القادة فى قمة الناتو فى بروكسل في الفترة التي سبقت القمة الأخيرة لحلف شمال الأطلسي "الناتو" والاجتماع الذي عقد بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، لم يتمكن القادة الأوروبيون من إخفاء قلقهم، وفي الأسابيع الأخيرة، ذهب ترامب في حرب كلامية ضد حلفاء أمريكا الكبار. وخلال يونيو الماضي، ادعي أن الاتحاد الأوروبي أنشئ للاستفادة من الولاياتالمتحدة. في وقت سابق من هذا الشهر، هاجم ترامب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي كانت تواجه تمرداً بشأن سياسة الهجرة ما يهدد بزعزعة استقرار ائتلافها الحاكم. في هذا الإطار كشفت تقارير إعلامية أمريكية عن أن ترامب طلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مغادرة الاتحاد الأوروبي مقابل عقد صفقة تجارية ثنائية أفضل مع الولاياتالمتحدة وذلك أثناء القمة التي جمعتهما في البيت الأبيض في أبريل الماضي. وجاءت هذه الهجمات الأخيرة في أعقاب رفض ترامب الانضمام إلي البيان المشترك لمجموعة السبعة، وفرض تعريفة أمريكية جديدة علي الصلب والألومينيوم من حلفاء واشنطن، بالإضافة إلي اقتراحه بإعادة روسيا إلي مجموعة الدول السبع. وعشية الاجتماع مع الرئيس بوتين، وصف الرئيس الأمريكي الاتحاد الأوروبي بأنه "عدو"؛ الرسالة تبدو واضحة: "أمريكا أولاً" وفقاً لما نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية. وتعكس الخروقات الأخيرة ليس فقط التصدع المتنامي بين الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية، بل أيضاً واقعاً جديداً بأن أوروبا، المقسمة داخلياً، تخسر الوكالة علي المسرح العالمي، وأن إدارة ترامب في حالة استغلال دائم لهذا الضعف وتعمل كمفترس أكثر من كونها شريكا. وبينما تتنافس القوي العظمي علي النفوذ في جميع أنحاء العالم، ستصبح أوروبا، مثل الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية ، ساحة لمعركة أخري. وفي خطاب ألقاه مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أوروبا وأوراسيا، "ويس ميتشيل"، في "مؤسسة التراث" في يونيو الماضي كشف النقاب عن استراتيجية الإدارة التي طال انتظارها نحو القارة العجوز، وصرح بشكل مباشر قائلاً "أوروبا مكان لا يقبل الجدل كمنافسة جيوسياسية خطيرة، وعلينا أن نأخذ هذه الحقيقة علي محمل الجد". وكانت الرسالة الرئيسة في كلمته حول الجوانب الاستراتيجية هي أن الولاياتالمتحدة تنظر إلي أوروبا من خلال المنافسة الاستراتيجية بين الحضارة الغربية وبين البديل الروسي الصيني. وقد أعلن ميتشل بشكل فعلي جانباً محورياً في سياسة واشنطن إزاء أوروبا بعيداً عن أوروبا الغربية ونحو الشرق والجنوب، وفي حقيقة الأمر فقد انتقد ميتشل دول أوروبا الغربية بسبب فشلها في النظر إلي المنافسة الاستراتيجية بصورة جدية. وتعتمد الدول الأوروبية علي الالتزام الأمني من قبل الولاياتالمتحدة؛ ومع ذهاب الأخيرة وتعرض الأولي للخطر، ستحتاج أوروبا إلي توحيد الصفوف في الداخل والقيام ببعض المناورات الدبلوماسية في الخارج إذا أرادت الحفاظ علي مصالحها علي المسرح العالمي. وبالنسبة لأوروبا، فإن العيش في عصر جديد من منافسة القوة العظمي لا يتعلق فقط بإدارة الرئيس الأمريكي ومحاولة التنبؤ بقراراته غير المتوقعة ورفضه للتحالفات متعددة الأطراف، وإنما هي مسألة بقاء. وخلال وقت قصير، بدأ ترامب في إبعاد سياسة بلاده الخارجية، التي عززت التكامل الأوروبي باعتباره عاملاً مهماً لأمن الولاياتالمتحدة. والآن مع سعي واشنطن إلي المنافسة في أوروبا بدلاً من الشراكة، فإنها ستحاول انتشال الدول الأوروبية من خلال إبرام صفقات تجارية ثنائية، مثل صفقة ترامب مع ماكرون. وكما أوضح خبير العلاقات الدولية "توماس رايت"، أن ترامب يمكن أن يستغل مغادرة المملكة المتحدة التكتل العام القادم بدون التوصل إلي اتفاقية للتجارة الحرة بين الطرفين، والضغط عليها للتوقيع علي اتفاقية تجارة حرة مع الولاياتالمتحدة بدلاً من الاتحاد الأوروبي. وفي حال إتمام هذه الخطوة، ستخسر دول الاتحاد الأوروبي الكثير وستعاني أضرارا طويلة الأجل، مشيراً