لم يستطع أحد في عقدي الخمسينات والستينات من الشعراء والروائيين وكتّاب القصة والصحفيين والأدباء عموما والأكاديميين المرموقين، أن ينجو من ممارسة مواهبه وسيرته الأدبية أو الثقافية أو الأكاديمية، دون أن يتماس مع الجو والنظام السياسي بشكل ما، واستطاعت السلطة السياسية الجديدة، والتي جاءت وليدة مناخ مضطرب سياسيا، إما أن تستقطب هؤلاء الأعلام والرموز، وإما أن تضعهم محل تصرفها القمعي، هذا القمع الذي يتدرج حسب موقع الكاتب أو الشاعر أو الفنان، القمع الذي يتوزع بين فرض نوع معين من الكتابة، وفرض خطاب خاص يخدم أغراض الحكم، متلفعا بكافة الشعارات الوطنية والحماسية، ولأن البلاد كانت تعيش أجواء عداء مع الاستعمارالعالمي بكامل طاقاته الشريرة، وأجواء عداء مع ذيول الحكم البائد قبل طرد الملك فاروق وحاشيته، وعناصر الأحزاب القديمة الوفدية والسعديه وخلافه. وكانت السلطة من الذكاء بحيث تضع نجوم الفن والأدب والثقافة والصحافة في أروقة نفوذها، مثل الشاعر صلاح جاهين الذي ظل مخلصا لعبد الناصر والناصرية بشكل يكاد يكون مفرطا، ويكاد تتماهي ذاته مع ذات الثورة وقائدها، وكذلك الفنان عبد الحليم حافظ الذي انتزع لقب »مطرب الثورة» بامتياز، وكان الاثنان يستحوذان بصدق علي حب الجماهير الشعبية العريضة، والتي تريد السلطة استقطابها وجذبها وشحنها بكل الشعارات والأفكار والخطط التي تقبل علي تنفيذها، وكانت ثلاثية الشاعر والمطرب والجماهير، هي النصير الأول، وماكينة ضخ المشاعر الرئيسية للاستحواذ علي السند الأول لأي سلطة في التاريخ. كان محمد صلاح الدين عبد الصبور الشاعر والمثقف والنجم الشاب، وأحد الشعراء المجددين، والذي تقلّب في عدة مناخات سياسية بارزة، ولكنه كان مخلصا للأفكار بشكل أساسي، دون الانتماء بشكل تنظيمي في حزب أو جماعة سياسية علي الإطلاق، والجماعة الوحيدة التي انتمي إليها، كانت جماعة »الجمعية الأدبية»، والتي كان أعضاؤها يمتازون بالثقافة الرفيعة، منهم عبد الغفار مكاوي وعز الدين إسماعيل وأحمد كمال زكي وفاروق خورشيد وعبد الرحمن فهمي، وغيرهم، وكانت هذه الجماعة تعقد ندوات بشكل شبه منتظم، وكان أعضاؤها ينشرون إبداعاتهم - بشكل أساسي - في مجلة »الأدب»، والتي أصدرها الدكتور والعلّامة أمين الخولي، واستقبلت المجلة أولي إبداعات هذه الجماعة الناهضة. كانت مجلة »الأدب» هي المعبّر الأول عن أفكار وتوجهات وقضايا هذه الجماعة الفكرية والأدبية والثقافية في مصر، وكانت مجلة »الآداب» البيروتية، هي النافذة العربية الكبري لتلقي وترويج وتسويق أفكار وإبداعات أعضاء »الجمعية الأدبية»، وغالبية قصائد الشاعر الشاب محمد صلاح الدين عبد الصبور ، كانت تنشر في مجلة الآداب، ونشأت علاقة عمل أدبية بين الشاعر المصري الشاب عبد الصبور، والكاتب والمثقف والروائي اللبناني سهيل إدريس، وكان »إدريس» متحمسا بشكل شبه مطلق للشاعر