نستطيع القول أن الثقافة المجتمعية الراهنة، هى نتاج تفاعل حى ومستدام للكثير من العوامل ومن أهمها الثقافة الشعبية المترسخة فى أذهان المتشاركين فى المجتمع. ونتاج الثقافة المكتسبة خلال مسيرة تطور المجتمع ومن خلال التأثير الحكومى بمختلف اتجاهاته المؤسساتية والحزبية والتعليمية، حيث تشكل مثلا المناهج الموحدة لبعض المقررات والموجهة ثقافياً، نوعا من التدخل فى الإتجاه الثقافى المجتمعى والذى سيعطى نتائج مختلفة على قدر التأثير الناتج عنه، لذلك نعتبر أن الإنشغال بالثقافة الشعبية ومنابعها وتأثيراتها وتداخلاتها المعرفية يقودنا إلى البحث عن ماهية الذات الإجتماعية، وإلى البحث عن أجوبة على العديد من الأسئلة مثل: - هل الثقافة الشعبية تنغلق على ذاتها فى دائرة مغلقة وما موقع الانسان منها؟ - وهل الانسان فاعل أو ميت ضمن الدائرة المنغلقة على مكونات مجتمعية مختلفة المناهل الثقافية؟ - وهل هى متجانسة، وكل مكوناتها شعبية فعلاً؟ - والسؤال الأهم هو هل كان تأثير الثقافة الشعبية على الواقع الحالى الثقافى والمجتمعى والسياسى بحالته الإيجابية أم ولد نتائج سلبية، وما علاقة ذلك بالواقع السلطوى وتأثيراته على كل هذه العملية؟ فمجمل هذه الأسئلة والأفكار وغيرها، تمثل نوعاً من الحراك الفكرى والمجتمعى الذى قد يؤدى إلى خلق مفاهيم مجتمعية تصالحية بين كل الفئات التى تتشارك فى المجتمع.. وتمثل نوعا من الرد على الأسباب والظروف التى تولد الأزمات عبر مساحة الطيف المجتمعي، ولتمحيص كل هذه الأسئلة بتفصيل نحتاج إلى دراسة موسعة ليس هنا مجالها، لذلك سنتطرق إلى بعض هذه التساؤلات ببعض الايجاز.. فالمعرفة الثقافية هى فعل جماعى ينتج عن تأثيرات خلفية كبيرة، تتمثل فى الموروث الثقافى والدينى كما يتضح تأثير المؤسسات الحكومية الثقافية والتربوية والتعليمية، بالإضافة إلى الحراك السياسى المتمثل بالأحزاب والجمعيات والنوادى المختلفة.. كما نعتبر أن وعينا بالثقافات الشعبية للمجتمعات الإنسانية يعنى وعينا بقدراتها العقلية والمعرفية، وفى طاقاتها التبادلية، التى تسهم فى تلاقح المعرفة برغبة إيجابية، من خلال مبدأ تقبل الآخر واعتباره مهما فى بناء التكوين الفكرى والثقافى للمجتمع ككل. فالثقافة الشعبية كتعريف لا يمكن حصرها فى سياق محدد ونهائي، انما يمكن مقاربتها فى تعريفات متعددة، وبناء على ذلك يمكننا اعتبارها مجموعة من العناصر التى تشكل ثقافة المجتمع »الحكايا الشعبية، والأمثال والملاحم، والمفاهيم الشعبية والموروثات الدينية، وحتى المفهومات القبلية»، كما يجب أن نميز بين أنواع من الثقافة الشعبية افنية غناء شعبى ورسم شعبي»+ حياتية »طبخ وغيره»، وثقافية »حكايا ومفاهيم وشعر شعبى وزجل وأمثال شعبية»، ومجتمعية »عادات وتقاليد ولباس وغيرها»، وغير ذلك من هذه المكونات التى تشكل بمجملها الثقافة الشعبيةويمكننا إجمال تعريفها كما يقول كلاكهون بأنها انسق تاريخى المنشأ يضم مخططات الحياة الصريحة والضمنية، يشترك فيه جميع افراد