وهكذا فإن مجرد استيقاظنا من النوم، وأن الله سبحانه وتعالي رد علينا أرواحنا، هذا الرد يستوجب الحمد، فإذا قمنا من فرشنا فالله سبحانه وتعالي هو الذي يعطينا القدرة علي الحركة ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم.. وهذا يستوجب الحمد.. فإذا تناولنا إفطارنا فالله هيأ لنا طعاما من فضله، فهو الذي خلقه، وهو الذي أنبته، وهو الذي رزقنا به، وهذا يستوجب الحمد. فإذا نزلنا إلي الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلي مقر أعمالنا وسخره لنا، سواء أكنا نملك سيارة أو نستخدم وسائل المواصلات، فله الحمد، وإذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالي هو الذي أعطي ألسنتنا القدرة علي النطق ولو شاء لجعلها خرساء لا تنطق.. وهذا يستوجب الحماء، فإذا ذهبنا إلي أعمالنا، فالله يسر لنا عملا نرتزق منه لنأكل حلالا.. وهذا يستوجب الحمد. وإذا عدنا إلي بيوتنا فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا وهذا يستوجب الحمد. إذن، فكل حركة حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد.. ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامدا دائما.. بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله علي أي مكروه أصابه، لأنه قد يكون الشيء الذي يعتبره شرا هو عين الخير، فالله تعالي يقول: »يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كر هتموهن فعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» (النساء 19). إذن: فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير.. سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك.. لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالي يعلم. وهكذا من موجبات الحمد أن تقول: الحمد لله علي كل ما يحدث لك في دنياك، فأنت بذلك ترد الأمر إلي الله الذي خلقك. فهو أعلم بما هو خير لك. فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين.. لماذا قال الله سبحانه وتعالي رب العالمين؟ نقول: إن »الحمد لله» تعني حمد الألوهية، فكلمة (الله) تعني المعبود بحق.. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده.. فكأن الحمد أولا لله.. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله علي إيجادنا من عدم وإمدادنا من عدم. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس.. لكن التكليف يكون شاقا علي بعض الناس.. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة.. لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل.. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم.. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. إذن: فالنعمة الأولي هي أن المعبود أبلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين. وفي الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن.. والذين يدخلون في عطاء الألوهية هم المؤمنون.. أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع.. ونحن نحمد الله علي عطاء ألوهيته، ونحمد الله علي عطاء ربوبيته، لأنه هو الذي خلق، ولأنه رب العالمين.. الكون كله لا يخرج عن حكمه.. فليطمئن الناس في النادي أن النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبية. فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول: لن أشرق، ولا النجوم تستطيع أن تصطدم ببعضها البعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع... ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا. إذن: فالله سبحانه وتعالي يريد أن يطمئن عباده أنه رب لكل ما في الكون فلا تستطيع أي قوي تخدم الإنسان أن تمتنع عن خدمته.. لأن الله سبحانه وتعالي مسيطر علي كونه وعلي كل ما خلق.. إنه رب العالمين وهذه توجب الحمد.. أن يهيئ الله سبحانه وتعالي للإنسان ما يخدمه، بل جعله سيدا في كونه.. ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يخاف الغد.