الشاب، ولمجموعة كتّاب ونقاد وشعراء مصريين، والذين كانوا يعبرون عن أنفسهم وأفكارهم بشكل واسع وحر تماما في المجلة، وعلي رأسهم أنور المعداوي وصلاح عبد الصبور وسليمان فياض ورجاء النقاش وأبو المعاطي أبو النجا ووحيد النقاش ومحيي الدين محمد وعبد الغفار مكاوي ومحمدمندور وغيرهم، ولا بفلت عدد من مجلة الآداب، إلا كان ينطوي علي إبداعات مصرية عديدة ومثيرة. في تلك الأثناء - أي 1954 - التي كانت مشحونة بأحداث سياسية جسيمة، بداية من 5 مارس، حتي 25مارس، وتم إعفاء الرئيس محمد نجيب بشكل كامل عن السلطة، وتولي جمال عبد الناصر شئون البلاد بشكل كامل، ثم القطيعة الكاملة والدموية والحادة بين جماعة الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية، والذي حاول فيه أحد أعضاء التنظيم السري للجماعة، أن يغتال جمال عبد الناصر، بعدها تم القبض علي قيادات الجماعة وأعضائها ومرشدها، والحكم علي سبعة من القيادات بحكم الإعدام، وتم تنفيذ الحكم في ستة منهم، ونجا المرشد »حسن الهضيبي» بأشكال شبه غامضة، توحي بتورطه في عقد صفقة علي جثة التنظيم، ومن بقي منهم خارج السجون والمعتقلات، استطاعوا أن يهربوا خارج مصر، وكانت المملكة العربية السعودية، أكبر وأوسع استقبالا لهؤلاء الأعضاء الهاربين، في تلك الأجواء، وبعد أن علا نجم جمال عبد الناصر، كتب صلاح عبد الصبور قصيدته الشهيرة »عودة ذي الوجه الكئيب إلي الاستعمار وأعوان الاستعمار». ولم يدلنا أحد علي المكان الذي نشرت فيه القصيدة لأول مرة، ولكن شاع صيتها واسعا، وانتشرت بشكل كبير بين المثقفين المناوئين للسلطة والمؤيدين لها، بما فيهم اليسار الذي كان يعيش حالة حب مؤقتة مع السلطة، وبالتالي لم يحظ عبد الصبور أي ترحيب من مثقفي ونقاد اليسار، الذين كانوا مشغولين بشعراء من طراز فؤاد حداد الذي كان يكتب قصائد حماسية بشكل محض، مثل ديوانه »حنبني السد»، وبالطبع صلاح جاهين، وكذلك كمال عبد الحليم، وآخرون، أما صلاح عبد الصبور فتم إسقاطه عمدا في تلك الفترة من ذاكرة واهتمام أهل اليسار. وتم تأويل القصيدة علي أنها موجهة إلي جمال عبد الناصر، وشاع هذا التأويل كثيرا، دون أي إشارة لهذا التأويل، حتي المقدمة العظيمة التي تصدرت ديوان »الناس في بلادي»، والذي صدر عن دار الآداب في بيروت لصلاح عبد الصبور عام 1957، والتي كتبها الناقد والأديب الكبير بدر الديب، لم تتعرض للقصيدة بأي تأويل، وظلّت القصيدة معلقة في أروقة النقاد دون ذكرها، وعندما أعيد نشر الديوان في القاهرة عن دار المعرفة عام 1962، لم يتضمن القصيدة، وبالتالي أصبحت هذه القصيدة مقرونة دوما بحكاية قديمة، وتكاد تكون شبه معدومة، وهي اصطدام صلاح عبد الصبور مع السلطة الناصرية، وعدم رضا تلك السلطة عنها، وهذا غير صحيح علي وجه الإطلاق، إذ إن شاعرنا الشاب تم استقطابه، وتسكينه في إحدي المؤسسات الكبري، أي مؤسسة »روز اليوسف»، ولكنه لم يصبح واحدا في جوق السلطان، ولم يغنّ كذبا في مديح السلطة ، فهو كما قال في قصيدة له: وأنا لست أميرا لا، ولست المضحك الممراح في قصر الأمير. ظلّت العلاقة علي حدود المغامرة بين صلاح عبد الصبور والسلطة، فهو يغنّي ألمه في الشعر، ويكتب فرحا وانتصارات ومجدا في كتاباته الفكرية والسياسية، ومن هنا جاء توصيف الناقد الكبير إبراهيم فتحي في مقال له بمجلة إبداع أغسطس 1991 »المبتسم نثرا، والمكتئب شعرا»، وجدير بالذكر أن قصيدته »الحزن»، والتي نشرت في ذات الديوان، ظلّت تل احق المقالات النقدية التي كتبها النقاد »الفرحون» بانتصار وإنجازات سلطة يوليو، بل كان البعض يكتب مايشبه البلاغات البوليسية في الشاعر الذي لا يفرح بهذه الانتصارات، بل يحرّض علي الاكتئاب والحزن في ظل مناخات تفاؤلية، إذ إن صلاح عبد الصبور كسا القصيدة ودججها بأحزانه العميقة، حيث يقول: ياصاحبي إني حزين طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش.. إلي آخر القصيدة التي تصوّر واقعا شديد البؤس، والمدهش أن بعض النقاد الفرحين، كانوا يلومون صلاح عبد الصبور علي كونه يعلن ذلك الحزن في عهد الفرح والثورة والانتصارات والمجد، ولم يدركوا الأبعاد الوجدانية والفلسفية الكامنة في القصيدة، والتي أعرب عنها نقديا بدر الديب في مقدمته التاريخية، هؤلاء الفرحون لم يدركوا أن صلاح عبد الصبور كتب قصيدة »سأقتلك»، و»مرتفع أبدا» و»الشهيد» في ديوانه الأول، وجاءت هذه القصائد مواكبة للعدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، وكانت القصائد شديدة الحماسة بطريقة صلاح عبد الصبور الذي لم يكن اهتّافا»، ولا »راقصا» في مهرجان السلطات، وهذه القصائد الثلاث، بالإضافة إلي قصيدة »شنق زهران»، والتي كتبها في الأجواء نفسها، كانت تمجّد بطولة المنتصرين الحقيقيين، ولو قارناها بقصائد شعراء عصره، سندرك علي الفور القاعدة التي كانت تنطلق منها قصائد عبد الصبور، ومثال علي ذلك قصائد نزار قباني الهتافية، والتي حملت عنوان »رسالة إلي جندي في بورسعيد». ففي قصيدة »مرتفع أبدا»، كان عبد الصبور يمجّد »العلم»، وكتب تنويها نثريا يقول: »رفع العلم المصري علي مبني البحرية في بور سعيد يونيو سنة 1956»، وبدأها قائلا: لترتفع ، لترتفع ، يا أيها المجيد يا أجمل الأشياء في عينيّ، أنت ياخفاق يا أيها العظيم، يامحبوب، يارفيع، يامهيب يا كل شيء كان في الحياة أو يكون يا علمي ، يا علم الحرية... وتمضي القصيدة في تمجيد العلم والحرية وكل المعاني النبيلة التي أوحتها اللحظة. ويظل عبد الصبور يستدعي أمجاد المصريين في شعرية كانت جديدة علي المناخ الذي كان سائدا. وفي قصيدته »الشهيد» يقول: ياعجبا! كل مساء موعدي مع المضرّج الشهيد كأن منديل الشفق.. دمه كأن مدرج الهلال كفّه ومعصمه كأن ظلمة المساء معطفه وبدره السنا أزرار سترته كأنه مسافر