قطاع خاص معين»، ونضيف بأنها تراكم للخبرات والمفاهيم والأفكار المكتسبة خلال تراكم زمنى تاريخي، يتأثر بالتدخلات المتعددة الناتجة عن الموروثات بكل أبعادها وعن منظومة الدولة بكل مكوناتها.. لذلك نستطيع أن نقول أن ناتج الثقافة الحالية والمفاهيم المختلفة التى ظهرت على السطح هى نواتج لعدة تأثيرات ومن أهمها: الموروث الدينى بمختلف مكوناته، لأنه قد يفرض شروطا مجتمعية مختلفة حسب درجة التعصب الديني، ففى بعض الأمكنة قد يفرض ثقافة دينية بحتة، تستبعد الأفق الحضارى لفهم الثقافة المنفتحة على ثقافات وفلسفات حضارية أخري، كما نرى عند بعض المجتمعات الدينية المتعصبة، وقد يفهم التراث كحالة منفتحة تساهم فى صقل الثقافة المجتمعية وتؤمن بالتبادل الثقافى كحالة حضارية. ومن التأثيرات الأخرى الموروثات الإجتماعية والسياسية، فمجمل العادات التى توارثتها المجتمعات كإطار عام وعرف أدى إلى قولبة بعض الإتجاهات الثقافية.. ولكن الأهم برأيى هو التأثيرات السلطوية التى حاولت قولبة الأفكار الثقافية فى اتجاهات أيديولوجية أحادية ، لتشكل بديلا للثقافة الشعبية والمجتمعية المكتسبة، وهذه قد تكون حالة إيجابية، عندما تسمح بتعدد المناهل الثقافية المنفتحة ودون التدخل من أى طرف ولصالح أية أيديولوجيا محددة، لكن هذه العملية لم تعط المطلوب، بل أعطت نتائج عكسية، بحيث جعلت الكثير يخرج من هذا الانغلاق الأيديولوجى إلى الاتجاهات الدينية سواء المتطرفة غير المنظمة أو المنظمة، وهذا كان على حساب الانتظام المجتمعى الفعلى المؤسساتى والقانوني. ومن التأثيرات الأخري، وجود إسرائيل كدولة معتدية ومحتلة لقسم من الأرض، وهذا خلق تأزما ثقافيا تمثل فى ردات فعل، ظهرت أحياناً بالحماسية الزائدة والمنفعلة، وغير النابعة من تحليل علمى وإدراكى للواقع، انما من عاطفة ممزوجة باندفاع شعبى غير مدروس، وهذا جعلنا نقع فى نكسات عدة (نكسة حرب حزيران) ونكسات اقتصادية، والتأثير الأخير الذى تم سابقا يتمثل بالإستعمار والذى امتد على فترات مختلفة ايضاً، فالوجه الإيجابى له كان بالتداخل الثقافى والإنفتاح على التعليم، ولكن الأمر الأساسى السلبى كان الشعور بالدونية تجاهه، والذى حاول المستعمر زرعه فى نفوس المواطن، ومحاولة طمس الموروث الثقافى الذاتي، وهذا ولد ثقافة جديدة تعتمد على مقاومة المحتل تمثلت بالأغنية والحكايا، وحتى بالمنتوجات الأدبية. إذن نستطيع القول إن المجتمعات العربية والسورية ضمنها، لم تتح لها إمكانية تشكيل ثقافة جديدة حيادية تعتمد على الانفتاح على الآخر دون الانغلاق الأيديولوجى إلى جهة محددة سياسية أو دينية، وتنهل من عناصر متعددة منفتحة على كل الاتجاهات »غير المتطرفة»، وأن تأثير الثقافة الشعبية على هذه المجتمعات لم يتم بالشكل العفوي، الذى يساهم فى توازن الحالة الثقافية المرتبطة فى تصالح جميع الفئات والمستويات فى نظام مجتمعى يسمو فوق الخلافات الأيديولوجية. بل نعتبر أن انقطاع التأثيرات الفكرية الجديدة عن المجتمع أعطى فجوة