوم وأديرت حملة لتشويه الفنانين، وكلنا نتذكر المرحلة التي تعرض فيها كثير من الفنانين والفنانات للتشويه من خلال القضايا، بالتوازي مع إعلان فنانات اعتزال الفن والتوبة، وترديد إسطوانة إن الفن حرام، وكشف بعد سنوات عن الميزانيات الضخمة، التي كانت ترصد والأرقام التي كانت تدفع لهؤلاء الفنانات، الأفكار التي كانت تردد في هذه المرحلة التاريخية، هي نفس الأفكار «الداعشية» التي نعاني منها الأن، والكل يدفع ثمن الصمت والتراخي، نعود إلى بليغ حمدي الذي كان بمثابة رأس حربة، مهم جدًا في الموسيقى والهوية المصرية، كان لابد من القضاء عليه!. البعض استغل الخلاف الفني بين موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.. وبليغ.. وردد أن «للأستاذ» أصابع خفية في قضية «سميرة مليان»؟ مستحيل.. وأعتقد أن بليغ نفسه كان سوف يرفض، أن يوجه هذا الإتهام إلى عبد الوهاب، لا أنفي إن كانت بينهما أحيانًا ما يسمى بالغيرة الفنية، لكن لا يمكن أن تصل لحد الأذى، وبحكم إقترابي العائلي من بليغ حمدي أعرف جيدًا، إنه يحب الأستاذ عبد الوهاب جدًا، وعلى المقابل من مصادر مقربة من «الأستاذ» أعرف أنه يكن ل بليغ إحتراما فنيا كبيرا، وبالمناسبة معظم أعمال بليغ كانت تظهر من خلال «صوت الفن» شركة محمد عبد الوهاب، وحتى عندما كان ينتقد الأستاذ بليغ، إنه لا يعطي للجملة الموسيقية حقها ورعايتها، كان يعبر عن وجهة نظر فنية لابد أن تحترم ونستمع لها ونناقشها، المنافسة بين هذه الأجيال لم تحمل كره إطلاقًا، ولكنها كانت منافسة فرسان. «التربيطات» جزء من الأزمات التي تعرض لها.. هل سببه أنه لم يكن يجيد فن العلاقات العامة؟ لم يكن مشغول إلا بالفن الذي يقدمه، ولم يجيد أن يكون طرف في «شلة» بمنتهى الأمانة كان فاشل في «التربيطات» واستخدام أسلحة إعلامية تسانده عندما يحتاج إليها، وهذا ظهر في قضية «سميرة مليان» تعرض لظلم صحفي، وكان هدف «للفبركة» الصحفية، فتشوا في اسراره وحجرة نومه وتناولوا أعراض ناس، وهذا يمثل لي شخصيًا لغز حتى الآن، لأن هناك أقلام من التي شاركت في اغتياله معنويًا كان بينه وبينهما على الأقل معرفة، ولن أقول صداقة. تتفق مع الأراء التي وصفته إنه «بوهيمي»؟ هذا كلام عبثي.. لا يمكن أن ينطبق على هذا الشخص، الذي قدم كل هذا المنتج الفني بهذا التميز، كيف لشخص يتم وصفه «بالبوهيمية» أن يقدم كل هذه الألحان للمطربين والمطربات، والأفلام والمسرح، وأن يتعاون مع اكبر قمتين في الغناء العربي «أم كلثوم» و «حليم» ويتم وصفه «بالبوهيمية»! على المقابل لا أنكر إنه كان متمرد على الشكل الطبيعي للموظف الروتيني الذي يعيش في خيالنا. بين آلاف الألحان التي قدمها.. هل كان يفضل ألحانا معينة؟ في إحدى الحوارات الفنية التي كانت تجمعني به.. سألته بشكل مباشر عن أفضل عملين قدمهما في مشواره التلحيني، وكانت إجابته: «زي الهوى، والف ليلة ولية»، وكان تبريره.. إنهما مختلفين عن كل أعماله، بهما فكرة موسيقية سعيد بها جدًا، وسعيد أكثر إنها خرجتا للناس بهذه الطريقة. أعرف أن المسرح الغنائي.. كان يشغله دائمًا؟ «ده حقيقي.. وكان يجهز عمل مسرحي كبير عن (إخناتون).. يحاكي أوبرا «عايدة»، وكان له محاولات سابقة «مهر العروسة» و «تمر حنة»، المسرح الغنائي يحتاج دعم الدولة، لأنه مكلف ماديًا ويحتاج إمكانيات كبيرة، وبسبب غياب هذا الدعم توقف مشروع «إخناتون». «وردة» نترك الفن قليلًا.. ونقترب من سؤال خاص جدًا.. د. مرسي سعد الدين.. (عمك) في حوار صحفي صرح إن الفنانة وردة الجزائرية.. ظلمت بليغ.. قاطعني قائلًا: «وهو ظلمها أكيد.. دعنا نتكلم بحيادية، الإثنين «رحمهما الله» ولا استطيع أن أظلم طرف على حساب طرف، وحتى الكلام الذي اثير حول إنها حرمته من الأبوة بإجهاض نفسها، سمعت من طرفين اثق بهما جدًا.. طرف أكد أنها أجهضت نفسها متعمدة.. وطرف أخر أثق به جدًا هو الأخر أكد أن الإجهاض تم لأنها تعرضت للإجهاد، بسبب التجهيز لفيلم جديد، في النهاية.. عن نفسي أنا بحب وردة الفنانة والإنسانة وأقدرها جدًا، وأعتبر كل أغنية قدمتها مع عمي.. بمثابة ابن لهما.. وهذا هو الباقي.. الأعمال المشتركة بينهما. التي بمثابة درر فنية». الفلوس في حياته؟ قال ضاحكًا: «عارف حصول طفل على «العيدية» هذه علاقة بليغ حمدي بالفلوس، بمجرد أن يتقاضى أجره عن عمل فني جديد، أهم ما يشغله في هذه اللحظة أن «يفرتك» الفلوس، وينتظر من يدفع له أجرة التاكسي للذهاب إلى بيته، وكثيرًا كان يعمل دون أجر، لمجرد إنه «مبسوط»، وبالمناسبة جميع الأعمال الوطنية التي قدمها لم يتقاض عنها أي أجر، وكان يردد هذه الأغاني أقدمها إلى أمي، هل أتقاضى من أمي فلوس». على خلاف ما يبدو أنه ملحن «مخملي» .. مشغول بالإغانى العاطفية..؟ قاطعني قائلًا: الهم الوطني.. كان يشغل حيزًا كبيرًا في تفكير بليغ حمدي، وأكثر حاجتين بيحبهم في حياته.. أمه ومصر، قدم أغاني وطنية عظيمة في مواقف عظيمة، مهم جدًا الموقف والدافع الذاتي، وفي هذه الأعمال الوطنية كان يدفع أجور الموسيقين، بعد هزيمة 5 يونيو.. وسيطرة حالة من الصمت الرهيب، قدم أغنية «عدى النهار» هذه الأغنية التي انتهت بأمل في النصر، وأيضًا قدم أغنية «فدائي» مع «حليم» و «نحن فدائيين» للسيدة أم كلثوم، وملحمة أكتوبر (بسم الله، على الربابة) والأهم «يا حبيتي يا مصر»، بعد إختفاء اسم مصر، بعد تم تغير اسم مصر إلى الجمهورية العربية المتحدة. «شادية» يُقال أن شادية الحب السري في حياة بليغ حمدي؟ الله أعلم، ولكن إذا تكلمنا بشكل فني.. بليغ تحديدًا.. كان يحب أي حد يعمل معه، سواء كان فنان أو فنانة، هو كان يتعامل مع اللحن إنه قطعة من روحه يعطيها للمطرب أو المطربة، وبعيدًا عن حكاية هذا الحب السري، العلاقة بينهما.. تسببت في تقديم مجموعة من الأعمال الفنية العظيمة بعد النكسة وقبل النصر (خلاص مسافر، خدني معاك، قطر الفراق) تشعر إنها موسيقى ملحمية، تحمل طابع حزين، وبعد وطني وسياسي، وأيضًا مسرحية «ريا وسكينة» عمل شادية المسرحي الوحيد، الذي حقق نجاحا غير مسبوق، رغم تردد شادية في البداية أن توافق، بعد أن عرض عليها منتج المسرحية سمير خفاجي، لكنها وافقت فورًا بعد أن أقنعها بليغ.. التي كانت تثق في رأيه الفني. أقرب أصدقاء بليغ؟ الكاتب الصحفي محمود عوض، كان قريبًا منه على المستوى الإنساني بشكل كبير، وبعد رحيله، كتب عنه مقال من أروع ما يكون وأعتبره من أفضل ماكتب عنه مقال بعنوان «الرحيل في نصف جملة موسيقية»، أعتبره أهم عريضة دفاع عن الإنسان والفنان بليغ حمدي.