علي جواد الليل مشرقا ومغربا كل مساء.. بلا ملال يهيج في قلبي الليّاع والشجي لأن بين مقلتيه جرحا ما يزال.. والقصيدة كلها تستدعي مفردات وأفكار شعرية بديعة، ومشاعر راقية ونبيلة، وحتي قصيدة »شنق زهران»، التي كتبها في ظل مناخات العدوان الثلاثي، جاءت في تمجيد بطولة أحد فرسان مصر الخالدين، وهذه الكتابة الشعرية، اختلفت عن شعراء كانوا يمجدون الحاكم شخصيا، ويضعون اسم الحاكم عنوانا للقصيدة، وأبرز هذه القصائد التي شاعت كثيرا، قصيدة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، تلك القصيدة التي كتبها في الأجواء والمناخات نفسها التي ظللت زميله صلاح عبد الصبور، ففي قصيدة حجازي التي اختار عنوانا لها »عبد الناصر»، يقول فيها: فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا أشاهد الزعيم يجمع العرب ويهتف »الحرية.. العدالة.. السلام» فتلمع الدموع في تقاطع الكلام وتختفي وراءه الحوائط الحجر حتي العمودان الرخاميان يضمران، والشرفات تختفي ليظهر الإنسان فوق قمة الكمان، ويفتح الكوي لصبحنا ياشعراء يامؤرخي الزمان فلتكتبوا عن شاعر كان هنا في عهد عبد الناصر العظيم!! يوليو 1956 وأنا هنا لا أمدح ولا أقدح، بل إنني أرصد فقط المنحي الذي كان يسير فيه عبد الصبور، والمنحي الآخر الذي سار فيه غالبية شعراء المرحلة، منهم شعراء عرب مثل عبد الوهاب البياتي ونزار قباني ومحمد الفيتوري، وكذلك شعراء مصريون آخرون مثل حسن فتح الباب وفؤاد حداد وطبعا صلاح جاهين وغيرهم. في أجواء 1956 لم يكن الشاعر الشاب المجدد والمرموق والطليعي فقط، بل أصبح كاتبا صحفيا وناقدا أدبيا يشار إليه بالبنان، فاستكتبه أحمد بهاء الدين في مجلة »صباح الخير»، التي صدر عددها الأول في 12 يناير 1956، ومن المعروف أن بهاء الدين كان يختار كتّاب المجلة وفنانيها وصحفييها بعناية فائقة، فضمت في أعدادها الأولي كتّابا وفنانين من طراز صلاح جاهين وحسن فؤاد وأحمد عباس صالح ومحمد عودة وحجازي الرسام وغيرهم، وشارك عبد الصبور في تدشين باب »عصير الكتب» مع كتّاب آخرين، وفي تلك الفترة كان يكتب مقدمات لشعراء جدد، ويكتب أشعارا لمسرحيات مترجمة، وكتب مقدمة لديوان »الآلهة والبشر» للشاعر إبراهيم حمادة، وهو ديوان سياسي جاء علي غرار قصيدة »من أب مصري إلي الرئيس ترومان»، وانطوي ديوان حمادة علي قصيدتين طويلتين، الأولي عنوانها »أتعرف أنت أمريكا»، والثانية »السلام لبور سعيد»، ولم ينجرف عبد الصبور في مقدمته لإطراء الطابع الهتافي الذي جاء في القصيدتين، بل راح ليكتشف تيمات فنيّة في القصائد. حاول عبد الصبور أن يفصل دوما بين الشعر والسياسة، فلا يهتف في الشعر، ولا يدنّسه بمديح السلاطين، ولا هجاء المردة، ولم نضبطه شعريا يمدح بإفراط، أو يهجو بإغراق، كان شعره ومسرحه أسئلة متتالية يطرحها في الحياة الثقافية، أسئلة فلسفية ووجودية، وربما سياسية