إلي أن الخسائر قد تصل إلي 1.5٪ من الناتج الاقتصادي السنوي لدول الاتحاد الأوروبي. وسوف تمارس الولاياتالمتحدة أكبر قدر من النفوذ والتزامات الدفاع والأمن، للحصول علي صفقات قصيرة الأجل بشأن التجارة. وبالنسبة لعام 2019، تعهد الكونجرس بتخصيص مبلغ 6.3 مليار دولار لما أطلق عليه "مبادرة الردع الأوروبية"، بزيادة قدرها 1.8 مليار دولار عن عام 2018. هذه الأموال، التي تهدف إلي ردع روسيا، وتعزز التواجد العسكري الأمريكي واستعدادها في شرق أوروبا. ولكن في الوقت ذاته، يقوم البنتاجون بتقييم تكاليف التواجد العسكري الأمريكي في ألمانيا والتأثير المحتمل لسحب القوات الأمريكية الموجودة حالياً والبالغ عددها 35 ألف جندي. فهذه الدوافع المتناقضة ظاهرياً تبدو منطقية من وجهة نظر الولاياتالمتحدة المهتمة بتفكيك أوروبا بدلاً من الحفاظ عليها. وعلي الصعيد السياسي، تتحرك الولاياتالمتحدة لتقويض القادة الأوروبيين الذين لا ينتمون إلي الصف. فقد عملت واشنطن علي تقويض المستشارة الألمانية ميركل من خلال تمكين قوي اليمين المتطرف وإشعال نار النقاش حول الهجرة. فيما تتجاهل إدارة ترامب التراجع الديمقراطي في المجر وبولندا، الأمر الذي أدي إلي استياء الاتحاد الأوروبي، الذي يبحث عن طرق لمعاقبة تلك الدول بسبب انتشار سياساتها غير الليبرالية. وقبل ساعات من نشر تغريدته علي تويتر حول أزمة الهجرة في ألمانيا، أجري ترامب اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان"، حيث اتفقا علي الحاجة إلي حماية قوية للحدود الوطنية. ويبدو أن هذه المحادثة دفعت ترامب إلي شن هجوم علي ألمانيا. وفي إطار سعي واشنطن إلي إقامة علاقات ثنائية، تعمل إدارة ترامب علي نشر الانقسامات في المؤسسات متعددة الأطراف الأخري أيضاً، بما في ذلك الناتو ومجموعة الدول الصناعية السبع. ووفقاً للمجلة الأمريكية، يجب علي الأوروبيين أن ينتبهوا لهذا الواقع الجديد؛ فخلال الشهر الماضي فقط، لم يتمكن قادة أوروبا من التأثير علي الولاياتالمتحدة فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية التي تؤثر علي مصالحهم، بداية من التعريفات الجمركية وصولاً إلي الانسحاب الأمريكي من خطة العمل المشتركة الشاملة المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني. والأسوأ من ذلك، أنه علي الرغم من الإعلان عن تدابير لإنقاذ الاتفاق، فإن القادة الأوروبيين لديهم خيارات محدودة لحماية شركاتهم من العقوبات الأمريكية المتجددة علي إيران. وقد أعلنت الشركات الأوروبية الكبري، مثل "أليانز" و"بيجو" و"توتال"، عن انسحابها من إيران. والأكثر من ذلك، فإن إدارة ترامب هددت بفرض عقوبات علي خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" من روسيا إلي ألمانيا، وهي خطوة من شأنها أن تقضي علي المشروع وتحرك قاسٍ من جانب الولاياتالمتحدة، حيث تمتلك شركات الطاقة النمساوية والهولندية والفرنسية والألمانية حصصاً كبيرة. إذا أرادت أوروبا أن تكون جهة فاعلة بدلاً من رقعة شطرنج تتنافس عليها القوي العظمي، يجب علي القادة الأوروبيين تحمل المسؤولية من الدفاع والأمن والارتقاء بنقاط قوتهم الاقتصادية. الاستثمار في الدفاع الأوروبي سوف يصير ضرورة مع انسحاب الولاياتالمتحدة. الجهود الجديدة لقادة دول الاتحاد مثل التعاون الدائم وصندوق الدفاع الأوروبي تحرك في الاتجاه الصحيح لكنهم لا يصلون إلي حد تحقيق الاستقلال العسكري. سوف تثبت أوروبا إذا أصبحت أكثر استقلالاً عسكرياً أنها شريك هام للولايات المتحدة، التي لا تزال بحاجة إلي تعاون أوروبي في محاربة الجماعات الإرهابية مثل الدولة الإسلامية (المعروفة أيضًا باسم داعش). يمكن للدول الطموحة مثل فرنسا أن تلعب دوراً أكثر حزماً في النزاعات الإقليمية مثل الحرب في سوريا، بدلاً من انتظار القيادة الأمريكية. كما يمكن لألمانيا، التي تعد أكبر شريك تجاري لروسيا، أن تستعرض قوتها الاقتصادية لقمع بوتين. ويجب أن تستمر أوروبا في إشراك الولاياتالمتحدة والدفع بمصالحها، ولكن أولاً وقبل أي شيء، عليها أن تنتهز الفرصة لتطوير رؤية لدور أوروبا في العالم.