كبيرة،استطاعت بعض الأفكار المتطرفة ملأها، كالجماعات الدينية المتطرفة، والبعيدة عن الموروث الثقافى المعتدل وهذا زاد الأزمة.. ويمكنناالقول أن خلق ثقافة جديدة، لا يعنى انقطاعاً عن الثقافة الشعبية، بل يعنى إغناؤها والعمل على تطويرها، بحيث نجعل الفرد يحقق ذاته واكتشافاته الثقافية، من خلال اطر ثقافية مؤسساتية ومجتمعية متعددة الاتجاهات والرؤى المتمثلة فى »الأحزاب والجمعيات الثقافية والنوادى المختلفة»، هكذا نستطيع صقل الثقافة الشعبية ضمن الأطر الفكرية والمعرفية المنفتحة على الآخر،وبمشاركة جميع مكونات المجتمع السياسية والثقافية والمجتمعية. إن عملية رد الاعتبار إلى الثقافة الشعبية ودورها فى بناء المجتمع، يحتاج إلى فهم جديد لها من خلال توظيفها ديناميكياً تفاعلياً، وذلك بإدماجها فى التصورات الثقافية والفلسفية، دون إهدار لأى مفهوم منفتح شعبى متعلق بها. فالاحتفالات الفئوية مثلاً، يمكن أن تفتح لكل المنظومات الاجتماعية الأخري، وكذلك عملية التخلص من الأقوال والموروثات التى تستلب العقل الفردي، وحرية الانفتاح على الغير، وتضعف الأسلوب الابتكارى والإبداعي، وهكذا يمكن تعزيز عملية الاعتماد على الذات، وابعاد الإتكالية المفرطة فكرياً. ومن الإجراءات الهامة والتى نعتبرها ضرورية لإغناء الحالة الثقافية المجتمعية، هدم الفهم المنغلق للموروثات ذات الأبعاد التعصبية والانغلاقية، وبناء مفاهيم منفتحة تشجع الانفتاح على العقل الأخروي، والانفتاح على الفنون التى تخلق ترابط مبنى على الحالة التفاؤلية للعقل الجمعى العام. وبالتالى فان استنهاض أليات التلقى التفاعلى العفوي، كنوع من الفلسفة الجماهيرية العفوية، يضبط ممارسات الانسان الشفافة والمجتمعية على ايقاعات المساهمة الفعالة فى الخدمة العامة والانفتاح على الأجواء التفاؤلية والتعاونية، وهذه الفلسفة الشعبية العفوية التى نقصدها، هى مزيج من الثقافة الشعبية والأخلاق والدين الشعبى المنفتح، والاحساس بالمسؤولية والحرية التى تعطى الدافع للإبداع فى مختلف مجالاته، وهذا يتطلب قراءة جديدة لدور الثقافة الشعبية للهروب من الاستلاب الجماهيرى الذى قد يؤدى إلى نشوء بوادر أزمة حقيقية. إذا لا بد من قراءة متأنية ومشاركة مجتمعية فعالة فى تكوين بؤر ثقافية منفتحة، تقوم بقراءة كل الموروثات الثقافية من خلال نوادى وجمعيات وآليات مدنية تساهم فى خلق حراك ثقافى، يكون ديناميكى منفتح على كل التجاذبات والآراء دون استلاب أيديولوجى وحيد الاتجاه.. فانحدار الثقافة الشعبية نحو القبلية والفئوية، هو استلاب للمجتمع واقصاء للحالة المدنية المؤسساتية الفاعلة، من هنا ندعو إلى فهم جديد للثقافة الشعبية، تكون متفاعلة مع المفاهيم الحضارية الجامعة لكل عناصر التكوين المجتمعى للدولة، دون إقصاء لأى مجموعة مهما صغرت. وهذا الصهر المرتقب يحمى المجتمع من التطرف المتعدد المنابع، والذى قد يشكل لبنة لانطلاق المجتمع نحو الأفاق الحضارية، وبالتالى تقليص وجود أسباب أزمة مجتمعية.