كذلك، لكنها شعر في الأساس، ولكنه في السياسة كان يقول كل ما يريد ومايراد منه كذلك، والأصوب أنه كان يكتب قناعاته التي يدركها، فعندما تتعرض البلاد لأخطار جسيمة كان يشرع بمعوله الفكري في تحطيم الخرافات والأساطير المعادية، كذلك كان يعمل علي تمجيد رموز تاريخية مشرقة ومضيئة، ومن ثم جاء كتابه »قصة الضمير المصري»، والذي أبدع فيه إبداعا كبيرا وعميقا ومسئولا، فكتب واكتشف وأضاء مساحات كانت شبه مجهولة حول الشيخ العطار وجمال الدين الأفغاني وعبدالله النديم، وغيرهم، كذلك كتب عن تطور ونشأة المسرح في مصر، وأشاع واكتشف قصصا كانت مخبوءة، أو مستبعدة. وفي ظل هذه الكتابات التي كانت بعيدة عن الشعر تماما، كنا ندرك الانحياز الواضح لصلاح عبد الصبور للسلطة الناصرية، والقومية العربية، والثقافة المصرية البعيدة عن العنصرية التي تصعد علي السطح بين الحين والآخر، وفي هذا الشأن كتب كتابا لم ينتشر كثيرا، وهو كتاب »أفكار قومية»، والذي ناصر فيه السلطة بشكل واضح، وهو لم يخف ذلك، فهي كانت قناعاته، ربما كان يذهب مذهبا آخر في الشعر، وربما يكون المسرح »بين بين»، لكنه كان في كل ذلك يشكل منظومة فكرية شعرية فنية عاشها غالبية أبناء جيله بطرق مختلفة، وعلي عكس ما كان الشعر »غير هتّاف»، كان النثر »هتافا متواصلا»، يقول مواطئ أقدامهم، وأخذنا نحاول أن نقيم لنا فلسفة فكرية عربية معاصرة، تستمد أصولها من تاريخنا وتراثنا وفي نفس الوقت تقف أمام التيارات العالمية، وفي محاولتها حل مشاكل العصر، والتخطيط لمستقبله. وفي هذا الكتاب كتب مقالا تحت عنوان »العناصر الثلاثية للأيديولوجية العربية»، واعتبر أن الإنسان والزمان والأرض هي المكونات الأساسية التي تشكل الأيدلوجية العربية، ولا أعرف لماذا ذكر عبد الصبور النظرية الماركسية في بداية مقاله، ولكنه أسهب قليلا في بعض توجهاتها، ولكنه راح يفنّد أفكاره العديدة، وربما جاء ذكره للنظرية الماركسية في مجال التعريض بها، حيث كان العداء منصوبا علي أشده بين الشيوعيين والسلطة الناصرية، وشارك كتاب كثيرون في تعميق ذلك العداء، وللأسف لم ينج عبد الصبور من ذلك الفخ، فعندما وقع الخلاف بين عبد الكريم قاسم وجمال عبد الناصر في نهايات عام 1958، راح الكثيرون يهاجمون قاسما وسلطته، كتب عبد الصبور مقالا تحت عنوان »الشيوعيون.. لم يتخلوا عن المطالبة بالوزارة»، ونشر في مجلة »صباح الخير» بتاريخ 4 يونيو 1959، أي في ظل الملاحقة الشرسة التي كان النظام المصري يشنها في مواجهة الشيوعيين، وحدثت أكبر تجريدة اعتقالية لهم، وكان المقال وسلسلة أخري من مقالات تؤجج عناصر الخلاف وتعمقه بين الشيوعيين والسلطة، وشن عبد الصبور هجوما كاسحا ضد الشيوعيين العراقيين، الذين لا يختلفون كثيرا عن الشيوعيين المصريين، ولذلك أصبح رصيد صلاح عبد الصبور سلبيا عند الشيوعيين المصريين في كل مراحل حياته، وهذا يعود للخبث السياسي الذي كانت تنصبه السلطة كفخ في مسيرة صلاح عبد الصبور. إذن كان صلاح عبد الصبور ينتصر للسلطة السياسية في كتاباته الفكرية، ولكنه كان في كتاباته الفنية يطالب بالعدل والحرية، ويبثّ فيها كل أشواقه المفقودة في نثره، وربما يكون مسرحه عرّج بشكل أوضح من شعره علي القضايا السياسية، وهذا وضح بشكل أكثر نصاعة في مسرحيته »بعد أن يموت الملك»، والتي نشرت في بيروت عام 1973، وتم عرضها في المسرح القومي عام 1974، والتي يكتب عنها الناقد فؤاد دوارة، ويعتبرها امتدادا لقصيدة »هل عاد ذو الوجه الكئيب»، بل قال فيها ما لم يستطع أن يقوله في القصيدة، وأنا أري أن هذا التأويل يكاد يكون مفرطا، لأن المسرحية جاءت في شكل هزلي مأساوي، يدين فيه الشاعر معظم الذين شاركوا في تمجيد الملك، وإن لم تخل من إدانة العهد الناصري بشكل ما، وكتب عبد الصبور كلمة في مقدمة العرض الذي جاء في مارس 1974، ولم ترد في الكتاب المنشور قال فيها: »لكل عمل فني كلمة يقولها.. والكلمة التي تقولها هذه المسرحية منطلقة واضحة كالحقيقة، وهي قد استمدت انطلاقها ووضوحها من اللحظة التاريخية التي كتبت فيها، فقد كتبت هذه المسرحية في أواخر عام 1971، وهاهي تعرض الآن، ورغم كثرة ما تثيره هذه المسرحية من قضايا، فإن هناك قضية رئيسية ، وهي طغيان الفرد، الذي يوشك أن يكون اغتصابا للحياة، وقضاء علي كل أمل في تجددها وخصوبتها ، لا يكتفي هذا الطغيان حين يهوي بأن يسلم أنفاسه للتاريخ، ولكنه يطمع أن يأخذ معه في قبره كل معاني الخير والحب والتجدد، والخلاص هو اقتران الكلمة والقوة، والرأي والفعل الحرية والحب الخصب.» ويؤكد فؤاد دوارة أن النص عن جمال عبد الناصر، واللحظة التاريخية هي التي جاءت بعد ما أسماه كثيرون »ثورة التصحيح»، والذي قرأ المسرحية سيكتشف أن الشاعر يدين المؤرخ والشاعر والقاضي وكل عناصر الدولة التي ساهمت في السنوات الماضية التي دشنت السلطة ، وجدير بالذكر أن هناك شواهد كثيرة ومغرية للمقارنة بين عهد يوليو والمسرحية. وربما يكون تأويل فؤاد دوارة »مع إفراطه»، صحيحا بعض الشيء، فمنذ أن أطلق الرئيس المؤمن محمد أنور السادات رصاصه نحو العصر الناصري، وفي قلب سلفه جمال عبد الناصر، أطلق الكتاب والمبدعون رصاصاتهم، وكتب توفيق الحكيم »عودة الوعي»، وأدان فيه العصر الناصري كله، واعتبر نفسه شريكا في ذلك العصر بشكل ما، وهناك كثيرون هاجموا توفيق الحكيم في كتب كاملة مثل محمد عودة وحسنين كروم، بينما دعت مجلة الطليعة لفتح حوار كامل علي مدي تسعة أشهر مع الحكيم، ودعت فيه كل أطياف اليسار. ونشر كثيرون مذكراتهم لإدانة العصر، منهم الشيوعيون مثل فتحي عبد الفتاح، الذي نشر كتابه »شيوعيون وناصريون» الذي نشره في مؤسسة روز اليوسف عام 1975، ومدح فيه السادات بشكل واضح، وإن كان حذف تلك المقدمة التي محت السادات، ولكن عام 1985، أي بعد رحيل السادات بأربعة أعوام، وانتشرت مذكرات الشيوعيين وجماعة الإخوان والوفديين القدامي، وجاء فيلم »الكرنك»، الذي عمل فيه المخرج علي بدرخان علي »حشر» ثورة التصحيح 15 مايو في الفيلم، رغم أن ذلك لم يأت في النص الأصلي للرواية. إذن المسرحية جاءت في ظل تلك المظاهرة الطويلة العريضة ضد عصر بكامله، ومن المدهش أن يقع النص الأصلي الذي كان بحوزة »الرقابة علي المصنفات الفنيية»، ولم يتم الاعتراض علي بعض أجزاء في النص إلا ما يخص عبارات جنسية، أو المعاني العاطفية المكشوفة مثلما كانت تتوله بعض نساء الملك له في رقصات، عندما تقول إحداهن: »الملك: كالكأس المقلوبة يتدور صدرك.. المرأة : مولاي .. ائذن والمسه في خلوه يتصبب خمرا حتي تبتل أناملك الحلوه أو يسعي مزهوا في نعمة عينين حتي يندي في زهرة شفتيكب أو عندما يقول الملك: »فخذاك عمودان يقودان إلي النبع المكنون المستغرق في سبحات تأمل ذاته في باطن مرآته» ندرك أن الرقابة، أو التوجه السياسي لها، لا يعترض علي كل المؤاخذات السياسية التي لا تخفي علي قارئ للمسرحية أو للمشاهد لها، ولكنه يعترض طوال المسرحية علي ما علق ببعض العبارات من روائح عاطفية أو خليعة كما يراها. ومن ثم لم ينس الشيوعيون أو اليساريون بعض ثاراتهم مع عبد الصبور، ولأن السلطة ذاتها كانت تصنع الفخاخ تلو الفخاخ في الحياة الثقافية، فقد تم تعيين صلاح عبد الصبور في واقعة مدهشة وغريبة، رئيسا لتحرير مجلة »الكاتب» بعد الاستغناء عن طاقم تحريرها كله، وهنا رضي صلاح عبد الصبور بصفته موظفا في الهيئة المصرية العامة للكتاب، واستضافت مجلة الطليعة أسرة تحرير المجلة المقالين، ونشروا بيانا ناريا ضد صلاح عبد الصبور، وقع عليه شعراء ثلاثة، هم محمد يوسف ومحمد محمد الشهاوي وحسن النجار، وأعربوا عن رفضهم لتصرف صلاح عبد الصبور، ونشره لقصائد لهم في المجلة، والأكثر إدهاشا أن هؤلاء الشعراء أنكروا - فيما بعد - علاقتهم بهذا البيان، وأعادوا نشر قصائد لهم فيما بعد بطرائقهم الخاصة. أما الحدث الآخر، هو وصول الشاعر الكبير إلي المنصب الكبير، إذ أصبح الشاعر رئيسا لأكبر مؤسسة ثقافية في مصر، وهي »الهيئة المصرية العامة للكتاب»، وبالتالي كانت الدولة تحاول محاولات مستميتة لتمرير إشراك دولة إسرائيل في معرض الكتاب، وبالفعل شاركت إسرائيل في معرض يناير 1981، وقامت مظاهرات حاشدة آنذاك للشباب الرافض لهذا التطبيع الجارح لكل المثقفين، وبالتأكيد أنه حدث لا يخص صلاح عبدالصبور، ولكنه يخص رغبة الدولة المصرية التي يعمل فيها صلاح عبدالصبور، ومن هنا أدان كثير من المثقفين صلاح عبدالصبور الذي وقع في الفخ تماما، ومن المعلوم أن واجهه أحد الفنانين ذات سهرة حاشدة، وقال له الجملة الشهيرة »انت بعت يا صلاح»، ولم يحتمل صلاح ولا قلبه ولا روحه، ولا تاريخه، ولا ثقافته، تلك المعايرة الرخيصة، فرحل الشاعر النبيل علي مذبح السياسة البغيض.